“ستُمنح الجائزة قريبًا لبشار الأسد بعد قتله مئات الآلاف من النساء والأطفال، ما في حد أحسن من حد”. كان هذا تعليق ساخر لأحد الذين تتبعوا سير مجرمي الحرب الذين منحتهم اللجنة النرويجية (نوبل) جائزتها للسلام.
والجمعة، أعلنت اللجنة منح جائزة نوبل للسلام للصحفييْن الفيليبينية ماريا ريسا والروسي دميتري موراتوف، نظير “كفاحهما الشجاع من أجل حرية التعبير” في بلديهما. وبذلك تكون المرة الأولى في تاريخها تكرِّم الجائزة الصحافة المستقلة. لكن تاريخها مليء باللغط الذي استدعته المعايير التي تستند إليها المؤسسة في منح جوائزها، خاصة في شق “السلام”.
“جزارو نوبل”.. القوس مفتوح
من الثلاثي الإسرائيلي “مناحم بيجن، إسحاق رابين، شمعون بيريز” إلى الأمريكيين هنري كيسنجر وثيودور روزفلت، مرورًا بالسياسية البورمية أونغ سان سوتشي التي أصبحت لاحقًا رئيسة للوزراء، وصولاً لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد.
جميعهم منحوا الجائزة تحت شعار “دورهم في إرساء السلام”، أغلب تلك الجوائز جاءت في أعقاب اتفاقيات أمنية لإنهاء سنوات الحرب. بيد أن مانحي الجائزة تجاهلوا فترة ما قبل التوقيع على معاهدات السلام، باعتبارها مرحلة شهدت مجازر وانتهاكات جسيمة.
لكن ثمة ملاحظتين مهمتين إزاء المنطق الذي اعتمدت عليه الجائزة، الأول أن هؤلاء استكملوا الانتهاكات والجرائم بعد حصولهم على درع السلام. والثاني أن منطق اللجنة النرويجية يبدو معيوبًا من حيث أن تلك المعاهدات لم تنجم عن “حب هؤلاء القادة للسلام” بقدر ما كانت لأسباب أخرى تتعلق بصعوبات اقتصادية وسياسية وأمنية في ساحة القتال، بدليل أن أغلبهم واصل القتل في مناطق أخرى.
يحتفظ زعماء الحرب هؤلاء بدرع للسلام في منازلهم، بينما يحتفظ التاريخ بسجلٍ حافل بالانتهاكات والجرائم، التي وثّقتها كل المحافل الدولية. وهو ما يضع علامات استفهام كثيرة في نهاية شعار الجائزة النرويجية: أيُّ سلام تقصد؟
آبي أحمد.. “المتطرف المتهم بالتطهير العرقي”
أحدث “الجزارين” المحتفظين بدرع السلام في بيوتهم، هو رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، الذي وصفته صحيفة “لوموند” الفرنسية، بـ”المتطرف”. وذلك عندما نشرت مقالاً طويل بعنوان “أمير الحرب الحاصل على جائزة نوبل للسلام”.
البروفسور والمؤرخ الفرنسي، جان بيير فيليو، أعاد قبل أيام تذكير العالم بأن ثمة مجرماً يوغِل في تطرفه ويحتفظ بجائزة السلام. المؤرخ الفرنسي وهو خبير في قضايا الشرق الأوسط قال إن آبي أحمد أطلق العنان لـ”حرب الأبواب المغلقة” ضد إقليم تيغراي وترك إثيوبيا غارقة في الدماء.
حصل آبي أحمد على الجائزة في ديسمبر 2019 لإنهائه الصراع الدموي مع إريتريا. لكن بعد شهور نقلت وسائل إعلام دولية ووثقت تقارير أممية انتهاكات بالجملة في أنحاء البلاد، وصلت إلى “جرائم حرب” وتطهير عرقي، على وقع عمليات قتل واغتصاب وتشريد ومنع الغذاء عن إقليم تيغراي.
قبل أيام نشرت صحيفة “زود دويتشه تسايتونج” الألمانية تقريرًا طويلاً وصفت آبي أحمد بـ”أمير الحرب”. وطالبت بسحب الجائزة منه، على وقع حرب وحشية ضد إقليم تيغراي، تحوّل خلالها رئيس الوزراء الإثيوبي إلى “شخص نرجسي”.
ومنذ حصل على الجائزة وحتى توليه ولاية ثانية قبل أيام لم تتوقف المطالبات الحقوقية والتقارير الدولية عن المطالبة بتجريده من الجائزة، ومحاكمته على الجرائم التي ارتكبها منذ تولى منصبه.
