منذ اندلاع الأزمة الليبية وتمثل الأطراف الخارجية عاملاً حاسمًا في المعارك العسكرية والسياسية في الداخل الليبي. وهو ما تحسّب إليه اللاعبون الليبيين خلال السنوات الأخيرة، فكانت واشنطن واجهة الراغبين في كسب موقف داعم ميدانيًا.
لكنّ، لسوء حظ بعض المستأجرين للمعلب الأمريكي أن قواعد اللعبة تلزم الإفصاح عن اللاعبين ومستهدفاتهم. ما يجعل رهان المبارزين الوحيد على القاعدة الجماهيرية غير المطلعة أو المهتمة بالوثائق والمستندات المتاحة للجميع، فتبدو حلبة الملاكمة وكأنها تخلو من منشطات أمريكية.
ببساطة يمكن للمهتمين، الدخول إلى قاعدة البيانات تابعة لوزارة العدل الأمريكية، هناك سيجدون صفحة تحتوي على كم هائل من الوثائق حول المستأجرين لـ”جماعات الضغط الأمريكية” ومستهدفاتهم والقيمة المالية للصفقات. هذا هو نتاج قانون “تسجيل الوكلاء الأجانب (فارا)”، الذي يلزم جماعات الضغط بالإفصاح عن أنشطتها وعملائها وأموالها.
لمطالعة وثائق شركات الضغط الأمريكية المتعلقة بليبيا اضغط هنا
ومع قرب الانتخابات الليبية المقررة في 24 ديسمبر المقبل، ولَّى المرشحون المحتملون وجههم شطر واشنطن، للتعاقد على صفقات ترويج لكسب الدعم الأمريكي. وهو ما تتبعه موقع “ذا أفريكا ريبورت” الفرنسي مؤخرًا، حين نقل تفاصيل عقود لأطراف بشرق ليبيا وغربها مع جماعات الضغط الأمريكية لتدشين حملات واسعة لتدعيم فرصهم في الانتخابات المنتظرة.
كعبة “كيه ستريت” (K Street)
قرب البيت الأبيض والكونجرس الأمريكي، يلاحظ المارون شارعًا بعنوان مبهم، اسمه حرف واحد من اللغة الإنجليزية K. هنا كعبة الحج إلى واشنطن يقصده السياسيون والمستأجرون لجماعات الضغط الأمريكية. تتجمع في (K Street) شركات شركات التسويق السياسي، واللوبيات، والمراكز البحثية، وجماعة الضغط.
اشتهر “الشارع كيه” الأوسط السياسة كإشارة إلى جماعات الضغط الأمريكية، فعندما يقول أحدهم إنه ذاهب إليه يقصد أن وجهته إحدى شركات التسويق السياسي أو اللوبيات، وبعدها نشرت تقارير عديدة عن ما وراء (K Street).
ما هو قانون “فارا” الأمريكي؟
التقرير الفرنسي المنشور قبل أيام، ليس الأخير فقد سبقته تقارير أخرى اهتمت بإبراز الاعتماد الليبي المتزايد على تلك الجماعات لتنفيذ حملات ترويج دولية، إزاء مشروعهم في الداخل الليبي. وجميع تلك التقارير اعتمدت على الوثائق التي أتاحها قانون “فارا” الأمريكي، فما تفاصيله؟
في عام 1938، دبّ الخوف في صدر الرئيس الأمريكي آنذاك، فرانكلين روزفلت، إزاء وجود عمليات تمويل من الحزب النازي الألماني للحركة داخل أمريكا. فأمر بوضع قانون Foreign Agents Registration Act، المعروف بـ”فارا FARA”.
القانون حاصر بشكل كبير عمليات التمويل الخارجية، ونظّم الضغط السياسي لصالح جهات أجنبية داخل الولايات المتحدة، ووضع أمام شركات الضغط واللوبيات 6 التزامات للإفصاح عن عملها تتمثل في: إلزام أي شخص داخل الولايات المتحدة يعمل لصالح جهات خارجية أن يفصح عن أنشطته وطبيعتها، كما يعلن عن طبيعة الجهات التي يتواصل معها، وكيف يجري عمليات التواصل وإن كان هناك وسطاء، والإفصاح عن موضوع التواصل وتاريخه، كما يحدد حجم الأموال التي تتلقاها شركات الضغط أو الموظفين، والكشف عن التبرعات للحملات الانتخابية.
لمطالعة التقارير المتعلقة بليبيا عبر موقع وزارة العدل الأمريكية اضغط هنا
تقدم شركات الضغط وثائق رسمية إلى وزارة العدل الأمريكية، وتقوم الأخيرة بدورها بنشرها عبر موقعها الإلكتروني، عبر تبويب يعتمد على تصنيف الأنشطة والمناطق الجغرافية وطبيعة الحملات التمويلية، وهنا بقي كل شيء على الهواء مباشرة. لكن هل ما تفصح عنه تلك الشركات هو كل شيء؟ بالطبع: لا، فثمة تحركات من وراء ستار القانون، لكن على الأقل هناك مئات الوثائق التي ما كانت لتعرف بدون القانون.
