“الذاهبون إلى الآخرة يتركون وديعة لدى الآخرين.. أثرًا طيبًا يبقى حيًا.. يقولون نرحل ومن بعدنا تبقى حياة”. هكذا راج للكثيرين حاليًا إثارة الحديث عن التبرع بالأعضاء البشرية بعد الوفاة. وهي قضية باتت محل جدل شائك خلال السنوات الماضية بشأن تبرع الأحياء بأعضائهم. لكن فكرة التبرع بعد الوفاة تنطلق من نظرة إنسانية وفلسفية للوجود، مفادها: ماذا أستفيد بجسدي تحت التراب، فلينتفع بهه آخرون.
تتحدث “نهلة” مع صديقتها “علا” عن وصيتها بعد وفاتها بأن يتم التبرع بأعضاء جسدها، حتى يتمتع آخرون بما يصح منها. دون تحديد أي جزء، ولكنها اشترطت أن تتم العملية بشكل دقيق ليكمل الآخرون الحياة وبدون مقابل مادي.
بحثت نهلة، رئيس مجلس إدارة جمعية صبية للمرأة والطفل عن كيفية إجراء ذلك الأمر. فوجدت أنها ستصطدم بموظفي الشهر العقاري، والمفاجأة كانت رفضهم إجراء توثيق لوصيتها المكتوبة. حتى قررت اللجوء إلى المحامي لمساعدتها في تخطي تلك العقبة.
عودة التفاعل
وفي سبيل إنقاذ حياة الآخرين، انضمت نهلة وآخرون إلى رغبة الفنانة إلهام شاهين والنائبة فريدة الشوباشي، في التبرع بالأعضاء بعد الوفاة. وهو ما أعاد القضية إلى السطح مجددًا، بين البحث عن الحكم الديني للتبرع بالأعضاء على شبكة الإنترنت وشروط التبرع وإجراءاته، والتي قادها مسبقًا الدكتور خالد منتصر.
انطلقت شاهين والشوباشي تلبية لدعوة الحملة التي أطلقها الكاتب خالد منتصر، لتفعيل قانون زرع الأعضاء، الموجود بالفعل منذ 11 عاما. ولكنه ما زال حبيس الأدراج منذ 2010، بعد موافقة البرلمان.
الهدف الذي استند إليه “منتصر” لتفعيل قانون نقل الأعضاء من المتوفيين إكلينيكًا أو حديثًا هو القضاء على تجارة الأعضاء. وأشار إلى أن مصر وأفغانستان هم الدولتان -على مستوى العالم- غير المتفاعلتين مع قانون نقل الأعضاء. وعربيا، تأتي تونس من أكثر الدول للتبرع بالأعضاء.
حاول “منتصر”، من خلال صفحته على “فيسبوك”، تغيير ثقافة متابعيه وكذلك نشر الدعوى لتفعيل القانون. وتساءل: “لماذا نهجر القانون ونترك الأمر إلى الفتاوى التي تحرم ما أحله الله لإنقاذ أرواح البشر”. وأشار إلى الدول التي كان يلجأ لها المصريون كالصين وأمريكا لزراعة كبد كامل، أوصدت أبوابها في وجه المصريين تحت دعوى أن الأولوية لأبناء الدولة الصينية.
وتابع: “لدينا أطباء مدربون على زرع القلب والرئتين، تدربوا بالخارج، الآن هم يعانون من البطالة. ذلك أن الأعضاء كالكبد والقلب تحتاج لنقلها من جثة تعاني من موت جذع المخ وليس الموت الكامل الذي يتوقف فيه القلب منذ 3 أيام ومحتفظ به بالمشرحة”. وأوضح أن النتيجة التي وصلنا إليها حاليًا هي أنَّ من يعاني فشلاً تامًا في عضلة القلب أو الرئتين أو التليف الكامل بالكبد لن يستطيع أن يزرع. كل ذلك “نتيجة الجهل وسيادة ثقافة الفتوى على ثقافة القانون”، وفق قوله.
وطالب منتصر المثقفين والنخبة والفنانين بالتفاعل مع دعوته لتغيير تلك الثقافة. ويقول: “أنا مستعد للتبرع بكافة أعضاء جسدي بعد وفاتي. ولابد من تفعيل هذا القانون بإضافة خانة التبرع في بطاقة الرقم القومي ورخصة القيادة لمنح الأمل لمريض يرغب في الحياة”.
