“تقديراً لسرده المتعاطف والذي يخلو من أي مساومة لآثار الاستعمار ومصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات”. هذا هو السبب الذي أعلنته الأكاديمية السويدية، المانحة لجوائز نوبل، كحيثية فوز الأديب التنزاني عبد الرزاق قرنه، بجائزة الآداب لعام 2021. بعدما أشادت بـ”تمسّكه بالحقيقة وإحجامه عن التبسيط”.
وفور الإعلان عن فوزه، أصابت وسائل الإعلام العربية حالة ضخمة من التخبط. أسرعت الصحف والمواقع في استدعاء مترجميها، للبحث عن أية معلومة تخص الرجل الذي لا نعرف عنه شيئًا. حتى أن الجميع أخطأ في كتابة ولفظ اسمه.
التنزاني المجهول
هناك من وضع بجوار عبدالرزاق اسم “قرنه”، وآخر “جرنة”، والبعض كتب “قرانه”. بينما اكتفى آخرون بالتهليل للأصول اليمنية للرجل. فوالده ينحدر من أسرة يمنية، بينما تعد والدته تنزانية من موباسا، فيما يعيش حالياً في بريطانيا.
يمتلك الأديب والناقد التنزاني، البالغ من العمر 73 عاماً، 11 إصداراً أدبياً، ومجموعة من القصص القصيرة، والرسائل البحثية. وعمل أستاذاً للغة الإنجليزية والآداب “ما بعد الاستعمار”، في جامعة “كنت”، حتى تقاعد مؤخراً. كما حرر العديد من المجلدات الأدبية في الفترة نفسها. وكتب المئات من المقالات النقدية والبحثية.
فور فوزه. ظهر قرنه على الموسوعة الشهيرة “ويكيبيديا” باللغة العربية. احتوت الصفحة معلومات قليلة باسم “عبد الرزاق قورنة”، وتضمن سطورًا حول نشأته وسفره لبريطانيا. كذلك بعض العبارات عن مساره الوظيفي، ثم تعداد لأعماله التي لم يُترجم أيًا منها للعربية.
أما الموضوعات المنتشرة على المواقع وصفحات التواصل الاجتماعي، فهي تتشابه جميعًا. نفس المعلومات البسيطة المستقاة من صحف مثل “الجارديان” و”الأوبزرفر” وغيرها. على عكس العرب، يعرف البريطانيون الرجل، الذي رُشِحت روايته “الجنة” 1994، إلى القائمة القصيرة لجائزتي “بوكر” و”وايتبريد”.
ما بعد الاستعمار
“إنه أمر رائع. إنها جائزة كبيرة، وسط لائحة ضخمة من الكتاب الرائعين. ما زلت أحاول استيعاب الأمر”.. قالها قرنه للصحفيين الذين أسرعوا بإحاطة منزله الهادئ الذي اختار التقاعد فيه. كان في المطبخ مشغولًا بإعداد شيء ما، في الوقت الذي كان العالم كله مشغول به فيه.
قال: “كانت مفاجأة، ولم أصدق الأمر حتى سمعت الإعلان”.
بقي الرجل مجهولًا لمن لا يُتابع الآداب المكتوبة بالإنجليزية. رغم أنه حاضر في جامعة بايرو كانو فى نيجيريا، ثم انتقل إلى جامعة كنت، حيث حصل على درجة الدكتوراه في عام 1982. وعمل أستاذًا ومديراً للدراسات العليا هناك في قسم اللغة الإنجليزية حتى تقاعد.
انصب اهتمام قرنه الأكاديمي الرئيسي في الكتابة عن مرحلة ما بعد الاستعمار، وفى الخطابات المرتبطة بالاستعمار. خاصة فيما يتعلق بأفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي والهند. لذا، حرر مجلدين من المقالات حول الكتابة الإفريقية، ونشر مقالات عن عدد من الكتاب المعاصرين ما بعد الاستعمار.
