عدسات ومبادرات تحاول تسجيل ما تبقى من التراث النوبي، في محاولة لإحيائه بعد أن كان في طريقه للاندثار.
يعتبر هذا التراث جزءا من مكونات الهوية المصرية. وامتدادا أيضا للحضارة الفرعونية. بما يضمه من فنون وموسيقى وعمارة وتقاليد. تعرض للإهمال على مدار عقود. وفقا لآراء خبراء ومتخصصين. ما دفع المخرجة النوبية حفصة أمبركاب لمحاولة إحيائه من خلال عمل فني.
حفصة التي هاجرت من النوبة منذ سنوات. لم تنس مسقط رأسها. وأخرجت فيلما وثائقيا في 2019 عن تراث النوبة. يحكي الفيلم عن رحلة من النوبة إلى الإسكندرية والعكس. لتفاجأ حينها أنها لا تتذكر الكثير من كلمات لغتها الأصلية. التي تتذكر بعضا منها من والدتها التي كانت تطلب منها غناء مقاطع من الأغاني التي ترتبط بالتراث. فتردد أغنية للمطرب النوبي عبده الصغير، لتبدأ التفكير في البحث عن تراثها النوبي المتمثل في اللغة.
مشروع السد العالي تسبب في غرق عشرات من القرى النوبية عام 1964. ما أدى لهجرة العديد من الأسر. لتتسبب تلك الهجرة في نسيان العديد من الأسر اللغة النوبية. التي ليست لغة واحدة ولكنها عدة لغات. ليدفع هذا الأمر أميركاب للتجول بكاميرتها واكتشاف ما ضاع من اللغة والتراث مع الزمن. ومحاولة احيائه من خلال التوثيق بالصوت والصورة.
بداية الرحلة للبحث عن اللغة
بدأت أمبركاب الرحلة للبحث عن اللغة من أسوان. من خلال مبادرة تضم مجموعة من الشباب يعملون على إحياء التراث. عبر منتجات صنعت بأيدي أهل النوبة. لتبدأ من خلال تلك الرحلة تذكر ما نسيته من تراثها. فكانت تتحدث مع المشاركين والمشاركات باللغة العربية. وتتلقى الرد باللغات النوبية المختلفة. التي كانت تأتي من شباب وصغار منهم من لم يتخط الـ13 عاما. لتصف تلك الفجوة بأنها نتاج التهميش والنزوح. لتخرج بتجربة جديدة بالاستعانة بالمشاركين في المبادرة في عمل جديد. من خلال الصور يحكي عن اللغة النوبية التي يتمسك بها البعض حتى الآن برغم تعرضها للاندثار.
نشرت أمبركاب كُتيبا يضم 230 كلمة نوبية نادرة الاستخدام أو مندثرة، فيما يشبه القاموس. ويحتوي الكتيب على ترجمة للكلمات النوبية بـ3 لغات هي العربية والإنجليزية والإسبانية.
وتشير أمبركاب إلى أن العديد من الأسر لا ترغب في تعليم أولادها اللغة النوبية. خوفا من تعرضهم للتنمر أو النبذ في مجتمع لا يرحب بهم لأنهم من أصحاب البشرة السمراء.
اللغة الأصلية والعمارة
وتقول دراسة أعدّها مركز حدود للدعم والاستشارات -إحدى المنظمات الحقوقية المعنية بإحياء التراث النوبي-. إن نحو 30% فقط من قرى النوبة تتحدث اللغة الأصلية. وتتكون اللغة النوبية من 24 حرفا. منها 4 صوتية خاصة بأهل النوبة. و17 حرفا ساكنا و5 متحركة، وحرفان نصف متحركين.
وفق تقرير صادر عام 2017 عن مركز “هردو لدعم التعبير الرقمي”. تحت عنوان “القضية النوبية والحقوق الثقافية”. يبلغ عدد النوبيين في مصر نحو 4 ملايين شخص إلى جانب أكثر من 3 ملايين في الخارج.
التراث النوبي ليس فقط المشغولات اليدوية أو اللغة الأصلية فقط. ولكنه أيضا يمتد للعمارة وطرق البناء كما قال المهندس عماد فريد. الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العمارة البيئية. الذي يصف التراث النوبي بأنه شكل من أشكال البيت المصري الذي لا يختلف عنه كثيرا. في مواد البناء والشكل أيضا. وضرب مثال بالكنيسة النوبية، قائلا :”اتسمت بشخصيتها المعمارية المتفردة، النابعة من طبيعة البيئة والمناخ والخامات الموجودة في النوبة”، مشيرا إلى أن تلك الحضارة التي ساهمت في وجود التراث نتاج نهر النيل الذي يعيش على ضفافه أهل النوبة.
