يتفق الاحتلال الإنجليزي مع الاستبداد الوطني على أكذوبة واحدة ذات وجهين مختلفين لكن جوهرها واحد، فقد كانت وجهة نظر الاحتلال أن المصريين غير جاهزين للاستقلال، وكانت ومازالت وجهة نظر الاستبداد الوطني أن المصريين غير جاهزين للديمقراطية.

لماذا هي أكذوبة في الحالتين؟

هي أكذوبة في الحالتين،  لأن الواقع التاريخي على الأرض، كان ومازال، يشهد بنقيض ذلك.

– أولاً : عندما انتصر الغزو العسكري، ودخل الاحتلال القاهرة في منتصف سبتمبر ١٨٨٢ م، وجدها عاصمةً لواحدة من أكثر شعوب الأرض تنوراً وتحضُّراً في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فيها طبقة سياسية حديثة من طراز رفيع من ذوات (أتراك وشركس) وأعيان مصريين (كبار ملاك وعمد ومشايخ بلاد) وعسكريين، وبيروقراطيين محترفين في دولاب الدولة، و مثقفين وصحفيين وكتاب وخطباء ومتعلمين يجمعون بين الثقافتين الشرقية والغربية، ويكفي دليلاً علي ذلك كله أن مصر في ذاك الوقت كان يصدر فيها عدة صحف يومية، وهذه الصحف لن تُكتب من الفراغ ولن يقرأها مجهولون، فحتماً كان لها صفوة تكتبها، وكان لها جماهير تقرأها، وكان لها قضايا عامة تثيرها وتنشغل بها وتثير الجدل حولها، وذاك كله له معنى واضح هو؛ وجود رأي عام، ومجال عام، ونقاش عام، وقضايا عامة، يعني وجود حياة سياسية ظاهرة وناضجة بمعايير القرن التاسع عشر سواء في أوروبا أو في غير أوروبا من مشرق العالم ومغربه.

لم يجد الاحتلال عاصمة البلاد زاخرةً فقط بهذه الطبقة السياسية والثقافية والفكرية ذات الطراز الرفيع، ولكنه وجد هذه العاصمة وهذه الطبقة مركزا وقيادة لروح عصرية متوثبة تسري في أوصال البلد بأكمله من الإسكندرية إلي أسوان وبمختلف طبقاته وفئاته دون استثناء تنشد الدستور الذي يقيد سلطة الحاكم الفرد، وتنشد البرلمان الذي يثبت حق الأمة في حكم نفسها.

جاء الاحتلال ومصر فيها برلمان حديث بدأ منحة من الحاكم وانتهي حقاً مكتسباً للأمة، وفيها وزارة حديثة علي النمط الأوروبي القصد منها غل يد الحاكم عن مباشرة السلطة التنفيذية بما يتبادر على باله ومزاجه وخاطره من نزوات ورغبات وأهواء متقلبة متغيرة.

الاحتلال البريطاني لمصر
الاحتلال البريطاني لمصر

جاء الاحتلال الإنجليزي إلى مصر وقد تغيرت – رأساً على عقب – عن مصر التي كانت قبل ذلك بتسعة عقود عندما سبقهم إليها الاحتلال الفرنسي قصير العمر والأجل عند خاتمة القرن الثامن عشر، الفرنسيون وجدوا مصر البكوات، وهي الطبعة الأخيرة من مصر المماليك، التي دامت تحت أشكال مختلفة، على مدى ستة قرون من الزمان، من مطلع القرن الثالث عشر، حتى مطلع القرن التاسع عشر حيث حصدهم محمد علي ووضع نهاية حاسمةً لدورهم في حكم وتاريخ مصر علي السواء.

بين زوال حكم المماليك في مطلع القرن التاسع عشر ومجيء الاحتلال الإنجليزي في الربع الأخير منه، كان قد تبلور – علي وجه اليقين – مستجدان عظيمان لا سابقة لهما في التاريخ:

– أولهما: الدولة المصرية الحديثة، وفيها انتقل الاقتصاد من نموذج الإقطاع المملوكي إلى رأسمالية الدولة، فهي تملك وتزرع وتصنع وتتاجر، مثلما تحارب، فقد احتكرت كافة جوانب الإنتاج، مثلما احتكرت القوة وحق استخدام السلاح، فاختفت الصراعات المسلحة بين المماليك، واختفت تعدد مراكز الولاء السياسي داخل الدولة، بما بسط الطريق أمام تأسيس دولة مركزية معاصرة هي التي نعيش في إطارها حتى اليوم والغد، وانتقل نموذج الحكم إلى الاقتباس من أوروبا، ولأول مرة منذ دخل الإسلام مصر تتيقن الدولة أن نمط التعليم الموروث لا يكفيها لتكوين كوادر التحديث، فبدأت ترسل البعثات الطلابية إلى أوروبا، وتستقدم الخبرات والمعلمين الأوربيين، وتنشيء مؤسسات التعليم على النمط الأوربي.

