لست أعرف كيف ومتى استقرت طريقتي في قراءة التاريخ، وهي ضمن القراءات المحببة لي، ولكني علمت نفسي مبكراً أن أقرأ التاريخ بأن أضع خريطة زمنية للأحداث، وأحاول أن أتخيل تفاصيل الحوادث والمعارك، وأهتم بالبحث عن خرائطها مثل الاهتمام بوقائعها، وتعودت أن أدخل إلى أي شخصية تاريخية بأن أرسم في ذهني ملامحه الجسمانية قبل أن ألج إلى مرحلة التعرف على ملامحه الإنسانية.
أفضل كتب التاريخ عندي هي تلك التي تتضمن خرائط ورسومات وصور للشخوص والأحداث والأماكن، ولذلك أحببت جداً تلك الموسوعات التاريخية التي أنتجت مؤخراً باستخدام العديد من الوسائط والخرائط والرسومات والانفوجرافات في تقديم المادة التاريخية لقرائها.
والأهم في هذه الطريقة الخاصة في قراءة التاريخ أنني تعودت على التوقف عند كل عصر وزمان لأطرح على نفسي السؤال الذي أعرف أنه فرض مستحيل التحقق، وأسأل (ماذا لو كان التصرف على نحو آخر غير ما جرت به الحوادث؟).
**
من بين صفحة وأخرى من صفحات التاريخ تقفز جملة «ماذا لو» بالبنط العريض تلح عليَّ وتلاحق أفكاري من عصر إلى عصر، ومن زمن إلى آخر، ونحن نقرأ من بين سطوره الخيبات التي كانت، والعثرات التي سقطنا فيها، والطرق التي تاهت بنا إلى عكس طريق التقدم.
أعرف أن «ماذا لو» لن تبدل التاريخ، ولكنها طريقتي في محاولة التعرف على دروسه التي يريد أن يُعلمنا إياها، ونستخلص العبر التي يسوقها أمامنا حتى لا ننجر إلى المضي في الطرق الخاطئة نفسها، أو نقع في الحفر ذاتها.
يبرز السؤال الافتراضي أكثر، ويفرض نفسه بصورة أشد إلحاحاً، خاصة مع بعض الحكام الذين كانت لهم إنجازات مشهودة، وتركوا وراءهم آثاراً كبيرة، وحفروا أثرهم الذي لا يمكن أن ينمحي من على وجه التاريخ، مع مثل هؤلاء أجدني أردد السؤال وسط مشاعر شتى من الغضب والحسرة والتمني، وأقول لنفسي «ماذا لو» كان هذا الحاكم (صاحب الإنجازات الكبيرة في التاريخ) أقل ديكتاتورية، وأكثر تقديراً للإرادة الشعبية، وأشد انحيازاً لها، وأحرص على الانقياد إلى ما تمليه عليه.
لا شك أن أحوالاً كثيرة كانت قد تبدلت في تاريخنا، وكنا استطعنا أن نقطع أشواطاً واسعة نحو التقدم واللحاق بركب الحضارة، وزادت قدرتنا على المساهمة في هذا الركب.
**
في كتابه «كيف سقطت الملكية في مصر ـ فاروق بداية ونهاية » ذكر الكاتب والمؤرخ الكبير الأستاذ محمد عوده أن «الملك فاروق» كان يستطيع أن يصنع تاريخاً جديداً ومجيداً يضيفه إلى تراث العظام من أسلافه: «محمد علي»، و«إبراهيم»، و«إسماعيل»، وأن يسجل اسمه بين الملوك المعاصرين الذين ثبتت عروشهم وصمدت أمام كل العواصف.
وذهب الأستاذ عوده إلى أن «الملك فاروق» كان يستطيع أن يفعل ذلك بلا عناء لو أنه استمع إلى نصيحة أمه التي حرصت على أن تلقنه إياها، واستعانت بأخيها لكي يضم صوته إليها، نصحاه أن يتحالف ويتآلف مع الحركة الوطنية، ومع زعامتها التاريخية، وأن يحرص على أن يحكم حكماً شرعياً في إطار الدستور المصري، الذي يمنحه حقوقا أوسع من أي ملك آخر.
وروت «الملكة الأم» لابنها قصة أبيه الذي ألح وهو على فراش الموت أن يرى «مصطفى النحاس»، وأن يعتذر له، ويعترف أمامه أن خطأه الأكبر (كان خروجه على الدستور)، وصراعه معه، رغم أنه أخلص الساسة والحكام وأن الآخرين مقامرون وانتهازيون يتبعون الاحتلال.
