تأخرت في كتابة وإرسال هذا المقال لأسباب “وجودية”، فليس حولي إلا الرمال، لا كهرباء ولا تليفونات ولا شيء يرتبط بالتكنولوجيا وعصر الاتصال، حتى النيل غير موجود هنا، فالماء يأتي محمولاً كل يومين أو ثلاثة، ومع ذلك توجد حياة، وربما يراها البعض (من أمثالي) حياة أكثر إنسانية من زحام المدن وضجيج الاتصال وهايبر الاستهلاك المحموم الذي جعل النفايات أضخم منتج لإنسان المدينة الحديثة
كلمة “وجودي” ذكرتني بالحديث الدائر عن “الخطر الوجودي” الذي يهدد مصر جراء التعنت الإثيوبي في مفاوضات سد النهضة..
أنا أحب الفلسفة الوجودية، وتعجبني كلمة “وجودي” في النطق والدلالات الفلسفية، لكنني أضحك “غصب عني” كلما وردت الكلمة في التوصيف السياسي لمشكلة نصيب مصر من مياه نهر النيل بعد بناء سد النهضة، فالمسؤول أو الإعلامي “من دول” يسخن ويتشنج وهو يقول مصر تتعرض لخطر وجودي ومصيرها يتوقف على وصول المفاوضات إلى اتفاق يضمن ثبات حصة مصر السنوية من نهر النيل كما قررتها الاتفاقيات الدولية، مع أن تلك الاتفاقيات لم يتجاوز عمرها قرن واحد من الزمان، ومصر باقية من قبل الزمان بزمان..!
هنا تحضرني بعض الأسئلة البريئة منها مثلاً:
– هل كانت مصر (لا سمح الله) مهددة وجودياً قبل تلك الاتفاقيات؟
– متى كانت حصة مصر السنوية من مياه النيل ثابتة، لا المقياس يقول بالثبات ولا كتابات المؤرخين ولا النيل نفسه؟
– هل زالت مصر في سنوات القحط وانقرض المصريون بسبب غياب الفيضان؟
– هل منح النيل المكانة والتقدم والحضارة بالتساوي في كل البلاد التي يمر بها؟
الأسئلة البريئة تجد عادة إجابات سريعة، لكنها تكفي لنكتشف جانبا مهما من المشكلة التي نتناول بها قضية النيل وعلاقتها بمستقبل مصر، لأن المشكلة طول عمرها مشكلة إدارة وتنظيم لمياه، بمعنى أنها مشكلة إدارية وسياسية، لأن مصر تعرضت لكل أنواع المخاطر: احتلت أراضيها، وتبدلت لغاتها، واختلطت أعراقها وأنسابها، ومع ذلك لم تتعرض لخطر المحو أو خطر الوجود كما يردد إعلام التعبئة الأعمى، هذا لا يعني أن مصر “محروسة” في المقابل، بمعنى أنها نمط ثابت لا يتغير بمرور الزمان ودرجة النجاح والإخفاق في مواجهة التحديات.
هذا يعني ببساطة أن مصطلحات “الخطر الوجودي” و”مصر المحروسة” مجرد كليشيهات إعلانية للتسويق التعبوي، فالبلدان تتشكل وتتبدل أحوالها الحضارية وربما مسمياتها، وقد تنهزم وتتحول تحولات دراماتيكية عنيفة لكنها لا تنمحي من الوجود، فالعراق على سبيل المثال تبدل وتشكل عشرات المرات، لكن كل هذه التبدلات صارت مجرد حلقات وطبقات حضارية تؤول إلى النسخة الأخيرة من البلد، هكذا إثيوبيا التي استمدت اسمها من انتصار عسكري على شعوب مجاورة (النوبيون) لكن البلد التي كان اسمها الحبشة صارت بتشكيل جديد هي اثيوبيا، وهو الحال الذي مضت فيه مصر بطبقاتها الحضارية العجيبة التي تبدلت بين حقب آسيوية وأوروبية متباينة جدا، لكنها ظلت في كل أحوالها هي مصر، سواء كانت فارسية أو بطلمية أو اغريقية أو عربية..
هل يعني هذا أن نجلس على شاطيء النيل، أو داخل خيمة في الصحراء مثل خيمتي هذه ونترك استقرار البلاد يذهب لمن يغلب بالسيف ويقدر على الحكم؟
قد يكون مدخل المقال مثيرا للقلق والانزعاج، وقد يستنكره من يستمد شعوره الوطني من الأغاني أو الشعارات، فمصر عندهم هي “أم الدنيا” وهي “المحروسة”، وهي التي تقهر أعداءها وتمتصهم في رمالها كجيش قمبيز..!
