عزيزي سبينوزا*/
هذا ما كنت أرتب له ردا على سؤالك القديم: هل كلمة “كلب” تنبح؟
لكنني اليوم يا عزيزي حزين لدرجة البياض، حزين ذلك الحزن الذي لا تستطيع أن تعترف به أو تتعامل معه.. الحزن الخبيء داخل الروح..
مات أبي أمس وربما قبل أيام، لا أدري..!
وصلتني رسالة غير مؤرخة تقول إن الدفن غدا، ولا أعرف أي غد تقصد الرسالة، ربما اليوم، أو أمس، أو أي يوم آخر، لذلك أعيش أيامي هذه كما لو كان أبي لم يمت بعد..**
لكنني صرت أخاف أن أكون أنا الميت يا عزيزي!..
لقد سمعتك تقول: بأن بعض الناس يتحولون إلى جثث وهم على قيد الحياة، لذلك أفكر أحيانا أنني “ميت”، وأن أبي يعيش حياته كما يحب، مثلما كان الطبيب الميت في فيلم “الحاسة السادسة” يعيش حياته دون أن يدري أنه ميت!
قالوا إن أبي كان يأتي إلى البيت: يفتش بعينيه عن شيء ضائع، ثم يبكي، ويحتضن الهواء، ويقسم أن يذهب في الصباح إلى قصر الوالي، ولن يعود إلا إذا عدت..
كان ذلك أثناء غيابي في السجن، ولما أعادوا الحكاية في حضوري قلت بصوت متعب ونصف مسموع: وهل علمتنا أن نقف بباب أحد يا أبي؟
سمعني وقال (كأنها كلمة وداع): من أجلك أبيع الدنيا..
وباعها سريعا يا سبينوزا.. باعها مكتفيا بما تمناه ودعا به الله، اطمئن على حريتي ثم مضى راضيا وهو يردد كلمة واحدة: يا رب
أكتب هذه الكلمات بينما يهاجمني الناموس، ويؤلمني ظهري، وفي الخارج ينبح كلب، وتسقط الأوراق من شجرة وحيدة صارت تخاف الريح..
الوشاية أقبح الخيانات
حدقت عيناها تبحثان عن كلاب البدو في الظلام، نبحتها الكلاب من كل ناحية، فأجفلت، وفكرت أن تقعد مكانها حتى لا تهاجمها الكلاب (لقد فعلت ذلك مرة عندما كانت صغيرة)، فكرت أن الكلاب لا تفعل شيئا سوى النباح فواصلت سيرها، وسكتت كل الكلاب عن النباح، فابتسمت في سرها: كان بينها كلب صغير، يهز ذيله دائما، ويتقدم الكلاب الكبيرة محاولا أن يتفوق عليها…
صدق يا عزيزي أنني لا أقصد أي رمزية سياسية أو إعلامية من إشارة “الكلب الصغير”، فالنص بحذافيره من مفتتح قصة “يهوذا والجزار والضحية” للراحل سليمان فياض..
كانت تلك القصة هي أول تمثيلية تليفزيونية أشاهدها في حياتي، كان التليفزيون في أول عهده في الستينات، وكنت طفلا وحيدا وراء الأبواب المغلقة مع أسرة صغيرة، وشاهدني أبي أكرر تمثيل مشهد النهاية وسط إعجاب شقيقتاي (عيون وملك)، حيث يمسك “رشاد” بورقة العشرة جنيه ويمشي مذهولا وسط حقول الذرة وهو ينادي على نبوية التي قتلها “طاغية القرية وحراميها” بعد وشاية من رشاد نفسه، ذلك اللص الصغير الذي كان يطمع في الفدان والبقرة، ميراث “نبوية” من والدها
وسألني أبي: ماهذا؟
قلت: تمثيلية في التليفزيون
قال: لم أشاهدها، ما اسمها؟
قلت: يهوذا والجزار والضحية
قال: احكيها لي
ولما حكيت، علمني من يكون “يهوذا”، وأفهمني أن رشاد هو “يهوذا”، وبرغم ندمه وجنونه إلا أن جريمة الخيانة والوشاية من أحط الجرائم التي لا يستحق مرتكبها رحمة ولا تسامح..
