أثارت حالة الاستقطاب الحادة التي شهدها السودان بين المكون المدني والعسكري، مخاوف كثيرين على مستقبل العملية الانتقالية في ظل استمرار نظام هش قائم على الموائمات وغير قادر على الإنجاز حتى 2024.
أزمة أعمق
لا يمكن اختزال الوضع في السودان على أنه مجرد تكرار لسردية صراع بين حكم عسكري استبدادي ومدني ديمقراطي، إنما هي في الحقيقة أزمة أعمق بين حالتين أحدهما يعتبر أن هدفه الرئيسي هو فصل الموظفين والقضاة من أعمالهم تحت حجة تفكيك النظام المعزول، أو يعتبر أن ورقته الأساسية في تحقيق أهداف الثورة هي الاحتجاج والشارع في مقابل حالة أخرى ترى أن الأهم هو جلب الاستقرار والحفاظ على الدولة الضعيفة من الانهيار حتى لو تأجلت الديمقراطية أو غابت.
والحقيقة أن اختزال التوتر الحادث في السودان وكأنه معركة بين قوى خير وشر لن يحل المشاكل المتراكمة، بل سيعمق من الشرخ الحادث داخل البلاد، ولن تكون نتائجه في صالح المكون المدني ولا قوى الحرية والتغيير.
ولعل المهمة الأولى التي يجب على القوى المدنية أن تعمل عليها هي عدم تركيز كل طاقتها في لجنة إزالة التمكين وعزل قيادات النظام القديم مثلما فعلت بعض القوى الثورية في مصر حين اختزلت أهداف ثورة يناير في “عزل الفلول” وإقصاء الحزب الوطني، أو مد الفترة الانتقالية حتى وصلت إلى حوالي ست سنوات وهو توجه لا يصب أيضا في صالح المكون المدني ومع ذلك أصر عليه، أو اعتبار المظاهرات الاحتجاجية حتى لو نجحت في حشد متوسط كما حدث في مظاهرات يوم الجمعة الماضية، هي الطريق الوحيد او الأساسي لتحقيق أهداف الثورة، وليس بناء مشروع حزبي وسياسي قادر على تقديم حلول جديدة وغير تقليدية لبلد يعاني من انقسام مناطقي وقبلي وأزمة اقتصادية وسياسية عميقة.
والمؤكد أن الأزمة الأعمق والحقيقية في السودان تكمن في تعدد مراكز صنع القرار والسيولة السياسية، بجانب ملف الفصائل المسلحة المعقد، ومشاكل الشرق التي لم تنته سواء بدعوات الاستقلال أو العصيان المدني، وأخيرا شعور قطاع متزايد من الشعب السوداني وكثير منه مثل حاضنة للثورة وقوى الحرية والتغيير، بعدم فاعلية البيئة الحاضنة للحكومة المدنية وضعف مؤسسات السلطة الانتقالية وعدم قدرتها على حل المشاكل الاقتصادية، وهي كلها أمور تخصم اكثر من رصيد المكون المدني الذي قاد الثورة ودفع المؤسسة العسكرية لدعمها، لأن نجاحات المرحلة الانتقالية أو إخفاقاتها سيتحملها أساسا المكون المدني ليس لأنه يحكم بمعزل عن المكون العسكري، إنما لأن هذه الشراكة يراها كثير من السودانيين نتاج الثورة التي قادتها قوى الحرية والتغيير المدنية، وبالتالي الفشل ستتحمله بصورة أكبر.
والحقيقة أن أجواء الفوضى والانقلابات وتزايد مخاطر الإرهاب (بصرف النظر عما إذا كان هناك طرف يستفيد منه) والسيولة السياسية والانقسام المناطقي والقبلي بجانب التراشق السياسي بين المكونين المدني والعسكري، في وقت تعاني مؤسسات الدولة من ضعف حقيقي، كما يحتاج الجيش إلى إصلاح ودمج لقوات الدعم السريع داخل هياكله، وهي تحديات “وجودية” لا تحتاج إلى احتجاجات الشارع إنما إلى تفاهمات السياسة بين المكون المدني والعسكري حول المرحلة “ما بعد الانتقالية” بدلا من لعبة ضغط الأصابع التي يمارسها الطرفان.
