مقدمة: أجواء البدايات
البحث في أحوال النقابات الفنية: المهن التمثيلية، المهن السينمائية، المهن الموسيقية، يتصل، بالضرورة، بالبحث في أحوال باقي النقابات المهنية (صحفيين، محامين، أطباء…)، لسببين: الأول، أنها، جميعا، ذات طبيعة “مزدوجة”؛ فهي تجمع ما بين كونها إطارًا رسميًا لتنظيم مزاولة المهنة، وتحوز على تفويض من الدولة بذلك، وما بين كونها إطارًا نقابيًا يتيح للأعضاء الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم، والسبب الثاني أن النقابات الفنية الثلاث تتمايز، بدرجة كبيرة، عن باقي النقابات المهنية.
وأي بحث جدي يقتضي، أولا، النظر، تفصيليا، ومن منظور تاريخي، إلى مسارات القوانين واللوائح والمواد الدستورية التي تحكم وتنظم عمل هذه النقابات، والملابسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي جرت فيها، وتأثيرها على طبيعة تفاعلها من الواقع، كما يقتضي، ثانيا، النظر إلى الاتفاقات والمعاهدات التي وقعتها مصر، وتكون بالتالي، ملتزمة بها قانونا، والمتعلقة بشكل مباشر، أو غير مباشر، بطبيعة أنشطتها. وأخيرا، سيكون مفيدا النظر بشكل مقارن بين الواقع المصري وبين مثيله في دول العالم.
***********
النموذج الرائد في النقابات المهنية هي نقابة المحامين، فمعها يمكن ملاحظة عدة محددات رئيسية تحكم علاقة النقابات المهنية مع الواقع ومتغيراته في مرحلتها الأولى. ونقرأ في الموقع الإلكتروني لمحافظة القاهرة، الذي أنشأته وزارة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري، موضوعا بعنوان: “التشكيلات النقابية المهنية في مصر، نشأة النقابات المهنية في مصر”، يتضمن معلومات عن التشكيلات الأولى للنقابات المهنية، التي سعت للقيام بمهمتين: الدفاع عن حقوق أعضائها وتطوير المهنة وحمايتها. ففي عام 1876 تشكلت نقابة المحامين أمام المحاكم المختلطة وصدر بها أمر عال رسميا في 9 يوليو 1887، وبحلول عام 1916 أصبح في مصر ثلاث نقابات مهنية للمحامين هي: نقابة المحامين أمام المحاكم المختلطة 1876، نقابة المحامين أمام المحاكم الأهلية 1912، نقابة المحامين أمام المحاكم الشرعية 1916.
في هذه المرحلة التأسيسية يظهر بوضوح ثلاثة ملامح رئيسية: فأولا نلاحظ أن النقابات تتأسس بإرادة حرة من مجموعة من المحامين يزاولون مهنتهم من خلال أطر قانونية مختلفة؛ فالقضاء المصري كان خلال هذه الفترة متوزع إلى ثلاث محاكم مختلفة: مختلطة، وهي محاكم تنظر إلى قضايا ومنازعات الأجانب، أو القضايا والمنازعات التي يكون الأجانب طرفا فيها، وهي من أهم آثار الاحتلال والتدخل الأجنبي في مصر منذ عهد الخديوي إسماعيل، ومحاكم شرعية تنظر في القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية بحسب الديانة والطائفة، ومحاكم أهلية (جنائية ومدنية) تنظر في قضايا المصريين، ونلاحظ، ثانيا، أن هذه النقابات ينطبق عليها المفهوم الأصلي للنقابة المهنية؛ فهي: كيان ينشأ من إرادة حرة لمشتغلين بمهنة محددة يسعون لرعاية مصالحهم، وهي تعمل بصورة مستقلة عن الدولة والأحزاب والسلطات الدينية، ويتم تمويلها من خلال مساهمات الأعضاء، وتدار بطريقة ديمقراطية، دون تدخل أو إشراف من أية جهة خارجة عنها، وثالثا نلاحظ أن هناك تعددية نقابية، فرضتها ظروف موضوعية بحتة، ولكن مبدأ التعددية النقابية كان حاضرا بصورة ما.