التحديث علي النمط الأوروبي كان قد بدأ في عصر بكوات المماليك في النصف الأخير من القرن الثامن عشر، لكنه كان يقتصر علي بعدين اثنين فقط: التجارة مع أوروبا بما انعكس على تكييف الزراعة المصرية مع السوق الأوربي، ثم الاتجاه إلى الاعتماد على السلاح الأوروبي في تجهيز القدرات العسكرية للمماليك، هذا فضلاً عن بعد ثالث تمثل في توزع ولاء وتحالفات المماليك بين الروس والإنجليز والفرنسيين، لكن رغم ذلك التحديث الجزئي يبقي محسوباً لمحمد علي أنه أنجز أسس وقواعد دولة مصرية حديثة على النمط الأوروبي في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

– أما ثانيهما : فقد انعكس تحديث الدولة علي تحديث البشر أنفسهم، فإذا كان النصف الأول من القرن التاسع عشر قد شهد ميلاد الدولة المصرية الحديثة، فإن النصف الثاني من القرن ذاته قد شهد ميلاد شعب مصري حديث، يختلف عن ذاك الشعب الذي حكمه بكوات المماليك، أو غزاه الفرنسيون، أو حكمه محمد علي، ما عليك إلا أن تنظر إلى واقع المصريين عند مطلع القرن التاسع عشر، ثم عند خاتمته، لتدرك حجم الفروق الواسعة، فعند مطلع القرن كنّا مجرد (مصريين) لكن عند خاتمته كنّا (الأمة المصرية).

كنّا مصريين، كجمهرة بشرية مفكوكة ومفروطة، لا يربطها رابط، إلا أنها من رعايا الخليفة أو السلطان العثماني، مثل غيرنا من جمهرة الشوام، أو الحجازيين، أو البغداديين، أو الصرب، أو البلغار، أوما يرد في بالك من رعايا الإمبرطورية العثمانية من جنسيات مختلفة الملل والأعراق.

وكانت مصر هي (الديار المصرية) يعني مجرد محل سكن للمصريين، سكن بمعنى محل إقامة لا أكثر ولا أقل، مثل غيرها من الديار الشامية والديار الحجازية والديار العراقية إلى آخره.

في النصف الثاني من القرن التاسع تبلور مفهوم الشعب الحديث أو الأمة الحديثة، ككيان جماعي موحد ومتماسك ومتناغم وعلى وعي بذاته في مواجهة حكامه سواء من؛ سلالة محمد على، أو من أسيادهم العثمانيين، أو من الأطماع الأوروبية المتنافسة للاستحواذ على مصر .

عندما تحولنا من مجرد (مصريين) إلى الوعي بذاتنا القومية على أننا (شعب مصري واحد) أو (أمة مصرية مستقلة) لم نكرر عند خاتمة القرن ما فعلناه عند مطلعه، لم يعد مستوى طموحنا السياسي أن نطلب من الخليفة العثماني أن يولي الضابط الألباني محمد علي حاكماً علينا، ولم يعد مستوى طموحنا أن نشترط على الحاكم أن يتقي الله فينا وأن يحكمنا بِما أمرت به الشريعة من قسط وعدل، لم يعد ذلك طموح المصريين عند خاتمة القرن، تطور طموحهم إلى حكم الدستور وحق الشعب في مساءلة الحاكم ومراقبته وعزله، وحق الشعب في الحكم عبر مجالس نيابية حقيقية، وحق الشعب في مناقشة ميزانية البلاد وحماية المال العام من سفه الحكام، بل تبلورت في بعض الأذهان فكرتان سابقتان للعصر: فكرة التخلص النهائي من سلالة محمد علي، ثم فكرة تأسيس وإعلان الجمهورية .

الانتقال من مجرد (مصريين) إلى (الشعب المصري) أو (الأمة المصرية) كان يعني الانتقال سنوات ضوئية من عالم بعيد سحيق الي عالم متخلف تماماً.