وتفاعلاً مع تلك الدعوة، نشرت الكاتبة فريدة الشوباشي مقطعًا مصورًا. قالت فيه: “أؤكد وبكامل إرادتي وبأعلى صوت بأنني متبرعة بجميع أعضاء جسدي بعد وفاتي لأي محتاج، ويارب نخفف آلام بعض”.
قانون زرع الأعضاء
وينص القانون رقم 5 لسنة 2010 الخاص بتنظيم زرع الأعضاء البشرية، على أنه “لا يجوز نقل أي عضو أو جزء من عضو أو نسيج من جسد ميت إلا بعد ثبوت موته ثبوتاً يقينياً تستحيل بعده عودته إلى الحياة، ويكون إثبات ذلك بموجب قرار يصدر بإجماع الآراء من لجنة ثلاثية. وسوف تقوم بتعيين هؤلاء الخبراء اللجنة العليا لنقل الأعضاء البشرية. وهي لجنة تنشأ بمقتضى القانون الجديد، تتبع وزير الصحة، وتتولى إدارة وتنظيم عمليات نقل الأعضاء”.
وطبقا للائحة التنفيذية، تشكل اللجنة الثلاثية في كل منشأة من الأطباء المتخصصين في أمراض أو جراحة المخ والأعصاب. وأمراض أو جراحة القلب والأوعية الدموية، والتخدير أو الرعاية المركزة، تختارها اللجنة العليا لزرع الأعضاء البشرية بناء على ترشيح المنشأة.
وطبقاً للقانون، فإنّ أي محاولة لاستئصال أعضاء الميت قبل موافقة اللجنة، سيعاقَب مرتكبها بالسجن المؤبد وغرامة تصل لـ300 ألف جنيه. وكذلك نص القانون على أنه “لا يجوز نقل أي عضو أو جزء من عضو أو نسيج من جسم إنسان حي إلى جسم إنسان آخر. إلا إذا كان ذلك على سبيل التبرع فيما بين الأقارب من المصريين حتى الدرجة الرابعة”. وطبقاً للقانون أيضاً، تقوم الدولة بتمويل عمليات نقل الأعضاء للمرضى الفقراء على أن تقرر لجنة متخصصة ما الحالات ذات الأولوية.
ويُنشأ صندوق للمساهمة في نفقات نقل وزراعة الأعضاء والأنسجة لغير القادرين، يطلق عليه “صندوق المساهمة في تمويل زرع الأعضاء البشرية”. وهو يتبع وزير الصحة، ويصدر بتنظيمه وتشكيل مجلس إدارته وتحديد اختصاصاته قرار من الوزير.
18 عامًا من المحاولات
جاء هذا القانون بعد تقديم نقابة الأطباء لمسودة قانون تنظيم التبرع بالأعضاء منذ 18 عامًا. لعدة أسباب من بينها مكافحة التجارة غير القانونية في الأعضاء، وإنقاذ حوالي 42 ألف مريض في مصر يحتاجون لنقل الأعضاء.
وقتها أشادت منظمة الصحة العالمية بالمسودة. وقال الدكتور حسين الجزائري المدير الإقليمي للمنظمة إن “صدور القانون خطوة رائعة تبعث الأمل في نفوس آلاف المرضى الذين يحتاجون لنقل الأعضاء لإنقاذ حياتهم. كما يقضي على التجارة غير الشرعية في هذا المجال. والتي كانت تتم في أجواء تضر بكل من المنقول إليه والمنقول منه، على حد سواء”.
وأشارت المنظمة إلى أن غياب تشريع منظم لعملية نقل الأعضاء مهد الطريق لانتعاش تجارة غير مشروعة في هذا المجال بمصر. ويقدم المتبرعون الأحياء نسبة غير قليلة من احتياجات العالم من الكلى، طبقاً لتقديرات منظمة الصحة العالمية.
وأوضحت أن معظم هؤلاء المتبرعين من الفقراء والمهمشين الذين يبيعون كلاهم مقابل مبالغ مالية. ويحظر القانون التعامل في أي عضو من أعضاء جسم الإنسان أو جزء منه أو أحد أنسجته على سبيل البيع أو الشراء أو بمقابل مادي أو فائدة عينية للموافقة على النقل.
أبواب مغلقة
وأمام طرق أبواب الأقارب والأصدقاء، حاول “إياد” البحث عن متبرع لمساعدة شقيقه الأصغر الذي أصيب بفشل كلوي. وهو ما يضطره للجوء لعمليات الغسيل أكثر من مرة خلال الأسبوع.