في مسار نقابة المحامين حدثت متغيرات رئيسية، موزعة على مرحلتين، في المرحلة الأولى التي جرت خلال الفترة المتبقية من العهد الملكي، صدر قانون رقم 98 لسنة 1944 بتنظيم العمل بالمحاماة أمام المحاكم الوطنية، وقانون 115 لسنة 1948 بـ”إلغاء المحاكم المختلطة والقضاء القنصلي وإحالة الدعاوى التي تكون منظورة أمامها عند نهاية فترة الانتقال إلى المحاكم الوطنية”، وكان إلغاء المحاكم المختلطة مطلبا رئيسا من مطالب الاستقلال، وأعقبه قانون رقم 51 لسنة 1949 الذي نُقل بموجبه المحامون المقيدون أمام تلك المحاكم إلى “جدول المحامين أمام المحاكم الوطنية وبترتيب أقدميتهم”، وبذلك لم يعد من موجب لوجود أقدم نقابات المحامين الثلاث.
المرحلة الثانية جاءت بعد ثلاث سنوات من قيام ثورة 23 يوليو، حيث صدر القانون رقم 462 لسنة 1955 بـ”إلغاء المحاكم الشرعية والملية وإحالة الدعاوى المنظورة أمامها للمحاكم الوطنية”، وبذلك لم يعد من موجب لاستمرار نقابة المحامين أمام المحاكم الشرعية، وتم ضم كل المحامين إلى النقابة الوحيد.
نعود إلى موقع محافظة القاهرة، ونقرأ: في عام 1941 تم إنشاء نقابة الصحفيين وكانت ثاني نقابة مهنية (التي) يتم الاعتراف بها وإصدار قانون لها بعد نقابة المحاميين. وفي عام 1951 صدر قانون رقم 133 الخاص بمزاولة مهنة المحاسبة والمراجعة وبعد ذلك بــ4 سنوات صدر القانون رقم 349 لسنة 1955 بإنشاء نقابة المحاسبين والمراجعين. كما تواجدت أيضا مجموعة متنوعة من الروابط التي تضم المعلمين منها رابطة التعليم الإلزامي التي نشأت 1924 ورابطة الأزهريين 1941 ورابطة المعلمين الجامعية 1942 حتى تكونت نقابة للمعلمين عام 1954 لتضم كل العاملين في حقل التعليم.
في الفقرة الخاصة بروابط العاملين في التعليم، بمختلف درجاته وأنواعه، نلاحظ أن العهد الملكي تميز بحرية تكوين الروابط والنقابات، وأن العهد الجمهوري تميز بمنع التعددية، وهذه هي القطيعة الرئيسية في مسار النقابات المهنية، قطيعة مستمرة حتى اللحظة، ومسندة بنص دستوري، سنعود له لاحقا.
الفقرة الأخيرة في موقع محافظة القاهرة كاشفة لطبيعة تلك القطيعة، ونقرأ فيها: وقد توالى بعد ذلك إنشاء باقي النقابات المهنية حيث شهد المجتمع المصري تزايدا ملحوظا من حيث العدد مع تبني النظام السياسي المصري للتعددية السياسية والذي انعكس أيضا على دورها حيث تخطت بعض النقابات أدوراها التقليدية المتمثلة في حماية المهنة وتطويرها والتعبير عن مطالب الأعضاء إلى أدوار جديدة تلعب فيها دورا أساسيا هاما من خلال مشاركتها في الحياة السياسية في مصر.
النقابات المهنية “تخطت أدوارها التقليدية”، هذا كما يقولون “مربط الفرس”.
*************
الأدوار التقليدية المقصودة ربما نجد منبعها في القانون الذي عده الفنانون سندا “قانونيا” في تأسيسهم لنقاباتهم الثلاث الأول في العهد الملكي.
فقد استند الفنانون في سعيهم لتأسيس نقاباتهم الأولى إلى المادة الأولى من قانون رقم 85 لسنة 1942 بشأن نقابات العمال، ونصها: “يراعى في تطبيق أحكام هذا القانون أن كلمة “عمال” تشمل العمال والمستخدمين الذين يقومون عادة مقابل أجر بتأدية عمل مادي أو عقلي في عمل صناعي أو تجاري ويكونون خاضعين لأمر أو لإشراف صاحب عمل سواء كان شخصا حقيقيا أو معنويا.