العمارة الحديثة
ويرى فريد أن التراث النوبي أصبح مهددا. بعد دخول العمارة الحديثة التي جاءت لتنسف العمارة التي خرجت بها منازل النوبة في القباب والتصميمات الفريدة. وأصبح الاتجاه لتصميمات عصرية بعيدا عن الهوية. فهناك العديد من الأبحاث التي تحدثت عن فن العمارة في الحضارة النوبية، ووصفته بأنه يتميز بخصوصية وتصميمات فريدة لا تتوفر في أي فنون أخرى.
ليست أمبركاب وحدها التي سعت لإحياء التراث النوبي من خلال أعمالها الفنية. ولكن معها آخرون منهم الفنان عمرو منصور، الذي قرر إحياء التراث بطريقة عصرية بحسب وصفه :”الكثير من المبادرات عملت على إحياء اللغة والملابس وغيرها. ولكنني أردت إحياء التراث النوبي من خلال لوحات ثري دي تتحدث عن التراث ولكن برؤية عصرية لتجذب من يراها”.
صمم منصور صورا لأماكن من النوبة. منها سبيل المياه الذي يميز شوارعها من خلال تقنية الثري دي. ويمكن استخدم تلك اللوحات كديكورات للمنزل، كما أنه أسس أيضا شركة للدعاية لتقديم دعاية وإعلانات بتلك الطريقة، مع التراث بأسلوب عصري.
صمم أيضا لوحات تضم منازل بها القباب النوبية التي كانت تصمم في الماضي، والتي تصنف ضمن التراث الخاص بالعمارة، واستخدم بها نفس التقنية، وأيضا ألوانا جذابة، كما صمم لوحات لسيدات ورجال يرتدون الزي النوبي، ليجمع بين الحداثة المتمثل في الألوان والتراث النوبي، لتصبح أعماله خليطا بين الجانبين.
النوبة في قلب القاهرة
ومن النوبة للقاهرة، شيد الشاب النوبي رمضان الفاضل. بيتا ثقافيا عندما تطؤه قدمك تشعر وأنك سافرت عبر الزمن للنوبة من سنوات ماضية. الأثاث واللوحات والإضاءة، جميعها هي صور مصغرة من الحياة التي عاشها قبل انتقاله للقاهرة.
يضم البيت الثقافي منتجات نوبية. بالإضافة لدورات تعلم اللغة النوبية. مع توفير فرص لتعلم مهارات المشغولات اليدوية النوبية، وأيضا يشجع أصحاب الحرف في قلب النوبة لتسويق أعمالهم اليدوية، ماضيا في حلمه بتوفير مراكز ثقافية نوبية في النوبة وباقي المحافظات للتعرف على التراث النوبي والحفاظ عليه.
بل وعموم الجمهورية مما يتيح للنوبيين الجدد التعرف على إرث أجدادهم على امتداد العصور من جانب مواطني مصر والعالم بالحضارة النوبية من جانب آخر، مؤكدًا أن الحفاظ على هويته كنوبي جزء لا يتجزأ من حبه لوطنه.
وللسيدات النوبيات دورا كبيرا، فنظمت جمعية فتيات الشلال بقرية الدكة بمركز نصر النوبة بمحافظة أسوان معرضًا لإحياء التراث النوبى القديم بالتعاون مع عدد من الجمعيات الأهلية، ويحاكى المعرض الحياة النوبية قديما، ليمثل حالة من التعايش مع التراث.
محاولات سابقة لمقاومة الاندثار
قبل سنوات. أطلق مجموعة من الناشطين النوبيين. أول قناة ناطقة باللغة النوبية على موقع يوتيوب تحت اسم “نوبة تيوب”، بهدف حماية التراث النوبي وتعليم اللغة الأصلية للأجيال الجديدة. كما دشن الشاب النوبي مؤمن طالوش الذي يعمل في مجال البرمجة، تطبيق “نوبي”، الإلكتروني من أجل الحفاظ على اللغة النوبية.
كما دون من قبل عدد من أبناء النوبة العديد من الكتب التي تسعى لحماية التراث والحديث عنها. ومنها كتاب “أيام نوبية” من تأليف محيي الدين صالح وعادل موسى الخبيرين في اللغة والتراث النوبي القديم، ويتحدث الكتاب عن رحلة الباحثة النمساوية “آنا هو هينفارت” في مناطق النوبة قبل التهجير. ويضم الكتاب مجموعة كبيرة من الصور الملونة ترصد أهم ملامح المجتمع النوبي خلال الستينيات من المسكن والعمارة النوبية إلى الزراعة، وطرق الانتقال ومظاهر الحياة اليومية مصحوبة بتعليق يصفها باللغتين العربية والنوبية.