ترك تكليف الرئيس التونسي قيس سعيد امرأة بتشكيل الحكومة ردود فعل عديدة ومتفاوتة. كما أحدث نوعاً من المباغتة باعتباره قرارًا هو الأول من نوعه في تاريخ تونس والمنطقة العربية.
نجلاء بودن، التي دخلت التاريخ باعتبارها أول رئيسة حكومة عربية، شخصية أكاديمية لم تنخرط في الحياة السياسية. ولا يعرف لها أي نشاط أو انتماء سياسي على الإطلاق. تلك هي الجزئية اللافتة في تكليف الأستاذة الجامعة المولودة في القيروان، نهاية خمسينات القرن الماضي.
كما أن اللافت في هذا التكليف، الذي جاء عقب قرارات 25 يوليو، التي نجم عنها تجميد البرلمان. وذلك في ظل الاستقطابات العنيفة والتقليدية التي تشكلت بين الرئاسة والبرلمان بقيادة زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي. لذلك فإن “بودن” مرشحة بقوة لإنهاء هذا الاستقطاب، والانتقال من مرحلة انتقالية متوترة إلى أخرى مستقرة. تلك المرحلة التي يعتبر مراقبون أن أهم متطلباتها الاعتماد على الشخصيات المستقلة، ومنع التقاطب الحزبي.
نجلاء بودن.. أكاديمية على خطى الرئيس
نجلاء بودن أستاذة تعليم عالي في المدرسة الوطنية للمهندسين في علوم الجيولوجيا. تولت مهمة متابعة وإشراف على خطة لتنفيذ برامج البنك الدولي بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، قبل تكليفها بمهمتها الأخيرة. كما عيّنت مديرة عامة مكلفة بالجودة في وزارة التعليم العالي عام 2011. ووصلت لمنصب رئيسة وحدة تصرف حسب الأهداف بالوزارة ذاتها، وجرى تكليفها بمهمة في ديوان وزير التعليم العالي السابق شهاب بودن سنة 2015.
هكذا في حال نجاح بودن حكوميًا، فستكون قد اقتفت أثر قيس سعيد الذي انتقل من مدرجات الجامعات إلى قصر قرطاج، من دون أي ظهير سياسي. والآن أمام الأكاديمية التونسية فرصة لاقتراح أعضاء حكومتها.
وتتشابه أجزاء من سيرة بودن بالرئيس قيس سعيد. حيث انتقل كل منهما من التدريس الجامعي بعد مسيرة مهنية حافلة والمسؤوليات الإدارية الأخرى إلى العمل السياسي. ومثلما انتقل سعيد إلى قصر قرطاج دون حاضنة سياسية ستنتقل بودن إلى مقر رئاسة الحكومة في القصبة، باستقلالية.
ولم تنخرط بودن في أي اتجاه سياسي كما لم يسجل عنها أي انتماء حزبي أو أيدولوجي. بل كرست حياتها المهنية في تخصصها الجيولوجي بالتعليم العالي. ولذلك، من المرجح أن يخلو الفريق الحكومي من الأحزاب السياسية وتتولى تنفيذ وضبط السياسات العامة.
الأولية لمكافحة الفساد
وقال سعيد في خطاب التكليف، إن تونس أضاعت وقتاً كثيراً، بيد أن الأولوية تتمثل في مكافحة الفساد. ولذلك شدد على أن تكون مقاومة الفساد أولوية الحكومة التي ستواصل عملها حتى نهاية التدابير الاستثنائية.
وتابع سعيد: “العمل معًا على القضاء على الفساد والفوضى التي عمّت الدولة”. وستتولى بودن (63 عامًا) تشكيل حكومة في الأيام القليلة القادمة. وتابع: “سنعمل على مقاومة الفساد ثم الاستجابة لمطالب التونسيين والتونسيات في التعليم والصحة والنقل والحياة الكريمة”.
دعم سياسي لـ”بودن”
وتقلت رئيس الحكومة المكلفة، دعمًا من بعض الأحزاب في الساعات الأولى لتكليفها. من بينها حركة “مشروع تونس”، التي أكدت ضرورة أن “تكون الحكومة المقبلة مصغرة، ويقع اختيار أعضائها بناء على الكفاءة العالية. وذلك حتى تكون قادرة على القيام بالإصلاحات الضرورية لتجاوز الأزمة الاقتصادية بتونس”.
وأشارت الحركة إلى ضرورة التسريع في فتح ملفات الفساد والإرهاب والاغتيالات والتهريب بكل جدية وإحالتها إلى القضاء. وكذلك قرارات محكمة المحاسبات ذات الصلة بالانتخابات والتمويل غير المشروع للأحزاب والانتخابات، وإنفاذ القانون على الجميع دون استثناء. وذلك حتى لا تتواصل سياسة الإفلات من العقاب، ولا تبقى محاربة الفساد مجرد شعارات.