كان الانتقال باختصار شديد جديد يعني: أن يتحول المصريون من أملاك إلي ملاك، من أملاك للحكام من المماليك والعثمانيين وسلالة محمد علي إلى ملاك لأنفسهم وقرارهم ومصيرهم وبلادهم، وهذا النوع من الملكية هو أصل وفصل وجوهر مفهوم الوطن، فأنت مواطن إذا كنت من ملاك بلدك، بمعني أن لك فيها حقوقاً محفوظة، وإن لك فيها حريات مصونة، وأن لك فيها حرمات شخصية مقدسة لا يجوز لسلطة انتهاكها ولا العدوان عليها، وأن عليك في الوقت ذاته واجبات تجاه هذا الوطن تدفعها من روحك وحياتك ذاتها عبر التجنيد العسكري، كما تدفعها من مالك عبر الضرائب العمومية .

هنا، تحولنا من مصريين مفكوكين ومفروطين ومبعثرين إلى شعب بالمعنى الحديث تربطه قاعدة الحقوق والواجبات، وهنا تحولت مصر من مجرد ديار مصرية إلى وطن للمصريين هم ملاكه وهم حماته، فليسوا أملاكاً وليسوا رعايا لهذا ولا ذاك، وهنا ظهرت للمرة الأولى في تاريخنا مفاهيم المواطن والمواطنة بالمعنى الحديث، كما ظهرت بشائره في دساتير الربع الأخير من القرن التاسع عشر.

بمثلما كان النصف الأول من القرن الـ ١٩ مسرحاً التقى فيه المصريون بفكرة الدولة الحديثة وجهاً لوجه، فإن النصف الثاني منه شهد  – لأول مرة في تاريخنا منذ فقدنا استقلالنا القومي في القرن الخامس قبل الميلاد – ميلاد فكرتين ضخمتين: فكرة الشعب الواحد، وفكرة الوطن المستقل، وهما خلاصة القاعدة الأساسية في نضال المصريين من ثورة العرابيين ١٨٨١ م ، وحتي ثورة يناير ٢٠١١ م، وهذه القاعدة كانت ومازالت تتلخص في كلمتين: (مصر للمصريين) ، فلم يختلف غير اسم ميدان الثورة فقط، كان اسمه ميدان قصر النيل ثم أصبح اسمه ميدان التحرير .

ثورة 25 يناير
ثورة 25 يناير

لماذا هذا تطور غير مسبوق؟

لثلاثة أسباب؛ التعليم، التمليك، التجنيد.

– التعليم مقصود به الاطلاع على كيف يفكر الأوربيون وكيف يديرون مرافقهم العامة من مدارس وجامعات وجيوش وأساطيل وعمران ومدن وري وزراعة وتصنيع وتجارة وجسور وطرق وموسيقي وفنون وآداب إلى آخره، وهذا التعليم غير ليس فقط من العقل والذوق والوجدان المصري، لكن غير من مجموع الإمكانات والقدرات القومية، كما غير من التركيب الطبقي بما أوجد من طبقات متعلمة تعليما أوروبيا، كما غير من بيروقراطية الدولة ذاتها، وبالطبع انعكس على تغيير مجمل الحياة اليومية المعيشة في الواقع العملي .

– التمليك مقصود به إتاحة أصل الثروة في يد المصريين بعد حرمان طويل استغرق أحقاباً طويلة من الزمن، وبالتحديد المقصود هو تمليك الأرض، التي تداول عليها الغزاة والفاتحون من الفرس والإغريق والرومان والعرب والعثمانيون والمماليك حتي محمد علي وسلالته، صحيح أن الاسلام دخل مصر صلحاً، وصحيح أن الفاتحين المسلمين لم ينتزعوا الأرض من يد المصريين، وأقروهم عليها، في مقابل الخراج لغير المسلمين، والعشور لمن يتحول إلى الإسلام، ذلك كله صحيح لكن يلزم الإشارة إلي عدة حقائق:

– الأولى: أن ما كان بيد المصريين من أراض كان هو أقل القليل من أرض مصر القابلة للزراعة والإنتاج، وكانت الأرض بمجملها في يد السلطة الرومانية والأمراء الرومان، وقد آلت بطبيعة الحال من الرومان المنهزمين والفارين إلى الحكام الجدد من المسلمين، وقد أضافت الدولة الإسلامية إلى أملاكها كافة الأراضي غير المنزرعة كذلك وهي ما عرفت في الفقه باسم (الأرض الموات).