وللأشخاص الذين يشتغلون في غير الأعمال الصناعية أو التجارية عدا من نص عليهم في المادة الثانية حق إنشاء نقابات تقوم بجميع المهام النقابية ما عدا التدخل بين الخادم ومخدومه أو بين العامل وصاحب العمل.
ويعتبر سائق السيارة الذي يحمل رخصة عمومية عاملا طبقا لنص الفقرة الأولى من هذه المادة”.
والفقرة الثانية من هذه المادة تم تفسيرها باعتبارها سندا لكل من يريد تكوين نقابة، وقد ثارت حولها مناقشات عديدة بين أعضاء مجلس النواب والشيوخ، وفي هامش القانون نجد ملاحظة متعلقة بالفقرة الثانية، ونصها هو: “أدلى حضرة صاحب المعالى وزير الشئون الاجتماعية أثناء نظر مشروع هذا القانون بمجلس الشيوخ في جلسته التاسعة والثلاثين المنعقدة بتاريخ 25 أغسطس سنة 1942 بالبيان التالي بشأن موضوع نقابات الخدم والطهاة والسواقين الخصوصيين ومن في حكمهم: الغرض مما نص عليه (في الفقرة الثانية من المادة الأولى) أنه لا يجوز لنقابات الخدم والطهاة والسواقين الخصوصيين ومن في حكمهم التدخل بين الخادم والمخدوم وأنه لا يجوز لهم تقرير الإضراب وأن أعمال هذه النقابات تنحصر فيما يلى: (أولا) التخديم والتمرين. (ثانيا) الاستشارات القانونية والطبية. (ثالثا) التسليف والإعانات. (رابعا) الشئون الاجتماعية كإنشاء النوادي والمكتبات والألعاب الرياضية. (خامسا) الشئون الاقتصادية كصناديق الادخار والتأمين الاجتماعي ونحوه على أنها إذا قررت الإضراب وجب حلها. وقد قرر المجلس اعتبار هذا البيان تفسيرا تشريعيا للمادة الأولى فقرة 2 من القانون المذكور”.
**********
والأدوار التقليدية نجد تعبيرا عنها، شديد الوضوح، في الموقع الإلكتروني لنقابة الموسيقيين: “بدأت الحركة النقابية للموسيقيين في النصف الثاني من الأربعينيات، أي بعد الحرب العالمية الثانية وتم إنشاء نقابة عمالية تتبع وزارة الشئون الاجتماعية لم تستمر طويلا ورأسهما المطرب محمد الكحلاوي وسيد الجندول، وكانت الحركة الموسيقية تدور كلها من خلال المقاهي في شارع محمد على (قهوة التجارة) وفى مقاهي باب الشعرية ومن خلال نادى معهد الموسيقى العربية. ثم تكونت نقابة ضمت كل المشتغلين بالموسيقى والغناء ورأستها كوكب الشرق أم كلثوم، ومن بين أعضاء مجلس الإدارة (محمد) القصبجي والشيخ زكريا أحمد ومحمود الشريف وكانت النقابة تابعة لوزارة الشئون الاجتماعية”.
ويمدنا موقع “الموسيقيين” بلمحة عن الجو العام في تلك الفترة فقد كان هناك العديد من “النقابات الأهلية التي كانت منتشرة ومتفرقة وضعيفة وسرعان ما تفشل وتدور فيها منازعات ومشاكل ومعارك بين الأعضاء ولا تحكمها لائحة تنظم عملها اليومي”، ولذلك يعلي كاتب هذه الفقرات من “واحدية ومصرية” النقابة: “فقد كانت القاهرة والإسكندرية تعجان بالموسيقيين الأجانب الذين يعملون في الملاهي الليلية والفنادق والكازينوهات وقررت أم كلثوم أن تكون نقابتها خاصة بالمصريين فقط، ولقي هذا القرار استحسانا كبيرا لدي كل العاملين في مجال الموسيقى والغناء والتفوا حول أم كلثوم وساندوها في هذا القرار الحكيم بإنشاء نقابة خاصة بهم تتبع الحكومة المصرية لرعاية شئونهم”.