جرى ذلك حين كانت «الملكة نازلي» تحاول أن تحمي عرش ابنها، قبل أن تنقلب إلى وبال على هذا العرش في قادم الأيام، وكانت مصر وقتها على مشارف مرحلة جديدة من تاريخها بعد عقد المعاهدة مع بريطانيا، وحصلت على قدرٍ واسعٍ من حقوقها، وكانت «الملكة الأم» ترى أنه من قبيل الفأل الحسن أن يقترن ذلك بجلوس ملك شاب تفاني الشعب في الترحيب به، وغمره بعطفه ومحبته، فجمعت بين الملك وزعيم الأمة في القاهرة وباريس، وراحت توثق العلاقات بينهما، ولكن الأقدار كانت قد رسمت طرقا أخرى تاهت فيها مصر عن مواعيدها مع حكم القانون والدستور.
**
الأمر لا يتوقف عند شخصية مثل «الملك فاروق» لم يكن له الأثر نفسه الذي تركه عددٌ من أسلافه على رأسهم بالطبع مؤسس حكم الأسرة الباشا «محمد علي» الذي لا يختلف أحد من المؤرخين المعتبرين على أنه مؤسس مصر الحديثة، وصاحب أطول فترة حكم، وصانع أكبر الإنجازات التي نقلت مصر من عصور التخلف والفوضى والانقسامات إلى عصر الدولة الحديثة التي غيرت وجه مصر، وأعلت شأنها وجعلتها الرقم الصعب في محيطها الإقليمي، بل وصار لها التأثير الكبير في السياسات الدولية وقتها.
لدى أي تقييم إيجابي لعصر «محمد علي» يبرز في وجهنا سؤال «ماذا لو» من جديد، ولعل أهم نقد علني لفترة حكم «محمد علي» جاء من شخصية من وزن وقيمة وقامة الشيخ الامام «محمد عبده» في الذكرى المئوية لتولي «محمد علي» للحكم، وقد كتب الشيخ مقالاً نارياً تحت عنوان «آثار محمد علي في مصر»، تشعر في كل فقرة من فقراته، بل في كل كلمة من كلماته، أنه يريد أن يسأل معنا وهو يسرد انجازات محمد علي الكبرى «ماذا لو» أنه فعل كذا وكذا، و«ماذا لو» أنه لم يفعل كيت وكيت.
**
لم ينظر الشيخ «محمد عبده» إلى كل الإنجازات التي تحققت في عصر «محمد علي»، وهي كبيرة وكثيرة بدون أدنى شك، لكن الشيخ لم تأخذه الآثار التي تركها «محمد علي» ورحل، بل راح ينظر إلى الأثر الباقي في شخصية المصريين، وهي في الحساب الختامي آثار سلبية، وبحسب صياغات «محمد عبده» يقول بالنص:
(ما الذي صنعه محمد علي» ؟، لم يستطع أن يحيى. ولكن استطاع أن يميت. كان معظم قوة الجيش معه، وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة، فأخذ يستعين بالجيش وبمن يستميله من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه، ثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر على من كان معه أولاً وأعانه على الخصم الزائل، فيمحقه، وهكذا حتى إذا سُحقت الأحزاب القوية، وجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة. فلم يدع فيها رأسا يستقر فيه ضمير «أنا»، واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلاً لجمع السلاح من الأهلين، وتكرر ذلك منه مراراً حتى فسد بأس الأهلين، وزالت مَلكة الشجاعة فيهم. وأجهز على ما بقي في البلاد من حياة في أنفس بعض أفرادها، فلم يبق في البلاد رأسا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه، أو نفاه إلى السودان فهلك فيه. أخذ يرفع الأسافل. ويعليهم في البلاد والقرى كأنه يحن لشبه فيه ورثه عن أصله الكريم، حتى انحط الكرام وساد اللئام، ولم يبق في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة، فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأى وعزيمة واستقلال نفس. ليصير البلاد المصرية جميعها إقطاعا واحدا له ولأولاده بعد إقطاعات كانت لأمراء عدة).
وانتهى ما قاله «محمد عبده» إلى حكم نهائي: (الخلاصة كان «محمد علي» مستبداً ماهراً، لمصر قاهراً، ولحياتها الحقيقية مُعدِماً، وكل ما نراه فيها مما يسمى حياة فهو من أثر غيره) .
هذه لا شك صرخة كبيرة على شكل سؤال «ماذا لو» استجاب «محمد علي» لما تتطلبه اللحظة التاريخية، و«ماذا لو» احترم الإرادة الشعبية التي جاءت به إلى السلطة، و«ماذا لو» جاءت كل إنجازاته في خانة (أن يُحيي) ولم تكن في خانة (أن يميت) على حد تعبير الامام «محمد عبده».
**
تجربة «محمد علي» الضخمة تقترن بها في تاريخنا المعاصر تجربة مماثلة، ربما أكبر تأثيراً، وكان لها الأثر الباقي حتى يومنا هذا، وحققت الكثير من الإنجازات المشهودة، ولم تخل ـ بدورها ـ من الكثير من الخيبات، كما لخصها عمنا «أحمد فؤاد نجم» حين قال في قصيدة «زيارة إلى ضريح عبد الناصر»: (عمل حاجات معجزة، وحاجات كتير خابت)، أو كما وصفه الشاعر العراقي الكبير «محمد مهدى الجواهري» حين قال: «كان العظيـم المجــد والأخطاء».