– الثانية: صحيح أن الخليفة الراشد – وهو بالفعل راشد وحكيم – لم يعتبر أرض مصر غنيمة حرب، ومن ثم رفض تقسيم أربعة أخماسها علي المقاتلين وخمسها على بيت المال، رفض ذلك واعتبرها أرض (فيء) أي آلت إلى الدولة الإسلامية دون قتال، لكن ذلك لم يمنع خضوع أرض مصر للإقطاع العسكري في العهود التالية، وبالذات في العهدين الأيوبي ثم المملوكي، حيث اقتسم السلطان وأمراء المماليك ما يمكن تسميته أملاك الدولة التي إليها منذ الرومان، وقد ورث العثمانيون هذه الأملاك، ثم وضع محمد علي يده عليها.

– بدأت عملية تاريخية ممتدة لتمليك المصريين بالتدريج في عهود سعيد وإسماعيل وتوفيق وعباس حلمي الثاني، وهذه العملية هي التي أسفرت عن تكوين طبقات الملاك المصريين، التي عرفت باسم طبقة الأعيان، من كبار الملاك ومتوسطيهم وصغارهم، من كبار الباشوات حتي صغار العمد، ممن يمتلكون آلاف الأفدنة إلي من يمتلكون بضع عشرات .

هذه الطبقة من المصريين، تختلف عن الطبقة الأعلى من ترك وشركس والتي كانت الحلقة الأقرب من محمد علي وسلالته، طبعاً مع وجود استثناءات، فقد كان من طبقة الترك والشركس عظماء انحازوا للمصريين وكانوا مكوناً أصيلاً في بدايات بزوغ الحركة الوطنية المصرية، مثلما كان من طبقة كبار الملاك المصريين من انحاز لمصالحه الذاتية ولو تناقضت عموم المصالح الوطنية.

طبقة الملاك المصريين، كانوا شركاء أصلاء في الوطنية المصرية، كانوا كذلك في الثورة العرابية، ثم كانوا كذلك في ثورة ١٩١٩ م، كانوا يعتبرون أنفسهم هم البلد وهم الأمة، وهم الأحق بتمثيلها، ولا يجوز للحكام الانفراد بالسلطان دونهم، كانوا يدورون حول مصالحهم، لكن خدمة مصالحهم – في نهاية المطاف – كانت تعني ابتكار ما لم يكن معروفاً في مصر من قبل وهو (العمل السياسي) وهو أيضاً من ابتكارات المصريين في النصف الثاني من القرن الـ١٩، يعني إتاحة ملعب للحكم والمعارضة والتنافس علي السلطة وفق دساتير وقوانين، هذا العمل السياسي بدأ ديكورا شكلياً من الحكام وبالذات الخديو إسماعيل، لكن هذا الديكور تطور بفعل الواقع وبتأثير الحوادث ليكون حقيقة فعلية علي أرض الواقع.

التمليك جعل للمصريين مصالح، والمصالح تحتاج حماية، والحماية تحتاج سلطة، والسلطة يلزمها شراكة، والشراكة يلزمها ضغط، والضغط يلزمه تكوين تنظيمات وجمعيات وأحزاب وانتخابات وقوانين ودساتير وإذا لزم الأمر يلزمها ثورة، هنا نشأت السياسة الحديثة، وتبلور الشعب الحديثة، وبدونهما ما كان للدولة الحديثة التي أسسها محمد علي معنى ولا مغزى ولا محتوى ولا مضمون، محمد علي صنع الإطار، بينما المصريون صنعوا المحتوي والمضمون .

الثالثة: التجنيد العسكري، سواء تجنيد عساكر أو ضباط، تجنيد العساكر في جيش محمد علي ربط القرية المصرية بالعالم، ثم تجنيد الضباط من أبناء العمد ومشايخ البلاد ومن صغار الملاك في عهد سعيد وضع المصريين في احتكاك تصادمي مع الطبقات الأعلى داخل الجيش من ترك وشركس، هذا الاحتكاك خلق وعياً قومياً غير مسبوق، فقد تبلور الرابط الوطني فوق الرابط العثماني، ولهذا كان هذا الجيل من الضباط المصريين، مثلما كانت  الأجيال الأولى من المتعلمين المصريين، مثلما كانت الأجيال الأولى من الملاك أو الأعيان المصريين، الثلاثة كانوا عماد العمل السياسي الذي تبلور – لأول مرة في التاريخ – في النصف الثاني من القرن ال ١٩ ، وكانت ذروته هي الثورة العرابية.