المناطق التي تشهد أزمات سياسية وتوترات تكون أكثر القاصدين لـ”شارع كيه”، باعتبار بلادهم في مراحل انتقالية تسمح خلالها الأحداث بتبدل الكراسي وتغيير الأدوار، ولذلك كانت الأطراف الليبية خلال السنوات الأخيرة أحد أهم الزائرين الدائمين لشركات التسويق السياسي.
أوراق في أوقات الحرب
عندما شن المشير خليفة حفتر عملية عسكرية للسيطرة على المنطقة الغربية، تعاقد رئيس حكومة الوفاق الوطني فائز السراج مع شركتي “جوثام” و”شاي فرانكلين” بعقد قيمته 1.5 مليون دولار، لممارسة ضغوط على الرئيس دونالد ترامب لإعداد تقرير يتهم قوات حفتر بارتكاب جرائم بحق المدنيين.
ولزيادة الضغط، باعتبار أن ترامب كان يظهر دعما غير مباشر للمشير حفتر، استأجرت حكومة الوفاق أيضًا شركة “عطارد”، بموجب عقد بقيمة 1.8 مليون دولار لتشكل ضغطا إضافيًا لصالحها لدى البيت الأبيض.
في الأثناء، تعاقد المشير حفتر مع شركتي الضغط الأمريكيتين التابعتين لـ”لاني ديفيس” و”بوب ليفينغستون”، لترتيب زيارة إلى واشنطن. وقتها ظهر اسم بلقاسم حفتر نجل القائد الليبي كأحد الموقعين على العقد، الذي جرى تسديد منه دفعة أولى بقيمة 160 ألف دولار أمريكي، قبل أن تشير تقارير إلى فسخ التعاقد لاحقًا.
خلال الفترة من أبريل 2019 حتى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020، كان “شارع كيه” مسرحًا لحرب أخرى يخوضها طرفي الصراع على الأرض في غرب ليبيا، أنفقت خلالها الأطراف الليبية ملايين الدولارات، لحساب تأمين موقف أمريكي داعم لها، وهو ما يمكن اعتباره مزاد على بيع الموقف الأمريكي.
شراء المواقف وقت السِلم
وقبل أن تضع الحرب أوزارها، كان وزير الداخلية بحكومة الوفاق الوطني فتحي باشاغا أول القاصدين لـK Street””، عندما تعاقد مع شركة الضغط “رويس براونشتاين” في نهاية يونيو 2020، لتحسين صورته ودعم حملته للترشح لرئاسة ليبيا.
اقرأ أيضًا| المرشحون المحتملون لرئاسة ليبيا
الصفقة التي بغلت قيمتها 50 الف دولار شهريًا، جمعت شخصيات بارزة من بينهم الرئيس السابق للجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي إد رويس، والمسؤولة السابقة في وزارة الخارجية ودوغ ماغواير.
وبعدما جرى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية الحالية، في مارس الماضي، التي تدير فترة انتقالية إلى حين إجراء انتخابات في ديسمبر المقبل، هرول الجميع لاستغلال فترة 9 أشهر فقط للترويج لأنفسهم أمريكيا.
الفترة الانتقالية تزامنت مع ولاية الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن الذي أظهر في البداية حيادية تجاه الأطراف الليبية، وهو ما جعل الملعب مفتوح على مجهول، لمن يستطيع اقتناص الورقة لصالحه.
هنا استعان حفتر، أواخر أغسطس الماضي، باثنين من أبرز شخصيات الضغط الأمريكية وهما المستشار الخاص السابق للرئيس بيل كلينتون لاني ديفيس والممثل السابق والجمهوري عن لويزيانا روبرت ليفينغستون، وبلغت قيمة العقد 960 ألف دولار لمدة ستة أشهر، لكن صحيفة “ذا أفريكا ريبورت” الفرنسية قالت إن الاتفاق انهار الأسبوع الماضي بعد انسحاب ديفيس وليفينغستون.
وتعاقد رئيس الحكومة الحالي عبد الحميد الدبيبة مع شركة “ميركوري” منذ مارس، وهي الشركة المعروف تاريخها الطويل في العمل لصالح شخصيات تركية. كما تستعين السفارة التركية في واشنطن بالشركة نفسها في تشكيل موقف أمريكي متوافق مع سياسات أنقرة.
هل ترك الضغط أثرًا في المشهد الليبي؟
واقعيًا حققت الصفقات نتائج متفاوتة بين في المجتمع الليبي، فخلال فترة العملية العسكرية غرب ليبيا، أظهرت حكومة الوفاق موقفًا دوليًا قويًا وحافظت على دعم دولي باعتبارها الحكومة المعترف بها دوليًا. كما أدى ضعف الحملة العسكرية للمشير حفتر إلى تخلي شركات الضغط عنه، في وقت لاحق.