كما أكد الأمين العام للتيار الشعبي محمد زهير حمدي، أن تعيين أول امرأة تونسية على رأس الحكومة، “خطوة مهمة على درب تحقيق مطالب الشعب وضربة أخرى تلقتها منظومة الأخونة والفساد والإرهاب والعمالة”، وفق تعبيره.
التيار الشعبي وحركة “مشروع تونس” يدعمان تكليف نجلاء بودن ويطالبان بإجراءات فورية لملاحقة الفساد وتحقيق التنمية.. بينما ينتظر اتحاد الشغل أداء رئيس الحكومة المكلفة
وقال حمدي في تدوينة نشرها على حسابه بـ”فيسبوك”، إن “رئيسة الحكومة ذات مستوى علمي مرموق وخريجة أكبر المدارس العالمية. ومعروفة بالجدية ونظافة اليد، وهما صفتان مطلوبتان في هذه المرحلة، وكونها امرأة فهذا سبق تونسي محمود ومهم جدا”.
وأضاف: “نتمنى أن يكون كل الفريق الحكومي بنفس الكفاءة والنظافة والأهم هو البرنامج الذي ستعتمده لإخراج البلاد من الأزمة في مرحلة صعبة للغاية في تاريخ تونس”.
اتحاد الشغل “مرتاح” للتكليف وينتظر التنفيذ
كما أبدى الاتحاد العام التونسي للشغل ارتياحه لتكليف شخصية بتشكيل الحكومة “الأمر الذي “يعد مؤشراً إيجابياً في حد ذاته”. واعتبر أن في ذلك رسالة قوية جدًا للمرأة التونسية بأن “تتحمل مسؤولية على رأس الدولة”. وأكد أنه “من المهم اليوم أن تتوفر في رئيسة الحكومة الكفاءة والقدرة على التجميع. وأن تكون لها رؤية وبرنامج اقتصادي واجتماعي للقضايا الشائكة، وعلى ضوء ذلك سنحدد موقفنا من هذا التكليف”.
وكشف عن تطلع الاتحاد إلى أن تكون رئيس الحكومة المكلفة ”شخصية لها القدرة على صياغة تشاركية لبرنامج إنقاذ لهذه المرحلة الصعبة. وعلى تنفيذ الاتفاقات المبرمة”.
سجال متوقع بين حركة النهضة وقيس سعيد
وكما هو متوقع، اعترضت حركة النهضة التي تعاني أزمات تنظيمية داخلية عنيفة على تكليف بودن بتشكيل الحكومة. وقد شهدت النهضة أزمات جمة إثر ظهور انشقاقات في صفوفها، وتحديداً بين قيادات الحزب. بينما أعلنوا عن نواياهم بخصوص تدشين حركة أو حزب جديد، وذلك بعد أن أخفقوا في تجربة الإصلاح الداخلي. وطالبت كتلة حركة النهضة في البرلمان زعيم الحركة ومكتبه للانعقاد، وذلك لاتخاذ الإجراءات الضرورية لعودة البرلمان للعمل.
وأصدرت كتلة النهضة في البرلمان المجمد منذ 25 يوليو الماضي بياًنا أوضحت فيه أن “القرار الرئاسي يعدّ تعطيلاً فعليًا لدستور الجمهورية التونسية ونزوعًا بيّنا نحو الحكم الاستبدادي المطلق وانقلابًا مكتمل الأركان على الشرعية الدستورية وعلى المسار الديمقراطي”.
بيد أن الرئيس قيس سعيد اعتبر قراره جاء وفقاً للأمر الرئاسي 117 لسنة 2021 والمؤرخ، والمتعلق بالتدابير الاستثنائية. لكن النهضة، في بيانها، دانت ما اعتبرته حصرًا للسلطات في قبضة شخص واحد، ينفرد بالسلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية. الأمر الذي يعني فرض خيارات محددة وإلغاء المؤسسات السياسية والرقابية الشرعية القائمة، ومن بينها البرلمان وهيئة مراقبة القوانين ومكافحة الفساد.
وشددت كتلة النهضة، في بيانها، على ضرورة أن تتوحد “جميع الكتل البرلمانية والشخصيات المستقلة والقوى الوطنية لتوحيد الصف. والتعالي عن الخلافات والتجاذبات السياسية للدفاع عن قيم الجمهورية والديمقراطية. وحماية البلاد من أخطار الانقسام المجتمعي والمهدد للسلم الاجتماعي والمفوض للوحدة الوطنية حول الدستور”.
كما رفض بيان الكتلة محاكمة النواب والمدنيين أمام المحاكم العسكرية. وطالب بإنهاء قرارات الإقامة الجبرية المتعلقة بعدد من النواب والوزراء السابقين باعتبارها قرارات سلطوية تعسفية وغير قانونية.