إن السؤال الذي يجب أن يطرحه كل سوداني مؤمن بالانتقال الديمقراطي ودولة القانون لماذا على مدار 65 عاما وتحديدا منذ استقلال السودان عام 1956، كان الأساس هو الحكم العسكري وليس المدني، فقد شهدت البلاد طوال هذه الفترة 3 انقلابات عسكرية وعددا من المحاولات الانقلابية الفاشلة، إضافة إلى ثورتين شعبيتين أطاحتا بحكمين عسكريين. كما شهد السودان منذ الاستقلال 47 عاما من حكم العسكريين على ثلاث فترات، مقابل 15 عاما لحكومات مدنية ديمقراطية لثلاث فترات أيضا وعامين لحكم مشترك بين المكونين المدني والعسكري لأول مرة في تاريخ السودان.
إن ما يجب أن يركز علية المكون المدني، هو لماذا فشلت التجارب المدنية في السودان؟ وهل كان ذلك بسبب اختيارها للنظام البرلماني الذي كرس الانقسامات الحزبية وسوء الأداء والفوضى فأعطي مشروعية شعبية وسياسية لتدخل الجيش لتولي السلطة، أما لأسباب إضافية؟ وذلك بعيدا عن الإدانات الأيدولوجية والمشاريع الإقصائية.
تجاوز الأزمة
الأسئلة الخاطئة تولد إجابات خاطئة، وإن تصوير المشكلة في السودان على أنها “عسكر ومدنيين” كما يقول البعض خطأ كبير لأنها بالأساس هي أزمة بين مشروع يراه قطاع متزايد من السودانيين منقسم على ذاته غير قادر على السيطرة والحكم وهو يتطلب الرهان على مشروع الجبر والانضباط، الذي ظهر في بلاد كثيرة على يد زعماء مدنيين وغير عسكريين مثل حالة قيس سعيد في تونس، أي أن القضية أكثر عمقا وتعقيدا من تبسيطها في قضية الحكم العسكري.
إن معضلة بناء النظام المدني الديمقراطي في السودان لا تقوم على إدانة أهم ما أنجزته الثورة السودانية عبر تفاوض مثمر وخلاق وهي الشراكة بين المدنيين والعسكريين، والتي وصفها الحزب الشيوعي السوداني وبعض القوى الثورية بأنها شراكة دم يجب فكها، في حين أن المطلوب التمسك بها بالنواجذ.
إن التحدي الحقيقي هو في تغيير الإطار السياسي الذي يمكن أن ينتج حكم شمولي مدعوم شعبيا بحجة مواجهة الفوضى والتسيب، وذلك عبر تدعيم الشراكة بين المدنيين والعسكريين وليس فكها، ومحاولة إنهاء المرحلة الانتقالية العام المقبل وفق الجدول المحدد سابقا قبل التوقيع على اتفاق جوبا السلام، وأخيرا طرح تصور لشكل النظام السياسي القادم وضرورة الابتعاد عن النظام البرلماني لصالح النظام الرئاسي الديمقراطي.
قد يكون الفريق البرهان نفسه حلا في حال إذا انتخبه الشعب كأول رئيس بعد الثورة أو شخصية آخري من خلفية عسكرية يمكن أن تكون بمثابة “الرجل الجسر” بين القوى المتصارعة، وأن تطمأن المؤسسة العسكرية بأن تسليمها للسلطة لن يدخل البلاد في فوضي ولن يضر بوجودها وليس فقط مصالحها.
يقينا هناك أوراق يمتلكها الجانبان، ولكن المؤكد أن ورقة الشارع والاحتجاج التي يمتلكها المكون المدني ويعتبرها البعض ورقته الأساسية أضرارها في الوقت الحالي أكثر من نفعها لأن الاعتماد عليها سيفقد المكون المدني جانب كبير من حاضنته الشعبية التي ترغب في تحسين الأوضاع المعيشية والأمنية، كما أنه يحتاج إلى التمسك بأهم إنجازات الثورة السودانية وهي التفاوض والحوار وتقديم البدائل حتى يعبر السودان المرحلة الخطرة ويؤسس لتحول ديمقراطي ودولة قانون.