وهكذا “وفي يوم 11 نوفمبر عام 1942 جمعت أم كلثوم فرقتها الموسيقية وأعضاء الفرق الموسيقية الأخرى من المصريين فقط، دون العازفين أو الموسيقيين الأجانب لكي تصبح هذه النقابة خالصة للمصريين مائة في المائة، وأسفر هذا الاجتماع بالفعل عن تأليف مجلس إدارة نقابة المهن الموسيقية.. واختار الأعضاء بإجماع الأصوات الآنسة أم كلثوم إبراهيم رئيسا لنقابة المهن الموسيقية المصرية.. ولم ينته الاجتماع إلا بعد أن أرسل الأعضاء الحاضرون برقية إلى رئيس مجلس الوزراء بتشكيل نقابتهم واختيار أم كلثوم رئيسة لها”.
*********
ونجد ملامح “الأدوار التقليدية”، أيضا، في الفقرة التي تتصدر الموقع الإلكتروني لنقابة المهن السينمائية عن تاريخ النقابة: “ولدت فكرة النقابة عندما بدأت دورات الكاميرا تتعطل عن السير وذلك على أثر انقطاع ورود الفيلم الخام إلى المملكة المصرية، وبلغت الأزمة ذروتها عندما أعلنت الشركات السينمائية أسفها لتسريح فنانيها وعمالها لعدم استطاعة هذه الشركات مواصلة العمل وسيتبع ذلك بلا شك عطل لجميع الأيدي العاملة والرؤوس المفكرة والإنتاج السينمائي المحلي. وهنا أحس الكل بضرورة التعاون والتكاتف لنقف صفا واحدا لملاقاة هذا الشر الداهم الذي كاد يودي بالفيلم المصري وهو لازال في مهده. وفي يوم 21 نوفمبر سنة 1943 اجتمع بنادي السينما المصرية بشارع عدلي باشا رقم 20 بالقاهرة جميع المحترفين في صناعة السينما وألفوا نقابتهم لترعى مصالحهم ولتأخذ من يسرهم لعسرهم، ويشاء الله بالفيلم المصري خيرا فلم ينقضي عام واحد حتى دارت الكاميرا من جديد ودارت بأقصى سرعتها فعاد الرخاء واليسر لجميع المشتغلين بها. وكان خاتمة الشر الذي أحاط بنا أن تكونت لنا نقابة سنرعاها في أيام الرخاء لترعانا في أيام الضنك. فليسدد الله خطانا إلى ما فيه الخير وهو وحده ولي التوفيق”.
يغفل كاتب “نبذة عن تاريخ النقابة” ذكر أي ملابسات سابقة، ففي واقع الأمر أن قانون (85) شكل السند القانوني للدعوة التي وجهت لعقد اجتماع لبحث كيفية تأسيس أول نقابة عمالية للفنانين في مصر في 6 نوفمبر 1943 واختير مسمى “نقابة ممثلي المسرح والسينما”، وقد انتخب المجتمعون الفنان جورج أبيض كأول نقيب للفنانين العاملين في المسرح والسينما معا، لكن مجموعة من السينمائيين رأوا ضرورة أن ينفصل المشتغلون بالتصوير والإخراج وباقي المهن السينمائية عن الممثلين، ويستقلوا عن النقابة العتيدة، وقرروا في 12 ديسمبر 1943 تأسيس نقابة منفصلة لهم باسم نقابة السينمائيين لتقتصر النقابة الأولى على الممثلين.
والغاية من ذكر هذه التفصيلة إبراز أن البداية كانت مفعمة بمبادرات حرة، ورغبة في التخصص، مع سمات خاصة سنحاول بحثها تفصيليا فيما بعد، والحاصل أن الممثلين أسسوا أول نقابة لهم، ورأسها جورج أبيض، والسينمائيين أسسوا أول نقابة لهم، ورأسها محمد كريم، وكان الموسيقيون سباقون وانتخبوا أم كلثوم نقيبا لهم، وأن النقابات الفنية الثلاث أسست في إطار وزارة الشئون الاجتماعية مستندة لقانون (85) بشأن العمال، وبالأخص للفقرة الثانية من المادة الأولى؛ التي أوردنا تفسير معالي الوزير لها.