لم تخرج التمثيلية ودلالتها من رأسي أبدا، ولما كبرت فتشت عنها كثيرا حتى عرفت أنها من تأليف الكاتب سليمان فياض، وأن محفوظ عبد الرحمن أعدها للإذاعة، ثم قدمها التليفزيون في نصف ساعة فقط، قبل ظاهرة المسلسلات..
الجديد أنني لما قرأت القصة كأدب، تأثرت بمشاعر وتفاصيل لم يلتقطها عقل الطفل في المشاهدة التليفزيونية القديمة والوحيدة، مثل تساؤل نبوية المرير: باعني؟
ليرد الطاغية: بعشرة جنيه
ومثل تكسر أعواد الذرة على وقع تجسيد الخيانة، ومطاردة القتلة للضحية، وتصاعد كريشندو خطوات التهديد ثم الخنق بالحبل، والصمت النهائي الذي تابعه يهوذا بندم عاجز، بعد أن استدرج الضحية إلى مذبح الجزار…
آه يا عزيزي كم تؤلمني الدهشة المتجمدة في عيني جمال خاشقجي بينما يلف الجزار كيس البلاستيك حول رأسه ليعلن صمته الأبدي..
أحب الصمت الاختياري لأنه فرع من شجرة الهدوء، أما صمت العنوة فهو قرين للموت في نفسي
عزيزي/
لست حزينا وفقط، أنا واجم ومتبلد.. ربما أختبئ متعمدا خلف ستار من الصمت والابتعاد والبلادة، وأتمنى لو تنفعني تلك “البلادة” في الحديث عن الكلاب، ليس فقط الذين طعنوك في رقبتك بقصد الاغتيال والإسكات، وليس فقط أولئك المنتفعون المتلونون الذين كتب عنهم “بول نيزان” في “كلاب الحراسة”، وليس المفضوحون في كتابات جوليان بندا، وآرثر ميللر، وباسكال بونيفاس، وبول جونسون، ونميمة سليمان فياض الإيجابية، وكلها كتابات تتقاطع مع سؤالك الذي يتزلج على سطحه “أشباه المثقفين” دون أن يلمسوا جوهره ويدركوا مقصده: هل كلمة “كلب” تنبح؟
نعم يا عزيزي.. صارت كلمة الكلب تنبح وتعض وتحبس.. تحبس العابرين في الطرقات، وحاملي الموبايلات، وخطباء المنابر، وركاب الميكروباص، وسائقي التوك توك، والصحفيين، وأساتذة الإعلام، ومن يسمي الأشياء بمسمياتها..
لقد انتقلنا يا عزيزي من مرحلة “كلاب السلطة” (الووتش دوجز كما يقول أحفادك في أوروبا)، إلى مرحلة كابوسية منسوخة من عوالم كافكا هي مرحلة “سلطة الكلاب”..!
عزيزي باروخ ميخائيل سبينوزا/
أعرف أنك ضد الكنيسة والإخوان وترفض توظيف الدين في السياسة، وأعرف أنك ناديت بسلطة مطلقة للدولة المدنية، وأعرف أنك اشترطت الولاء التام من كل الأفراد للدولة، وأعرف أنك كنت تعتمد في ذلك على تعريف يعتبر الدولة هي مجموع حرية الأفراد، وأنها الضامنة للحريات والعدل والأمن…
لكن يا عزيزي كلمة “كلب” ليست كلبا، وكلمة “حرية” ليست حرية، وكلمة “إرهاب” ليست إرهابا، وكلمة “ثورة” ليست ثورة، وكلمة “دستور” ليست دستورا، كذلك فإن كلمة “دولة” ليست دولة..