– الثورة العرابية مثلها مثل حفيدتها ثورة ٢٥ يناير تعرضت لتشويه كبير ، مائة وأربعون عاماً تفصل بينهما، ويربط بينهما السؤالان التاريخيان: ملكية مصر لمن ؟ وحكم مصر لمن؟.

لكن الثورة العرابية كانت تواجه أضخم تحديات يمكن أن تواجه أي ثورة معاصرة، منذ الثورتين الأمريكية ثم الفرنسية، كانت الثورة الأمريكية تواجه الامبراطورية البريطانية، وكانت الثورة الفرنسية تواجه استبداد وفساد وتعفن أسرة البوربون، الثورة العرابية كانت تواجه الخطرين معاً وفي وقت واحد، كانت تواجه أسرة محمد علي، وتواجه الآلة العسكرية البريطانية التي جاءت بخمسين ألف مسلح بدعوى حماية الخديو وحفظ الأمن والاستقرار في مصر .

صحيح أن العرابيين ارتكبوا أخطاء كثيرة، لكن حتى لو لم يرتكبوا أي أخطاء، كان من العسير على أي ثورة أن تنجح في هذه المواجهة المزدوجة، تفرض مطالب الشعب على حكامه ثم ترد الغزاة الإنجليز علي أعقابهم. وغير صحيح أن الثورة العرابية جاءت بالإنجليز وسلمت البلد للاحتلال الأجنبي، فخطة الإنجليز سابقة علي الثورة العربية بقرن من الزمن وحاولوا أكثر من مرة، ثم استدانة الخديو إسماعيل مهدت للغزو العسكري بغزو مدني بريطاني وفرنسي وأوروبي شامل، حتي تشكلت في ١٨٧٨ م وزارة بها وزير إنجليزي للمالية ووزير فرنسي للأشغال، فالاحتلال كان قد حدث من الداخل بالفعل، والغزو كان قد تم من الداخل بالفعل، وجاء الغزو العسكري لوضع اللمسات النهائية على مخطط للسيطرة والاستعمار والهيمنة كان قد نجح بالفعل، وبسياسات خلفاء محمد على، وليس بفعل الثورة العرابية.

عرابي
عرابي

ثم كيف تنجح الثورة العرابية في مواجهة أعتى جيوش الأرض وحاكم البلد (الخديو توفيق) يرحب بهم، والمقربون منه يمهدون لهم الدخول، ويعزل وزير حربيته (أحمد عرابي) ويرسل الأموال ويمنح الوعود لمن يتطوع بالخيانة من الجيش ومن كبار الملاك ومن العربان؟ هذا الحاكم نفسه قرر حل الجيش ذاته بعد دخول الاحتلال عاصمة البلاد وتأكده أنه صار في حماية الإنجليز وليس في حاجة لحماية الجيش الوطني.

لكن يبقي أن المصريين نجحوا بالفعل، ولو تم إجهاض النجاح عبر الغزو الإنجليزي، نجحوا في إملاء إرادتهم في دستور ومجلس نيابي، وإرساء سابقة تثبت قدرتهم علي الوقوف في وجه الحاكم وغل يده عن السلطة المطلقة.

النجاح الكامل والدائم كان يعني المستحيل: عزل الخديو وصد الغزو، وكلاهما بمعايير ذاك الزمان، كان من عاشر المستحيلات، موازين القوة حكمت بما آلت اليه؛ هزيمة الثورة، واستمرار الخديوية، وبدء حقبة ثلاثة أرباع قرن من الاحتلال، وكان النجاح جزئياً ومؤقتاً وقصير الأمد، حتي بدت الثورة كما لوكانت حلماً لذيذاً تبخر في برهة خاطفة .