يقول “إياد”، الذي ينتمى إلى الطبقة الفقيرة: “عرضت على شقيقي التبرع وبعد فحوصات لم تتطابق فصائل الدم. ولذلك بحثت عن متبرع ولم أجد”. وأشار إلى أن آلام شقيقه تفوق حد التحمل، الأمر الذي يجعله مؤيدًا لفكرة التبرع الأعضاء.
وتشير إحصائية الجمعية المصرية لأمراض وزراعة الكلى إلى أن عدد مرضى الفشل الكلوي في مصر غير محدد، ويخضع حوالي 50 ألفًا منهم إلى عمليات الغسيل الكلوي. في حين يخضع للفحص أعداد مضاعفة لهذا الرقم. أما تكلفة العلاج فقد أشارت الجمعية إلى أن 40 ألف جنيه مصري سنويا هي تكلفة علاج مريض واحد.
مبادرات مجتمعية
سبقت دعوات الفنانين، مبادرات مجتمعية لفتح باب جرى إغلاقه لسنوات طويلة، رغم توافر القانون. واحدة من تلك المبادرة أطلقها المهندس يوسف راضي في 2018 على “فيسبوك”. وقال “الجروب يقوم عليه مجموعة من الشباب مؤمنون بأهمية التبرع بالأعضاء بعد الوفاة لإنقاذ حياة المرضى. وإعطاء حياة أفضل لهم ولمواجهة تجارة الأعضاء”.
نشر “يوسف” حملته بعد توثيق رغبته في التبرع بأعضائه أمام مصلحة الشهر العقاري وهو في عمر الـ 26 عاما. ولفت النظر إلى أنه ليس الوحيد، بل نشر نماذج إقرار التبرع بالأعضاء موثقة بالشهر العقاري منذ عام 2017 وحتى 2020.
وعلى الجروب، نشرت سارة فؤاد المشاركة في تأسيس المبادرة، خطوات تبرع بالأعضاء. وأوضحت أنه على المتبرع أن يقوم بملء نموذج إقرار التبرع، ثم توثيقة بالشهر العقاري، وتسلميه إلى اللجنة العليا لزراعة الأعضاء.
اللافت في القضية المثارة ليست الآراء الرافضة، ولكن ثمة مؤيديون للفكرة لكنهم يجهلون طرق التنفيذ، أو من أين يبدأون.
وأمام قلة عدد المتبرعين، فمنهم من يؤيد الفكرة ولكن تحول الثقافة المجتمعية عن تنفيذها، ومنهم من يرفضها، يشير يوسف إلى أن اللجنة العليا لزراعة الأعضاء لا تفعِّل القانون بسبب قلة المتبرعين. وأوضح أن زيادة العدد تساهم في تفعيل القانون بشكل قوي وتساعد الكثير على العلاج ومواصلة حياتها مرة أخرى.
لماذا تغيب ثقافة التبرع بأعضاء المتوفى؟
ويشير راضي إلى أن سبب قلة عدد الراغبين في التبرع بالأعضاء يعود إلى عدم معرفة موظفي الشهر العقاري بالإجراءات. وهم بذلك يخشون التوثيق، بالإضافة إلى أن الغالبية منهم لا يعلمون بأن هناك قانونا ينظم عملية التبرع.
“أنت أول واحد يعمل كده”، كانت تلك كلمات الموظف بالشهر العقاري حين قام بالتوثيق إقراره في 2017. بعد أن قابل رفضًا بسبب الجهل بالقانون، حتى أطلع الموظف عليه.
وعن عدد من قاموا بالتوثيق وأرسلوا إلى المبادرة، يشير راضي إلى أن وجود 7 أشخاص من مكاتب المعادي والزيتون ومدينة نصر ومصر الجديدة وبدر وبورسعيد. وقال إن الثقافة السائدة في مصر هي التبرع بالأعضاء من حي لشخص حي آخر. ولكن من متوفي لحي لم يطبق حتى الآن، متنميا تطبيق ذلك في القريب.
وعن المستشفيات المتاح لها إجراء عمليات نقل الأعضاء فور تفعيل المنظومة. أوضح مؤسس جروب التبرع بالأعضاء، قائلا: “مخطط البدء بـ 4 مستشفيات في البداية، هي مستشفيات جامعات عين شمس والقاهرة والمنصورة والقوات المسلحة”.