لماذا نخاف إذن من أية تحديات؟، ولماذا نشكك في تعرض “المحروسة” لخطر وجودي يهدد ديمومتها؟
مثل هذه التناقضات هي التي تظهر في الاحتفاء المستعار بأسماء هددت كيان مصر في مراحل سابقة، ثم حكمها بقوة السلاح، وعلى سبيل المثال ستجد احتفاء تاريخيا بالغزاة من “الإسكندر” إلى “هاك ستيب” مرورا بالمقوقس وجوهر الصقلي وسليم الأول، وأسماء كثيرة من الدخلاء تزخر بهم المتاحف وأسماء الشوارع والقرى والمدن أيضا، فلدينا الكثير من الإغريق والرومان والصقالبة والجراكسة والأوروبيين، ويكفي أن نتذكر “كليوباترا” كرمز مصري تم تدشينه بعد أن قدمت هوليوود فيلمها الاستعراضي عن الشخصية التاريخية، فالتقطت مصر ثوب الفخر من جسد أليزابيث تايلور لتجعل من الملكة الغريبة الفاشلة رمزا حضاريا لمصر.
يمكنك أن تعتبر هذا المدخل المراوغ مجرد ثرثرة فارغة، لأن الأوطان ليست الجغرافيا وفقط، بمعنى أن مصر ليست قطعة الأرض التي رسمتها أقلام المستعمرين في القرن العشرين، ولا هي محصلة معاهدات واتفاقيات تمت تحت سلطة جنرالات الاستعمار، بدليل أن حسابات المسطرة والقلم التي ساهم فيها الإنجليز والفرنسيون والطليان لم تحسم الحدود السياسية، فصرنا نتنازع مع الجيران على مناطق حدودية مثل تيران وحلايب وربما الكفرة قريباً، لأن الحدود الغربية الحديثة لمصر لم تكن موجودة بهذا الشكل إلا في عام 1920 كما أقرها الاستعمار الإيطالي في ليبيا بالاتفاق مع الانجليز في مصر!!
لماذا أقول هذا الكلام الآن؟، وماذا أريد أن أقول في هذا المقال؟
لا تتعجل الوصول إلى نتيجة، نحن نفتح نقاشاً لا أكثر.. ربما يكون عن معنى الوطن، وربما يكون محاولة لمعرفة الفروق بين الوطن والدولة، فالوطن هو المكان الذي يستوطنه ناس مقيمون بشكل دائم أيا كانت أصولهم ودياناتهم، بينما الدول هي المظهر السياسي “المتغير” للوطن، فكلمة دولة مشتقة من التداول، بمعنى أن مصر كوطن مكان ثابت تداول عليه حكام من شتى بقاع الأرض، ولما قام النظام الجمهوري روجنا لمقولة أن الأوان قد آن لكي يتم حكم الوطن من الداخل، بمعنى أن يحكم الجمهور لا الملوك القادمين على ظهر الخيل، ولهذا صرنا ننظر إلى الحدود الخارجية باعتبارها الخطر الذي يهدد استقرار “الوطن الجديد” أي “الوطن الجمهوري”.
قد يتذكر أحدكم مقولة أعداء ثورة يوليو الذي يقولون فيها إن يوليو خلعت ملكا واحدا وجاءت بعشرين ملكا، لكنني لا أحب قراءة التاريخ بهذه المناكفات، فهناك شيء مؤسف اسمه التغير بالضرورة، بمعنى أن كل عصر يفرض مجموعة من العوامل القوية التي تجعل التغيير سهلا في اتجاهات معينة، وعسيرا جدا في اتجاهات غيرها، لهذا يفضل الحكام ومعهم الكثير من الناس الانجراف الطيع في مسارات التغيير الميسور، فالتاريخ يشهد أن كل الاختراعات والاتجاهات الحديثة قوبلت من بعض الفئات بالاستنكار والرفض والتكفير أحيانا، شيوخ عندنا حرموا الدراجة والقهوة والبنطلون والتليفزيون وفوائد البنوك، وأدباء في الغرب رفضوا اختراعات حديثة مثل ايميل زولا الذي كان يسخر من اختراع جراهام بيل للتليفون، ومثل سلاطين المماليك الذين سبقوا دون كيخوتة في رفض البارود والبنادق إخلاصا للسيف وفروسية العصور الوسطى..