– تبقى الإشارة إلى عدة مسائل:

– رقم واحد: عرابي لم يكن القائد المثالي، لكنه كان خير تمثيل لعصره، لم يكن عبيطاً ولا أهوج، لكن كان قائد ثورة تم تصنيعه وتجهيزه في سبعة أشهر من فيراير إلى سبتمبر ١٨٨١ م، وبمحض المصادفات، وبحالة ثورية عاصفة أكبر منه وأكبر من كل من شارك فيها، وتقريبا كل البلد شاركت فيها، حالة ثورية أكبر من اللحظة ذاتها، ولولا غزو الإنجليز كان حكم سلالة محمد علي في مهب الريح وهو المصير الذي لم تكن أي قوة دولية آنذاك تسمح به أو تسكت عنه حتي يقع ثم يمر.  ومن البديهي أن من يطلب منه الانتصار على الإنجليز في تلك الظروف هو – بالقطع – لا علم له بموازين القوة، لقد أعطى عرابي ما استحق به حب الناس في عهده، وما استحق به كراهية سلالة محمد علي فأطلقوا عليه حملة تشويه تجرده من كل فضيلة تماماً مثلما حدث ويحدث مع ٢٥ يناير ٢٠١١ م .

– رقم اثنين: الخديو توفيق باستدعاء الإنجليز وترحيبه بهم وحكمه تحت احتلالهم لم يرتكب فعل خيانة ولم يكن خائناً، لكنه كان يمثل حالة من العجز والضعف والهوان والتردد وقلة الحيلة وانعدام الشخصية، تحكمت فيه طبائع لم يكن له منها مفر، فهو ابن نزوة جنسية عابرة جمعت والده الخديو اسماعيل بإحدى جواري القصر وأورثه ذلك إزدراء العائلة الحاكمة وبغض أبيه وهو أيضاً كان يبغضهم ويبغض أباه، ثم جاء إلى الحكم على غير استعداد له إذا كان مُهملاً من أبيه ولم يتلق تعليما مناسباً، ثم بريطانيا وفرنسا عزلتا أباه، وترك له الأب المعزول بلداً مديناً مفلساً تعصف به الثورة ويعبث بِه الأجانب، ويحكم بجهاز دولة مهترئ غير قادر علي توفير المرتبات للموظفين، ثم شاهد بعينه بريطانيا وفرنسا تستصدران فرمان تعيينه من السلطان العثماني، ثم آمن أن بريطانيا هي القادرة على حماية حكمه من الجميع، من منافسيه من العائلة العلوية، ومن الشعب، ومن السلطان، ومن فرنسا، ومن أي خطر محتمل أو متوقع .

– رقم ثلاثة: صحيح أن الثورة العرابية كانت مدنية بقيادة عسكرية، لكن كان الجميع على وعي كاف بأن الجيش كمؤسسة لا دخل له بالحكم أو هكذا ينبغي يكون ولا صلة له – ترتيبا علي ذلك – بمزاولة العمل السياسي، لهذا عندما رفض محمد شريف باشا تشكيل الوزارة حتي لا يقع تحت ضغط العسكريين تكفل له المدنيون بأن ذلك غير وارد وجعلوا من حقه اتخاذ مايراه من الإجراءات لإبعاد العسكريين عن السياسة، وحدث شيء مثل ذلك في المحاورة بين عرابي والخديو توفيق أبان فيها عرابي أنه لا يتحدث بصفته العسكرية وإنما بالإنابة عن المدنيين الذين كلفوه الحديث باسم الأمة أو باسم الشعب.

ثورة 23 يوليو
ثورة 23 يوليو

– رقم أربعة: الثورة العرابية بمفهوم مصر للمصريين كانت مصدر الإلهام لأربعة أجيال متتالية في الحركة الوطنية المصرية، جيل الحزب الوطني مصطفي كامل ومحمد فريد، ثم جيل ثورة ١٩١٩ م سعد زغلول، وهو كان من الأجيال الشابة في الثورة العرابية مع أستاذه الشيخ محمد عبده، ثم جيل ثورة ٢٣ يوليو من الضباط الأحرار، ثم جيل ثورة ٢٥ يناير الذين خرجوا يواجهون الخديوية الجديدة ويطرحون السؤالين الكبيرين: ملكية مصر لمن؟ ثم حكم مصر لمن؟

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

كان هذا عن كذب الاحتلال أن المصريين غير جاهزين للاستقلال، والصحيح أن المصريين قبيل الاحتلال أشعلوا واحدةً من أنبل وأعظم ثورات القرن الـ ١٩ من أجل الاستقلال والدستور والحكم النيابي، والذي أخمدها هو الآلة العسكرية البريطانية في غزو مسلح مكشوف ومباشر. _____________________________________________

أما عن كذب ما بعد الاحتلال وما بعد الاستقلال عن أن المصريين غير جاهزين للديمقراطية فهذا موضوع مقال الأسبوع المقبل بإذن الله.