بعد ترقب صامت، أشهرت الولايات المتحدة الأمريكية بطاقة حمراء في وجه اللاعبين الدوليين لـ”تحقيق استقرار ليبيا”؛ تمهيدًا لدور أكثر نفوذًا تخطط واشنطن لممارسته في الدولة التي مزقتها آلة الحرب والتدخلات الدولية. تطور موقف أمريكا عبر مجموعة من التحركات المتزامنة والمتراصة فيما تقول إنها إجراءات ضد معرقلي العملية السياسية وأمراء الحرب بليبيا.
بداية المشهد بإقرار مجلس النواب الأمريكي قانونا سماه “قانون استقرار ليبيا” يهدف من خلاله لفرض عقوبات على بعض الأطراف الليبية والدولية الداعمين لاستمرار الحرب. فيما تلتفت الأنظار صوب أكثر المتدخلين الدوليين في الحرب وهما تركيا وروسيا.
ما هو قانون استقرار ليبيا؟
القانون الأمريكي الذي يستند إلى قرار مجلس الأمن رقم 2520، وافق عليه 386 نائبًا في مجلس النواب الأمريكي ورفضه 35 فقط. ويتضمن فرض عقوبات على الممتلكات وحظر التأشيرات على الأشخاص الذين يسهمون في العنف في ليبيا.
كما أن القانون الذي يضع حدًا زمنيًا لانتهاء العقوبات بعام 2026 يتيح للرئيس الأمريكي فرض عقوبات على كل من يقوم بأفعال تهدد السلام والاستقرار في ليبيا، أو مسؤول أو متواطئ في انتهاكات حقوق الإنسان في ليبيا، أو سرق أصول الدولة الليبية أو مواردها الطبيعية.
لمطالعة إجراءات الكونجرس بشأن القانون اضغط هنا
ويترك القانون مساحة للمناورة، باعتباره وسيلة ضغط على الأطراف الليبية، وذلك من خلال جواز تعليق العقوبات في حال وافقت أطراف النزاع في ليبيا على وقف إطلاق النار بشكل دائم. وهو بذلك يمنع أية فرصة للتصعيد عقب تطبيق القانون.
وفي شقه المالي، يمنح القانون وزارتي الخارجية والخزانة الأمريكتين فرصة لتقصي ورصد المؤسسات المالية الدولية المتورطة في تقديم دعم للأطراف الليبية، وفي الوقت نفسه حث الفاعلين الدوليين على دعم التعافي الاقتصادي في ليبيا.
.. وما الخطوة اللاحقة؟
بعد إقرار القانون من مجلس النواب، من المفترض أن المسودة وصلت الآن مجلس الشيوخ الذي سيصوت على تمريره، ومن ثمّ إحالته للرئيس لإقراره، وبعدها يدخل حيز التنفيذ مباشرة. فيما تقول المؤشرات إنَّ إقرار القانون بشكله النهائي بات مسألة وقت وربما في القريب العاجل استباقا لموعد الانتخابات المقررة قبل نهاية العام الجاري.
يدعم ذلك أن أغلب الديمقراطيين والجمهوريين موافقون على تلك الخطوة، فضلاً عن أن مقدمي القانون هما النائبان الديمقراطي تيد دويتش والجمهوري جو ويلسون. وهو ما يجعل ثمة شبه إجماع أمريكي على الخطوة الداعمة للاستقرار والعملية السياسية، والرافضة لإطالة أمد الحرب.
اقرأ أيضًا| هل تستطيع ليبيا انتخاب الرئيس؟
وفور إقراره بشكله النهائي، سيكون أمام الرئيس الأمريكي 180 يوماً من صدور التشريع لتقديم قائمة بالأشخاص الذين سيجري معاقبتهم. كما ستخضع القائمة لعملية تحديث سنوية.
لماذا القانون الأمريكي في هذا التوقيت؟
يحمل توقيت إقرار الولايات المتحدة لقانون استقرار ليبيا عدة دلالات، يرتبط بعضها بالداخل الليبي، والبعض الآخر يتعلق بالسياسة الأمريكية الجديدة إزاء ملفات التوتر في الشرق الأوسط على النحو التالي:
– مماطلة تركيا وروسيا في ملف سحب مقاتليها من ليبيا، والاعتماد على عامل الوقت لاستنزاف المرحلة الانتقالية التي لم يتبقى منها سوى أقل من 3 أشهر.
– تزايد الخلاف بين الأطراف الليبية، وتعطيل الإجراءات اللوجيستية التي تهيئ المناخ لإجراء الانتخابات، خاصة القاعدة الدستورية.