أونغ سان سوتشي.. الحقوقية التي أصبحت “مجرمة”
آبي أحمد، وإن كان الأخير، لكنه ليس الوحيدًا فقد سبقته سنوات عاصفة من الجدل والغضب الحقوقي الدولي، جراء الانتهاكات التي ارتكبتها رئيسة حكومة ميانمار أونغ سان سوتشي، الحاصلة على الجائزة في العام 1991.
منحت الزعيمة السياسية “سوتشي” درع السلام نظير “كفاحها من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في ميانمار”. لكن عندما تولت منصب رئيسة الحكومة تضررت سمعتها للغاية على الساحة العالمية، بسبب حملة التطهير العرقي التي تستهدف مسلمي الروهينغا في بورما.
وفي نوفمبر 2018 جردت منظمة العفو الدولية “سوتشي” من جائزة “سفيرة الضمير” التي منحتها إياها عام 2009، لأنها “خانت القيم التي كانت تدافع عنها سابقا”.
أحدث الزعيمة البورمية صدمة دولية إزاء تغير صورتها من رمز حقوقي ناضل لسنوات “الحكم الفاشي” في بلادها، إلى متهم بجرائم حرب ومجازر بعدما وصلت للسلطة في 2015.
“سوتشي” التي لم تدافع عن مسلمي الروهينغا، باتت مسؤولة عن عملية وصفتها الأمم المتحدة بأنها “حملة تطهير عرقي”. ومنذ ذلك الحين خلعت العديد من المنظمات الدولية رداء الشرف الحقوقي عن الزعيمة البورمية. فبالإضافة لمنظمة العفو الدولية، جردتها كندا من جنسيتها الفخرية، كما سحبت منها مدن عديدة بريطانية بينها غلاسكو وأدنبره وأوكسفورد من لقب مواطنة فخرية، وسحب منها متحف المحرقة في واشنطن جائزة إيلي فيزل.
آبي أحمد وأونغ سان سوتشي، هما أحدث اثنين في الألفية الحديثة، لا يزال الجدل مصاحبًا لمنطق السلام الذي حازا عليه. وسط مطالب بمحاكمتهما على الجرائم المرتكبة، وليست فقط تجريدهما من الجوائز. لكن سبقهما عدد آخر من “جزاري نوبل”، المتهمين بجرائم ويحتفظون بدروع السلام.
ثلاثي إسرائيل.. الدم الفلسطيني سلام!
ولا يزال “سجل نوبل” يحتفظ بصور الثلاثي الإسرائيلي “مناحم بيجن، إسحاق رابين، شمعون بيريز”، باعتبارهم صانعي السلام. بينما يحتفظ “سجل الحرب” بسلاسل الدم التي لن يمحوها التاريخ من دفاتره.
“بيجن السفاح”
“السفاح بيجن” كما تسمه التقارير الدولية، حصل في عام 1978 على جائزة نوبل للسلام مناصفة مع الرئيس المصري محمد أنور السادات بسبب توقيع اتفاقية كامب ديفيد.
ومنذ وصوله الأراضي الفلسطينية في أربعينيات القرن الماضي، كوّن بيجن عصابات “الأرجون” التي ارتكبت المجازر في حق الشعب الفلسطيني. ومن أشهرها مذبحة دير ياسين التي قتل فيها أكثر من 360 فلسطيني أعزل، وذكرها بيجن نفسه في كتابه “التمرد- قصة أرجون”.
وبعد حصوله على جائزة نوبل للسلام، وتحديدًا في عام 1981 أمر بقصف المفاعل النووي العراقي. وفي عام 1982 أمر باحتلال جنوب لبنان كما صرح بأن “الفلسطينيين وحوش تمشي على قدمين”.
واشتركت عصابات “الأرجون” التي تزعمها بيجن مع منظمتي “شتيرن” و”الهاغاناه” في اغتيال عضو العائلة السويدية المالكة ألكونت فولك برنادوت. الذي كان رئيسا للصليب الأحمر السويدي واختارته الأمم المتحدة ليكون وسيطًا للسلام بين العرب والإسرائيليين.
إسحاق رابين.. مهندس ترحيل الفلسطينيين
في كتابه التطهير العرقي لفلسطين يقول المؤرخ اليهودي إيلان بابي إن إسحاق رابين هو “أحد مهندسي ومخططي ومنفذي عملية ترحيل الفلسطينيين التي نفذتها الحركة الصهيونية على أرض فلسطين”. حصل رابين على جائزة نوبل للسلام عام 1994 مع ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية وشيمون بيريز وزير خارجيته، لدورهم في اتفاقية أوسلو.
جاء رابين من وسط العصابات اليهودية وجرائم القتل غير المنظم، إلى مقعد القتل الرسمي، فقد كان في 1941 أحد كبار قادة عصابات “الهاغاناه“. وعندما اندلعت حرب 48 عين قائدًا لسرية “هارئيل” التى قاتلت فى القدس.
