هذا هو الكتاب الأحدث من بين عشرات الكتب والمقالات الفكرية والنقدية التي قدمها جابر عصفور للقارئ العربي على امتداد نصف قرن من الكتابة والتأليف، فقد صدر في عام 2020م.. وكتابات جابر عصفور تنشغل -بشكل عام- بمجموعة من الأفكار والمفهومات التي يمكن اختزالها في الكلمات المفتاحية الآتية: الحداثة والعقلانية والتنوير والاجتهاد والدولة المدنية وإعادة قراءة التراث النقدي والفلسفي والفقهي وفق منهجيات حدثية، تعيد إنتاج ما في التراث من أفكار ومقولات بما يجعله جزءًا من الانشغال المعاصر للذات القارئة.
وبالتأكيد ليست هذه هي المرة الأولى التي ينشغل فيها عصفور بمفهوم العقل والعقلانية، بل إنها ليست المرة الأولى التي يحتل فيها دال “العقل” عنوان أحد كتبه، فقد سبق أن قدم لنا كتابيه: “أنوار العقل” 1996م و “تحرير العقل” عام 2015م (صدر الكتابان عن الهيئة المصرية العامة للكتاب). كما أنها ليست المرّة الأولى التي تشغل كلمة “دفاعًا عن ..” أحد عناوين كتبه، فقد سبق أن كتب “دفاعا عن المرأة” عام 2007م (مؤسسة أخبار اليوم) و”دفاعًا عن التنوير” في 1993م) بالإضافة إلى هذا الكتاب موضوع هذه المقالة: “دفاعا عن العقلانية”.
يمكننا -إذا نظرنا إلى العناوين التي يحيل إليها هذا المشروع- أن نضع أيدينا على دلالتين متداخلتين:
الأولى: الحضور المهيمن والمؤثر للمفهومات الكلية أو المركزية التي ينطلق منها هذا المشروع؛ فكلماته المفتاحية هي عين عناوينه، وعناوينه ذات طاقة إخبارية، تحاول -بقدر كبير من الوضوح- أن تشير إلى مقاصدها وغاياتها دون مواربة.
الثانية: أننا إزاء مشروع ذي صبغة حوارية -ولك أن تقول سجاليّة- في بنيته، وهي انعكاس لحوارية أعمق مع أفكار نقيضة لهذا المشروع، تتبناها مؤسسات كاملة داخل الدولة وتشكّل –في الوقت نفسه- قناعات عديد من الكتاب المستقلين.. ومن الواضح أن هذه المؤسسات وهؤلاء الأفراد قد تمكّنوا من تشويه بعض هذه المفهومات الأساسية، فكان من الضروريّ أن يدافع عصفور عن قيمة هذه المفهومات ويعيد إليها الاعتبار بدرجة أو أخرى.
وإذا أردنا أن نلخص مشروع جابر عصفور بكلمة واحدة فلن نجد أدق من كلمة “العقلانية” التي تبدو هنا بمثابة المفهوم الكلي الذي تتفرع عنه كل القضايا، ومن هذا المفهوم تتفرع أغصان هذا المشروع الوارف الثمار والظلال.
ولك بالتأكيد أن تشعر بالأسى أن يأتي كتاب عصفور الأحدث حاملًا عنوان “دفاعًا عن العقلانية”.. فهل تحتاج العقلانية إلى دفاع؟ وماذا كنا نفعل إذن طوال هذه العقود السابقة ..؟ بل ماذا كنا نفعل على امتداد قرنين كاملين؟
لقد كانت العقلانية جوهر مشروع النهضة العربية الذي افتتح رفاعة الطهطاوي جملته الأولى، وترددت صداها في كتابات الأستاذ الإمام محمد عبده، ومنه إلى جيل الأساتذة: طه حسين وأحمد لطفي السيد والعقاد وأمين الخولي… الخ.
فالعنوان -كما ترى- لافت، فما معنى أن تكون العقلانية في خطر؟ وكيف يمكننا الحياة إذن؟ فلا أحد ينكر العقلانية ولا أحد يمكنه أن يعيش دون العقل والتفكير العقلانيّ، وإذن، فما هي العقلانية التي رأى عصفور أنها في خطر، وأنها –من ثم- في حاجة إلى من يُدافع عنها، وضد أي نوع من الخطابات غير العقلانية؟
يضم الكتاب مع عشرات المقالات المطوّلة التي نُشر معظمها من قبل في جريدة الأهرام في العامين السابقين على صدور الكتاب الذي ينقسم بدوره إلى ثلاثة أقسام، ينقب القسم الأول في ميراث العقلانية في تراثنا القديم أولًا ثم في تراث المحدثين من النهضويين ثانيًا، وحمل عنوان “التأسيس”، ويضم ثمانية فصول.. والقسم الثاني جاء بعنوان “السبعينيات وما بعدها” ويقع في ثلاثة فصول وهي مقاربات لمشروع “نصر أبو زيد” من زاوية الاعتزال الجديد، والرؤية التجديدية للدكتور “محمود حمدي زقزوق” من زاوية الرشدية المحدثة. أما القسم الثالث فهو بعنوان مواقف ومراجعات وجاء أيضًا في ثلاثة فصول تشتبك معظمها مع المواقف والآراء والقضايا الفكرية والدينية على الساحة المصرية.