مع «جمال عبد الناصر» وتجربته الكبيرة تبرز مرة أخرى «ماذا لو» مفعمة بالحزن والشجن على التجربة التي استوعبت مطالب وأهداف الحركة الوطنية المصرية على مدار قرن من الزمان فصاغت تلك المطالب والأهداف في استقلال القرار الوطني وتحقيق العدالة الاجتماعية، وحققت على هذين الصعيدين الكثير الغير مسبوق من الإنجازات، وغيرت وجه الريف المصري، ونشرت المصانع في ربوع مصر، وحققت واحدة من أهم وأفضل وأنجح خطط التنمية، وجعلت مصر واحدة من أهم دول العالم، ولكن يبقى السؤال يطرح نفسه بألم:
ـ «ماذا لو» استطاعت تلك التجربة الثرية أن تضع الأساس لعملية التغيير الديمقراطي في المجتمع والدولة؟
أول المكاسب (لو أن التجربة الناصرية قد اكتمل لها جانبها الديمقراطي) كان سيعود على التجربة نفسها، فيضمن عدم انتكاستها على النحو الذي جرت به الأمور بعد رحيل «عبد الناصر»، والمفجع أن عملية الارتداد عن كل مكتسبات التجربة الناصرية، وانتكاس كل إنجازاتها، جاءت بالآليات نفسها التي وضعتها وكرستها التجربة الناصرية.
**
«إقامة حياة ديمقراطية سليمة»، كان هذا هو المبدأ السادس الذي وضعته ثورة يوليو ضمن برنامجها الوطني، وهو المبدأ الذي كان كفيلاً ـ لو أنه تحقق ـ أن يضمن استمرار الثورة، وأن يفتح المجال واسعاً أمام امكانيات تطويرها، مع اتساع دوائر المشاركين في تنقيتها من كل الجوانب السلبية التي أودت بها في نهاية المطاف.
«ثورة يوليو» ـ في نظري ـ هي الحلقة الأهم، والأكثر انجازاً على الصعيد الوطني، والاجتماعي، والاقتصادي، والعمراني، وهي الثورة التي غيَّرت وجه مصر، والوطن العربي من محيطه الى خليجه، وكانت نقطة قوة «التجربة الناصرية» تتمثل في أنها أضافت قضية العدل الاجتماعي إلى جانب قضية الاستقلال الوطني، وربطت بين حرية الوطن واستقلال قراره وبين حرية المواطن من ربقة الحاجة وذل الفقر والجهل والمرض، ولكن ـ أقولها بكل أسف ـ إن كل إنجازاتها الكبيرة لم تصمد طويلاً، أمام نقطة ضعفها القاتلة التي تمثلت في اهمالها للبند السادس من برنامجها الوطني.
**
في النص البديع «أمام العرش» لأديبنا الكبير «نجيب محفوظ» دار حوار بين «جمال عبد الناصر» وكل من «سعد زغلول» و«مصطفى النحاس»، تمثلت النقطة الرئيسية في مؤاخذتهما على حكم «عبد الناصر» في فكرة غياب الديمقراطية، والفكرة نفسها رددها الأديب الكبير في أكثر من مناسبة وأكثر من مرجع، في أحدها يقول «محفوظ»: (عبد الناصر غيَّر الحياة على أرض مصر من جذورها، حرر الشعب من الإقطاع، وأصحاب رءوس الأموال المستغلين. وأنا أعترف أنه أكبر نصير للفقراء في تاريخنا، المصيبة الوحيدة هي تأجيل ممارسة الديمقراطية) ما تسبب ـ في نظر «محفوظ» في كوارث كبيرة.
ميزة الديمقراطية عند «نجيب محفوظ» أنها تمنع وقوع تلك الكوارث، وهو لا يخشى من أخطاء تقع بسبب الديمقراطية، لأن ميزتها أنها (حتى لما تغلط تُصلح نفسها).
**
من لم يُحسن قراءة الماضي، لن يُحسن صناعة المستقبل، ومن لا يعتبر من دروس التاريخ، سوف يقع في الأخطاء نفسها التي سقط فيها من سبقوه، ومن لم يجلس في محرابه يتعلم، فسوف تتولى الأيام تلقينه الدروس، ولكن بأثمان باهظة، كان يمكن أن يتجنبها، لو أنه وعى الدرس، وأنصت إلى صوت التاريخ.
درس التاريخ الحديث أن كل التجارب الكبرى التي راحت تحاول أن تصنع تاريخاً مجيداً لمصر، فشلت في أن تُحصن نفسها بالشعب، فانتكست، وصارت هشيماً تذروه الرياح، ذلك أن كل بناء بدون ديمقراطية، ومن غير مشاركة فعالة من الناس معرضٌ للانتكاس، وقابل للهدم والنسيان.