أعترف أنني أخاف من هذا الانجراف في مسار التغيير المتاح الذي ترعاه قوى خرافية مستفيدة مثل نبلاء الإقطاعيات في العصور الوسطى، ومثل التجار في المرحلة البرجوازية ومثل رجال الصناعة بعد اكتشاف قوة البخار، ومثل أباطرة تشكيل العالم على المزاج الاستعماري عقب الكشوف الجغرافية والحاجة إلى المواد الخام لتدوير المصانع، ثم مرحلة البحث عن أسواق وبالتالي تحويل الأوطان والبلدان (المستعمرات سابقا) إلى أسواق، وتحويل المواطنين إلى “زبائن” في هذه الأسواق، وصولا إلى هيمنة البروباجندا وملوك الإعلانات على العالم، بحيث صار المواطن مجرد “نمرة” في استعراض للفرجة..
ما كل هذا الكلام الهيولي؟، وما علاقته بالخطر الوجودي وسد النهضة وأثيوبيا؟
يا عزيزي أنت “دقة قديمة”، لأنك تسأل عن المنطق في مرحلة السيولة، وتفتش عن الهوية في زمن المسوخ، وترغب في إدراك العلاقات بين الأشياء في وقت تحطمت فيه كل النظريات وباتت “القصاقيص” هي السلعة الرائجة، بمعنى أن وجودك نفسه لم يعد له قيمة إلا بمقدار انتشارك على “تيك توك”، لا لتحكي عن أوجاعك أو تروي قصة نتعرف من خلالها على سيرتك أو تجربتك في الحياة، لكن أن تحكي لتخدعنا وتتخفى وراء “كليب” مصطنع ومنطق مقلوب للإبهار والجذب، فقد أينعت نظرية الرجل الذي عض الكلب، لأن الكلب الذي يعض لم يعد مقبولا ولا موجودا من فرط عاديته وواقعيته.
يبدو أنني شربت عسلاً مخمراً فلا أستطيع أن أضع المعاني في كلماتي، لكنني أشعر بالراحة من هذا الفيض الهذياني الذي يطمئنني أنني “موجود” وأن “الوطن موجود”، وأن “المواطن موجود”، وهذا يعني أننا لم ننقرض، وأن مصر محروسة فعلاً
لكن السؤال: هل أنت فعلا هو أنت؟
هل تشبه الإنسان الذي خططت لحياته في بداية تفكيرك؟
هل الوطن هو الوطن؟
هل مصر جمهورية أم لا تزال ملكية أم مجرد مستعمرة إغريقية أم ولاية يحكمها باب عالي؟
مجرد أسئلة عالقة في رأسي، لأنني أرى كل شيء موجود، ولا يوجد خطر وجودي ولا حاجة، القصة كلها في تغيير معنى ذلك الوجود، فالأمطار سوف تستمر في السقوط من السماء، والنيل سيظل يجري، لكن ماذا تعني لنا الأمطار؟، وماذا يعني النيل في البلد الذي كان زراعيا، ثم أصبح أعظم استخدام استثماري للنيل أن يكون “فيو” للإسكان الفاخر ومنتزهات العشاق القادرين على الدفع السياحي!
أحاول أن أعثر على جملة مفيدة أختم بها هذا الهذيان فأقول إن فكرة الوجود لا قيمة لها إلا إذا ارتبطت بمعنى نرغب فيه، وهذا المعنى هو الذي يسميه الفلاسفة “الماهية”.. يعني “ما هو الشييء؟”.. يعني “الهوية”، لذلك أحاول أن أعرف بشكل جدي:
هل نحن حقاً نحتاج النيل؟ وماذا سنفعل به؟
وإذا كانت له أهمية عظمى كما تقول التصريحات، فلماذا أهملناه؟، ولماذا لوثناه وأسأنا استخدامه؟، ولماذا تراجعت قدراتنا الزراعية إلى حد الفضيحة؟، ولماذا ازدهرت تجارة مياه الشرب المعلبة خلال العقدين الأخيرين؟
وهل صحيح أن الضجة المشتعلة بشأن سد النهضة والخوف من نقص مياه النيل، ليست أكثر من مدخل مصنوع دوليا وإقليميا لتسليع النهر وانتهاء عصر المياه الربانية المجانية؟
أكتفي بهذا القدر من الهذيان، وقد أعود في مقال لاحق أوضح فيه بالأرقام والأبحاث والمخططات الاستراتيجية حقيقة الخطر “الوجودي” الذي يهدد مصر أرضا وشعباً، حتى لا نختصر الأزمة في “خناقة عابرة ومعروف نهايتها…!
والله حافظ البلاد والعباد