لقد أضفى هذا البناء الحواري على الكتاب قدرًا ملحوظًا من الحيوية؛ ففي الوقت الذي يؤصل فيه لمفهوم العقلانية في تراثنا الفكري والفلسفي فإنه يشتبك مع مؤسسات وأفكار تعوق العقلانية أو تعارضها، سواء أكان ذلك من قبل السلطة السياسية المستبدة أم كان من السلطة الدينية التي يعادي بعض رموزها هذه العقلانية المنشودة، أم كان منهما معًا.
في هذا الكتاب يقدّم عصفور مفهومًا للعقلانية يجعلها قرينة التنوير والاستنارة، وهذا يعني أننا إزاء مفهوم يتسع ليغدو علامة على نسق معرفيّ وخطابيّ واسع، هو خطاب العقلانية والاستنارة بكل حمولته المدنية ووعيه بنسبية المعرفة وقيمة الاختلاف، وذلك مقابل خطاب آخر رجعي منغلق يزعم لنفسه الاكتمال والنهائية والإطلاقية.
تبدو العقلانية هنا خطابًا يدور في فلكه منظومة من المفهومات التي تتسع بها دائرته فكريًّا وعمليًّا، ولا يمكن الحديث عن عقلانية دون هذه الشبكة من المفهومات الأساسية، ويلحّ عصفور على مفهومين أساسيين، هما: الحرية والعدل، بحيث يصح القول إنه لا حرية دون عقل حر فيما يفكر فيه، وتتجلى ثمرة هذا العقل الحر في إقامة العدالة التي تقر -في جوهرها- بحق العقول الحرة في الاختلاف “وعندما تقترن العقلانية بالحرية والعدل فإنها تقترن حتمًا بالمساواة”. (ص10)
فالعقلانية –إذا استعرنا لغة عصفور- تبدو كالجوهر الفاعل الذي تنبثق منه منظومة القيم الإنسانية الحديثة التي تضمن للإنسان، مطلق الإنسان- حق التفكير والاختلاف، ومع الدولة الحديثة تستقر هذه القيم في العمق التشريعي والقيمي، ليتأسس عليها الوجود المدني الحديث، مع دولة تضمن لأفرادها حق التفكير والاعتقاد والتعبير، ولا تميز بينهم بأي من أشكال التمييز، على مستويات: الدين أو المذهب أو اللون أو العرق أو الجهة.
وهذا يعني أن العقلانية خطاب مركب، استطاع أن ينهض -قديمًا- بالثقافة والحضارة العربية، ليجعل منها حامل المشعل في العصور الوسيطة، ومن العرب انتقلت إلى أوربا لتسهم في نهضتها المعاصرة، والمؤكد أن بمقدور القيم العقلانية في نسختيها العربية القديمة والأوربية الحديثة أن تسهم في نهوضنا المعاصر.
ومن الواضح أن خطابًا كهذا سوف يتعارض بالضرورة مع خطابات أخرى يمكن وصفها بالخطابات غير العقلانية، ليس لأنها تتبنى خرافات تعادي العقلانية فحسب، وإنما لأنها تتبنى في الأساس قيمًا تعد نقيضًا للعقلانية، ومن ثم فهي تعوق التقدم، وترهن العقل الحاضر بالماضي، وبهذا المعنى توصف بغير (العقلانية)، وهنا تغدو مهمة العقل أن يحررنا من “الميتافيزيقية الآلية والظلامية الدينية الجامدة وطغيان الحكم المطلق في كل أشكال استبداده وظلمه على السواء”. (ص21)
وعلى امتداد فصول هذا الكتاب، سنجد وعيًا واضحًا بالخطر الذي يمثله الاستبدادان الديني والسياسي، بوصفهما وجهين لعملة واحدة، وتقويض أحدهما يعني تقويض الآخر؛ فكل وعي بخطر الاستبداد هو بالضرورة انحياز للحرية والحق في الاختيار، كما أنه انحياز إلى الابتداع والاجتهاد بقدر ما هو نفور من التقليد والاتباع، وهنا يغدو الاختلاف أو قبول الاختلاف قيمة راسخة تصونها الدساتير والقوانين وتحميها الدولة المدنية التي تقف على مسافة واحدة من الجميع، والجميع يحظى بالوجود المتكافئ.. نستكمل في المقال التالي.