“طباخ السم بيدوقه”.. مثل شهير ينطبق على حياة “رابين” الذي كان أحد أهم متخذي القرار في الشؤون العسكرية والأمنية في إسرائيل. انتهت حياته في نوفمبر 1995، خلال مهرجان خطابي في ميدان “ملوك إسرائيل” بتل أبيب، برصاصات وجهها إلى جسده اليهودي المتطرف إيجال أمير.
بيريز.. تخصص مجازر
أما شريكه الآخر في اتفاق أوسلو “شمعون بيريز”، فلا يقل جرما عنه، فهو أحد مهندسي سياسات الاستيطان. حيث أصدر أول تصاريح لبناء المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك عام 1974، عندما كان وزيرًا للدفاع في حكومة إسحاق رابين.
أيضًا كصديقه رابين، كان بيريز أحد قادة عصابات “الهاغاناه“، التي كانت نواة فيما بعد لإنشاء جيش الاحتلال. بعدما ارتكبت عشرات الجرائم، من القتل والاغتيال والتهجير وغيرها؛ لكن “مجزرة قانا” في جنوب لبنان عام 1996 تبقى وحدها أبشع جرائم بيريز على الإطلاق، نال بعدها لقب “قاتل الأطفال”.
كان بيريز تخصص مجازر بحق المدنيين، فعندما اقتحمت القوات الإسرائيلية جنين في أبريل 2002 ارتبكت ما باتت تعرف إعلاميا بـ”مجزرة جنين“. وخلال الفترة الرئاسية لبيريز، شن الاحتلال الإسرائيلي ثلاث حروب على غزة، من عام 2008 حتى عام 2014، أسفرت عن مقتل 3600 فلسطيني، حيث ارتكبت مجازر بحق المدنيين العزل.
للأمريكيين معايير أخرى.. السلام ليس حربًا
للأمريكيين نصيب ليس قليلاً من جوائر اللجنة النرويجية التي أيضًا ليس من المعروف كيف تجري عمليات تقييم لمستحقي لقب “ملك السلام”. ذلك أن الأمريكيين على وجه التحديد أثبتوا أن لهذا الدرع مآرب أخرى، ليس من بينها حقن الدماء، وإن كانت لا تخلو من مصالح سياسية.
هنري كيسنجر.. أغرب سلام لـ”نوبل”
هذه أغرب جائزة سلام منحت في تاريخ المؤسسة، فقد حصل عليها وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر، عام 1973، المتهم بجرائم حرب في كمبوديا، بزعم دوره في في التفاوض على اتفاقات باريس لإنهاء حرب فيتنام، لكنّ الحرب استمرت عامين بعد حصول كيسنجر على الجائزة، شهدت خلالها عمليات قتل وجرائم حرب بشعة. اللافت أيضًا أن الجائزة منحت في العام نفسه لوزير الخارجية الفيتنامي “لو دوك ثو”، لكنه رفضها، واستمرت الحرب حتى حقق الفيتناميون الشماليون النصر.
ثيودور روزفلت.. أكثر مواطني الولايات المتحدة حربًا
سبقت هذه الجوائز المثيرة للاستياء، حصول الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت، في عام 1906 على جائزة نوبل للسلام. بعد وساطته في الحرب بين روسيا واليابان. لكن الغريب أن روزفلت، صانع السلام للأشقاء، كان متهمًا بجرائم حرب خلال التدخلات العسكرية في الفلبين حتى عام 1902، وفي بنما عام 1903. وقتها سخرت وسائل الإعلام الأمريكية من الجائزة وكتبت صحيفة “نيويورك تايمز” تقول إن “ابتسامة عريضة أضاءت وجه العالم عندما مُنحت الجائزة لأكثر مواطني الولايات المتحدة حروبًا”.
.. لكن، هل يمكن سحب جائزة نوبل للسلام؟
عندما تزايد الضغط الدولي لسحب جائزة نوبل من آبي أحمد وأونغ سان سوتشي، خرجت اللجنة النرويجية المانحة للجائزة لحسم الأمر، بقولها استحالة الإقدام على تلك الخطوة.
لمطالعة النظام الأساسي لجائزة نوبل اضغط هنا
وعبر موقعها الإلكتروني، نشرت اللجنة بيانًا شارحًا إجراءات منح الجائزة واستحالة سحبها. وقالت إن وصية ألفريد نوبل ولوائح مؤسسة ألفريد نوبل تمنه سحب الجائزة من أي شخص كان ولأي سبب كان.
لمطالعة وصية ألفريد نوبل اضغط هنا
وقال رئيس معهد نوبل اولاف نجولستاد: “إن وصية ألفريد نوبل ولوائح المؤسسة لا تسمحان بسحب الجائزة سواء في الفيزياء أو الكيمياء أو الطب أو الأدب أو السلام”.