كما كان تأثير جماعات الضغط واضحًا بشكل فجّ في السياسة الأمريكية تجاه ليبيا، فبعدما تحدث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع المشير حفتر وعبر عن دعمه “لمحاربته الإرهاب وتأمين موارد ليبيا النفطية”. أصدرت وزارة الخارجية الأميركية لاحقا توبيخًا للمشير حفتر بسبب هجومه على طرابلس، في تغير واضح للموقف.
اقرأ أيضًا| هل تستطيع ليبيا انتخاب الرئيس؟
اهتمام أمريكي متزايد بليبيا
خلال الأسابيع الأخيرة أظهرت واشنطن اهتمامًا متزايد بالملف الليبي، بدءًا بطرح مقترح للخروج من مأزق الانتخابات، ولم يلقى رواجًا دوليًا، وصولاً لإقرار الكونجرس قانون “تحقيق الاستقرار في ليبيا”، يهدف من خلاله لفرض عقوبات على بعض الأطراف الليبية والدولية الداعمين لاستمرار الحرب. أو المعرقلين لفرص إجراء الانتخابات في 24 ديسمبر المقبل.
اقرأ أيضًا| هل يحقق “القانون الأمريكي” استقرار ليبيا؟
واحد من الأسباب التي قادت لإقرار القانون الذي جرى إعداده في عام 2019، يرجعه البعض إلى ممارسات شركات الضغط الأمريكية، لاسيما أن مواد القانون تحدد بشكل صريح أطرافًا ليبية تحت وطأة العقوبات، وهو ما يفتح الطريق لمرور آخرون للسلطة.
كما أن إقرار القانون تزامن مع زيارة قائد القوات الأمريكية في أفريقيا “أفريكوم” ستيفن تاونسند إلى العاصمة طرابلس، وهناك التقى رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، وأطلق تصريحات حاسمة بشأن خروج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا، والذهاب سريعًا إلى الانتخابات دون تأجيل.
وذهب ستيفين تاونسند إلى طرابلس وفي حقيبته ملفين اثنين فقط ومحددين، إخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب وإجراء الانتخابات في موعدها، حيث كررت كافة البيانات الصادرة عن الطرفين الليبي والأمريكي هذه البندين باعتبارهما الخطوة الرئيسية حاليًا.
وبمساعدة واشنطن، أفرجت لجنة تقصي الحقائق المعنية بليبيا، عن تقريرها قبل أيام والذي تضمن اتهامات واضحة وصريحة لأطراف خارجية ومحلية متورطون في الأعمال العدائية والعنف في ليبيا، وصل إلى حد ارتكاب جرائم حرب.
حجم التجارة في الموقف الأمريكي
بخلاف الزبائن الليبيين، فإن شركات الضغط الأمريكية، تعتبر سوقًا واعدة في واشنطن، حيث تشهد تزايدًا في قيمة الصفات حتى وإن تناقص عدد العملاء، إلى 11.88 ألف متعاقد عام 2019 مقارنة بـ14.132 ألف متعاقد عام 2008، لكن قيمة الأموال المنفقة على الضغط السياسي تجاوزت 6 مليارات دولار سنويًّا.
ورغم ذلك، تشير تقارير ومهتمين بهذا المجال إلى أن عدد العملاء المفصح عنهم لا يصل لنصف العدد الحقيقي، وهم بذلك يدفعون بأن ثمة صفقات مليارية في الخفاء لصالح متعاملين بالشرق الأوسط، لاسيما خلال العقد الأخير الذي يشهد توترات سياسية وأمنية.
هل للمجتمع الأمريكي سلطة على شركات الضغط؟
المجتمع الأمريكي، خاصة الكونجرس، يراقب عمل تلك الجماعات بشكل دوري، ومن ثمّ يصدر توصيات بشأن التعامل مع حكومات أو مسؤولين في الشرق الأوسط متهمون بانتهاكات حقوقية أو ذات سلطة ديكتاتورية، لكن تأثيرها يبقى محدودا ومرتبطا بالحملات والحملات المضادة.
في واحدة من التأثيرات الإيجابية، إلغاء عضو جماعة الضغط في واشنطن إد نيوبيري، عقده مع الجهة السعودية المتورطة بجريمة القتل الوحشية بحق الصحفي السعودي. والذي كان مقيما في الولايات المتحدة، جمال خاشقجي.
وكان نيوبيري قد وقّع اتفاقا مع المركز السعودي للدراسات والشؤون الإعلامية، الذي ترأسه سعود القحطاني، المسؤول السعودي الذي فرضت عليه الحكومة الأمريكية عقوبات لدوره الكبير في جريمة قتل جمال خاشقجي. والاتفاق الموقع في سبتمبر 2016 بقيمة 1.2 مليون دولار للدفاع نيابة عن المركز أمام مسؤولي الحكومة الأمريكية.
ويخضع أعضاء الكونجرس الأمريكي لضغوط دائمة من الجماعات الحقوقية لوقف التعامل مع جماعات ضغط تتعاقد مع شخصيات أو حكومات متهمة بالفساد أو بالقتل والجرائم، وفي بعض الحالات يؤتي الضغط ثمارًا، على أقل تقدير بتحويل سياسة الضغط أو الشركات نفسها.