– الجنوب الليبي عاد لواجهة التوتر الأمني خلال الأسابيع الأخيرة، من خلال رصد نشاط مكثف للتنظيمات الإرهابية والمعارضة التشادية، نفذت إزاءها الولايات المتحدة وفرنسا عدة ضربات جوية لاستهداف مجموعات متحركة في المنطقة، مع الاعتبار أن استمرار حالة عدم الاستقرار في البلاد يدفع لتنامي تلك المجموعات المسلحة.
– الاستراتيجية الأمريكية الجديدة إزاء الشرق الأوسط، تبقى أحد أهم دلالات توقيت طرح القانون حالياً، خاصة أن الرئيس جو بايدن يسعى للحد من التوترات الأمنية في المنطقة، من خلال سحب قواته من أفغانستان وتوقيع اتفاق نووي مع إيران وإنهاء الحرب في اليمن وليبيا.
– تقويض روسيا أيضًا واحدة من الأهداف الأمريكية وراء قانونها الحالي، ورغم أن موسكو لا تعترف رسيما بوجود مقاتلين لها في الأراضي الليبية، إلا أن التقارير الدولية والأمم المتحدة رصدت مجموعات مرتبطة بروسيا في عدة مناطق ليبية، من بينها مجموعة الفاغنر.
اقرأ أيضًا| ارتباك المشهد الليبي.. عودة الانقسام ونُذر مواجهة عسكرية
تحركات أمريكية متزامنة
اللافت أن إقرار القانون تزامنًا مع زيارة قائد القوات الأمريكية في أفريقيا “أفريكوم” ستيفن تاونسند إلى العاصمة طرابلس، وهناك التقى رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، وأطلق تصريحات حاسمة بشأن خروج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا، والذهاب سريعًا إلى الانتخابات دون تأجيل.
ستيفين تاونسند ذهب إلى طرابلس وفي حقيبته ملفين اثنين فقط ومحددين، إخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب وإجراء الانتخابات في موعدها، حيث كررت كافة البيانات الصادرة عن الطرفين الليبي والأمريكي هذه البندين باعتبارهما الخطوة الرئيسية حاليًا.
الأمر كان واضحًا، عندما حضر المسؤول العسكري الأمريكي اجتماع لجنة 5+5 العسكرية الليبية، وهي لجنة مشكلة من خمسة عسكريين من المنطقة الشرقية ومثلهم من المنطقة الغربية، تختص بتثبيت ومراقبة وقف إطلاق النار وإخراج المرتزقة.
ومن النادر أن يحضر مسؤول أحنبي أو غربي اجتماعا فنيا ليبيا بهذا الشكل، كما أن اجتماع اللجنة هو الأول في العاصمة طرابلس منذ تأسيسها في صيف 2020. وحضر الاجتماع بالإضافة إلى الجنرال ستيفين تاونسند، رئيس الحكومة الليبية عبدالحميد الدبيبة، والمبعوث الأمريكي إلى ليبيا ريتشارد نورلاند.
النقطة اللافتة أيضًا أن الدبيبة حضر الاجتماع بصفته وزير الدفاع، وهي أكثر الملفات الجدلية بين المنطقتين الشرقية والغربية، حيث يدفع الدبيبة بأن الاتفاق السياسي يمنح رئيس الحكومة هذه الصلاحية، بينما يطالب شرق البلاد ومجلس النواب بتعيين وزير دفاع جديد، بصيغة توافقية بين المنطقتين.
دلالات الحضور المصري
وعندما كان ستيفين تاونسند في طرابلس ومجلس النواب يعقد جلسة التصديق على القانون، وصل مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان القاهرة، حيث التقى عدداً من المسؤولين، وعلى رأسهم الرئيس عبد الفتاح السيسي، لمناقشة الملفات البارزة في الشرق الأوسط لا سيما الموقف في ليبيا الآخذ في التعقيد.
توقيت الزيارة وتدفق الموقف الأمريكي، يشير إلى أن واشنطن تعول كثيرًا على إمكانية لعب القاهرة دورًا حاسمًا في دعم المقاربة الأمريكي إزاء الوضع في ليبيا، خاصة في ظل الحضور المثري المكثف خلال الفترة الأخيرة بهذا الملف، كما أن القاهرة ساهمت في الوصول لتلك المرحلة، سواء بتدخلها الحاسم عندما كانت المنطقة الغربية مسرحًا لتوترات بصبغة دولية، حينها وضع الرئيس المصري خطًا في المنطقة الفاصلة بوسط البلاد، حالت دون تفاقم الوضع الأمني، ثم الأبرز هو رعايتها لاتفاق القاهرة الذي كان توطئة لاتفاق جنيف السياسي الذي أنتج حكومة الوحدة الوطنية الحالية.