أما رواياته، فهي حسب ترتيب صدورها بالإنجليزية: ذكرى المغادرة (1987)، طريق الحج (1988)، دوتى (1990)، الجنة (1994)، الإعجاب بالصمت (1996)، عن طريق البحر (2001)، الهجر (2005)، الهدية الأخير (2011)، القلب الحصى (2017)، الآخرة (2020).
ابن أفريقيا
“لم أستوعب بعد أن الأكاديمية قررت تسليط الضوء على هذه المواضيع المتجذّرة في أعمالي كلها. ومن المهمّ التطرّق إليها والنقاش فيها”. هكذا أعرب الأديب التنزاني عن سعادته بالفوز بالجائزة في تصريحات لوكالة “بي ايه” البريطانية.
وفي مقابلة مع مؤسسة نوبل. دعا الفائز بنوبل الآداب لعام 2021 أوروبا، إلى اعتبار اللاجئين الوافدين إليها من أفريقيا “ثروة”، حسب قوله. ولفت الرجل الذي يعيش في منفاه الإنجليزي بعد هروبه من تنزانيا “هؤلاء لا يأتون فارغي الأيدي”.
وأضاف: كثير من هؤلاء يأتون بدافع الضرورة. ولأنهم بصراحة يملكون ما يقدّمونه”. داعياً إلى تغيير النظرة إلى من وصفهم بـ “أشخاص موهوبين ومفعمين بالطاقة”.
كان عبد الرزاق نفسه واحدًا من أصحاب الدماء الحارة، الذين تعين عليهم أن يشقوا طريقهم بصعوبة في بلاد باردة. فالرجل المولود في زنجبار. وهو أرخبيل يقع قبالة ساحل أفريقيا الشرقية. هاجر إلى بريطانيا في نهاية الستينيات بعد بضع سنوات من الاستقلال. ولم يتسنَّ له أن يعود إلى زنجبار سوى في عام 1984.
ورغم ما قاساه في فترة ما بعد الاستعمار وهروبه من البلاد. اعتبرت الحكومة التنزانية أن تكريم مواطنها “يشكّل فوزاً لتنزايا وللقارة الأفريقية برمتها”.
اللاجئ
“في عالم القرنه الأدبي كل شيء يتغير. الذكريات والأسماء والهويات. ربما يكون هذا بسبب أن مشروعه لا يمكن أن يكتمل بأي معنى نهائي”.
كان هذا رأي الأكاديمية السويدية، التي رأت أن تفاني الروائي التنزاني في الحقيقة ونفوره من التبسيط هو أمر “ملفت للنظر”.
سلطت أعمال قرنه الضوء على حياة اللجوء والشتات، وانعكاساتها على إعادة تشكيل الهوية. كذلك عالج في رواياته قضايا الهجرة والتاريخ والعنصرية. وعرف عبد الرزاق بتغلغله الحازم والمتعاطف في تأثيرات الاستعمار ومصير اللاجئين.
في روايتيه “الإعجاب بالصمت” 1996 و “عن طريق البحر” 2001. تناول الرجل الذي خرج من بلاده في مطلع الشباب تجربة اللاجئ. وركز فيهما على الهوية والصورة الذاتية. جاءت كلتا الروايتين من منظور الشخص الأول، حيث يتم تقديم الصمت على أنه استراتيجية اللاجئ لحماية هويته من العنصرية والتحيز. لكنه كذلك وسيلة لتجنب الاصطدام بين الماضي والحاضر، مما ينتج عنه خيبة أمل وخداع ذاتي كارثي.
كذلك في روايته الثالثة “دوتي” 1990، خاض تجربة أخرى. فروى عن أفريقية سوداء من أصول مهاجرة، نشأت في ظروف قاسية في إنجلترا، في فترة الخمسينيات المليئة بالعنصرية تجاه كل من هو ليس أبيض ساكسوني. أبدع في تصوير شعور المرأة التي عاشت تظن أنها بلا جذور في إنجلترا، رغم أنها البلد الذي ولدت فيه ونشأت فيه.