دوافع إنسانية
وفي عيد مولده الـ55، أفصح “حسن” عبر صفحته الشخصية في “فيسبوك”، عن وصيته. وقال: “أنا متبرع بما يصلح من أعضائي بعد وفاتي”، مؤكدًا أنّ إقدامه على ذلك الفعل، هو تبشير بالخير وليس تنفير.
أما “آية” فقد عادت 6 سنوات إلى الوراء، حين عانى جدها من ميكروب في الدم أثر على جسده بشكل مبالغ. وهو ما اضطره لاستئصال العين اليسري، وبعد البحث كثيرًا عن متبرع وكيفية التبرع، لم تجد سبيلاً لمحاولة إنقاذ حياة جدها الذي توفى. ومنذ ذلك الموقف قررت أنها ستكون متبرع لأي فرد حال وفاتها.
وبدافعها الإنساني، رغبت في التبرع بأعضائها خاصة “الرحم”. وقالت: “نفسي اتبرع بيه أوي لوحده نفسها تخلف”، مقررة السير في إجراءات التوثيق. والتي تشمل الذهاب إلى الشهر العقاري باستمارة “تبرع أعضاء”، محملة بالبيانات الشخصية، ليتم توثيقها.
تحريك القانون الراكد
إلى ذلك، تحركت المياه الراكدة حول تفعيل قانون زرع ونقل الأعضاء، فقد أعلن الدكتور أشرف حاتم، رئيس لجنة الصحة بمجلس النواب، عن قرب تطبيق قانون التبرع بالأعضاء. وأشار إلى عدم اعتراض أي مؤسسة بالدولة على القانون.
وأضاف حاتم، في مداخلة هاتفية مع برنامج “على مسئوليتي” المذاع عبر قناة “صدى البلد”، أن القانون صدر عام 2010 وصدرت لائحته التنفيذية عام 2017. وقال إن مجلس النواب سيتعاون مع الحكومة لحل أي مشاكل في التطبيق من خلال التعديلات التشريعية. كما لفت إلى أن قانون التبرع بالأعضاء سيكون على أولويات التشريع في لجنة الصحة.
وأشار إلى إمكانية نقل القلب أو الرئة أو القرنية أو الكلية من شخص متوفى لإنقاذ حياة شخص آخر. وإمكانية إدخال بعض التعديلات التشريعية على القانون حتى لا يعيق المشرع التنفيذ.
وأمام تخوف البعض من حفظ الأعضاء داخل بنوك مخصصة، أشار الدكتور محمود المتيني عميد كلية طب عين شمس، سابقا، ورئيس الجامعة حاليا، خلال لقائه في برنامج “حلقة الوصل”، إلى أن بنك حفظ الأعضاء ليس للأعضاء الحيوية ولكنه للأنسجة؛ أي بنك لصمامات القلب والقرنية والعظام. لكنّ القلب والرئة والكلى، يتم زرعها فور استئصالها من الجسد، خلال ساعات، وتحفظ في سوائل معينة، وفي درجة حرارة 4+.
الحكم الديني
على الصعيد الديني، حسمت دار الإفتاء والأزهر الأمر، بالاتفاق على مشروعية التبرع بالأعضاء بعد الموت، وفق عدة شروط.
وقالت دار الإفتاء، عبر موقعها الرسمي، إن من وسائل المحافظة على النفس والذات: “نقل وزرع بعض الأعضاء البشرية من الإنسان للإنسان. سواء من الحي للحي أو من الميت الذي تحقّق موته إلى الحي، وهذا جائز شرعًا إذا توافرت فيه شروط معينة. وإذا لم توجد وسيلة أخرى للعلاج تمنع هلاك الإنسان، وقرر أهل الخبرة من الأطباء العدول أن هذه الوسيلة تحقق النفع المؤكد للآخذ. ولا تؤدي إلى ضرر بالمأخوذ منه ولا تؤثر على صحته وحياته وعمله في الحال أو المآل”.
الأمر نفسه، أكده أعضاء مجمع البحوث الإسلامية في سنة 2009. حين جرى الاتفاق على جواز نقل الأعضاء من الإنسان “الذي يثبت موته موتا حقيقيا يقينيا طبيا وشرعيا وأن يقر ذلك ثلاثة من كبار الأخصائيين بالإجماع على أن يكون التبرع بدون مقابل مادي”.