لذلك فإن واشنطن تعرف حجم الدور المصري المرتقب في ظل المخاوف من تقويض العملية السياسية، أو تعطيل فرصة إجراء الانتخابات في موعدها المقرر في الرابع والعشرين من ديسمبر المقبل. كما أن واشنطن التي تستهدف من قرارها الأخير الداعم لاستقرار ليبيا طرفًا مناقضًا للموقف المصري، وهي تركيا، فإنها ذلك تضع القاهرة في المكانة نفسها التي تصفها فيها لمقارعة التدخل التركي.
تطورات ميدانية
عندما كان الحضور الأمريكي مكثفًا والحديث متزايد عن خروج المرتزقة الأجانب، رصد ليبيون تحركات ميدانية لمجموعات الفاغنر الروسية وقوات تركية في مناطق بوسط البلاد، فيما جرى الحديث عن عمليات تسليم مواقع عسكرية لقوات ليبية.
في اليوم التالي جرى رصد تحليق مكثف لطائرات أجنبية في سماء ليبيا، بعدها دقق ليبيون في جداول رحلات الطيران الرسمية بالمطارات، والتي لم تتضمن هذه التوقيات أو نوعية تلك الطائرات الأجنبية، ولذلك تم تفسير الأمر على أن هذه الطائرات بدأت تحمل مقاتلين أجانب بشكل سري لخارج البلاد، وهي بذلك تُقلع من قواعد عسكرية وليس من مطارات مدنية.
هذا التطور الميداني تزامن مع تصريحات للجنة 5+5 تتحدث لأول مرة عن جدول زمني وخطة لانسحاب القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا. كما قال وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش إن ملف المقاتلين الأجانب شهد تطورات لافتا، قائلة: “بعدما كانت دول- على سبيل المثال روسيا- ترفض فتح هذا الملف قبل 6 أشهر، بات الحديث الآن يدور حول جدول زمني ونقاش بشأن هل الانسحاب يجرى بشكل متزامن أم مرحلي”.
هذه الإشارات تحولت إلى مرحلة أكثر واقعية، عندما أعلنت المنقوش أمس الأحد، أن مجموعات من المقاتلين الأجانب غادرت ليبيا. خلال زيارتها للكويت قالت وزيرة الخارجية الليبية إن السلطات تجري عمليات تنظيم أكبر وأكثر شمولاً إخراج المقاتلين الأجانب، ويبدو أن الاجتماع الدولي الذي دعا إليه رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي في ليبيا منتصف الشهر الجاري سيكون حاسمًا في هذا الاتجاه.
اقرأ أيضًا|كيف تتخطى ليبيا عقبتي الدستور وتوحيد الجيش؟
إشارات سياسية
بالتزامن مع ذلك، بدت إشارات سياسية عديدة تقول إن التدخل الأمريكي سيكون حاسما في إنقاذ العملية السياسية في ليبيا، خاصة أن مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، أعلن أن الدعاية الانتخابية للمرشحين ستبدأ في غضون أسبوعين.
الحديث عن توقيت محدد بشأن الإجراءات المتعلقة بالانتخابات هو الأول من نوعه، كما لم يصدر حتى عن المسؤولين الليبيين، بل صدر عن مبعوث أممي مدعوم أمريكيًا، حيث شكل توليه هذه المهمة جدلاً وصراعا بين واشنطن وموسكو في مجلس الأمن الدولي.
بالإضافة إلى ذلك، تضمّن بيان السفارة الأمريكية لدى ليبيا في أعقاب مباحثات المغرب بين مجلسي النواب والدولة، لهجات شديدة وحاسمة، خاصة بعدما أكدت أن لا مناص من إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في 24 ديسمبر من أجل تشكيل حكومة شرعية دائمة لليبيا، ثم قولها: “لا ينبغي أن يكون لأي فرد أو مؤسسة سلطة الفيتو على التشريعات الانتخابية الحاسمة – وبدلاً من ذلك، يجب على المؤسسات الليبية وقادتها أن يثقوا بقدرة الناخبين على تقرير من يجب أن يقود البلاد”.
هذا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكي بدأت تفرض موقفها على الداخل الليبي بالتوازي مع إرغام الأطراف الدولية على دفع العملية السياسية إلى منصة 24 ديسمبر من دون أية عراقيل، وأنّ بمقدورها تحييد الحرب ووضع السلاح نهائيًا في الداخلي الليبي، حتى وإن كان موقفها هذا يأتي في إطار طموحاتها هي الأخرى في الملف الليبي، لكنه على أية حال يبقى دفعًا إيجابيًا نحو الاستقرار.