العبرة يا عزيزي بما تمثله الكلمة في الواقع، لأننا نغرق هذه الأيام في مستنقع كلمات هلامي ليس له وجود واقعي وتطبيقي، صار الانحطاط والتخلف والتسلط يباع لنا بكلمات مثل: معجزات وانجازات وعدالات..
أتذكر نكتة الرجل الذي كتب على السكر ملحا ليخدع النمل، ولا يواتيني الضحك..
كيف أضحك والكلاب في زماني صارت تلقي المواعظ الوطنية وتستقبل الوفود في المطارات وتعمل في الشرطة وتسكن البيوت الفخمة كالملوك والأثرياء، ولا تندهش يا عزيزي عندما أقول لك بدون أي مبالغة: لقد صار للكلاب في زماننا أضرحة!
عزيزي الفيلسوف/
اغفر لي تعبيراتي الأدبية الفضفاضة، أعرف أنك رجل واقعي أنزلت الفلسفة من سماء التهويمات إلى أرض الحقائق، وحررت أستاذك “ديكارت” من معاهدة النفاق المستتر للسلطتين الدينية والسياسية، واقتحمت المناطق المحرمة التي كانت ترهن حرية الناس بالطاعة العمياء، ودفعت ثمن إصرارك على طاعة توافقية واعية متبصرة لا تسلب الفرد حقه في الحرية والتفكير والعدل والعيش الكريم، فكان من اللائق أن أحدثك عن وقائع مثل القبض على كاتب اسمه عبد الناصر سلامة، لمجرد أنه نشر مقالا للرأي على صفحة شخصية يسمونها في زماننا “فيس بوك”، وأن أستاذا جامعيا متخصص في الإعلام يدعى أيمن منصور ندا تم حبسه لأنه يتحدث عن الإعلام، وأن،…
بالمناسبة يا عزيزي، أنا أيضا “إرهابي”، والعهدة على كلمة مكتوبة في “أوراق رسمية”
لا تخف يا سبينوزا، إنها مجرد كلمة لا تنبح حسب صياغة سؤالك القديم..
قد يبدو هذا تناقضا في كلامي، لكن الأمر عميق وغامض وناقص وملتبس بما يوحي أن الحقائق تبدو متناقضة طالما يضيق الحوار وتنكمش الحرية، وأعتقد أنك عانيت من وصف افكارك بالتناقض، لأنك مثلي لم ترغب في كتابة أفكارك كتعليمات وافية بما يناسب الأغبياء، بل تركت الكثير من المفاتيح والدروب التي يجب على أصحاب العقول ارتيادها لكي تنفتح ابواب المعاني أمامهم، ففي الليل دائما لا تفتش عن الشموس، الواقعي أن تجد الشموع والمصابيح، قد لا تكون واضحة كالشمس، لكنها تكفي المهتمين بالنور
برغم كل الاختزال والتكثيف والتعميم المقصود في كتاباتي، لا أخفي عليك يا عزيزي أنني معجب بطريقة الصدام التي واجهت بها خفافيش عصرك، وأعترف أن لدي رغبة كامنة في الفضح قد تشجعني قريبا على تناول أسماء متعجرفة ومتطرفة ذوات كلمات نابحة وفاضحة، لاسيما وأن مثل هذه الأسماء يمكن أن ترسم لك يا عزيزي صورة محبطة لما آلت إليه أفكارك الأخلاقية عن “الدولة”، لقد تحولت الدولة في زماننا إلى “ديستوبيا” تتبجح فتسمي نفسها “يوتوبيا” أو “نوفا ريبابليكا” حسب قاموس الكلام المجاني في زماننا!
أنا حزين ومنطفئ يا عزيزي
لا تتضايق من تكرار كلمة “حزين”، فأنا لا أنبح، أنا أشكو زماني، وأتململ من عجزي، وأرغب في نفض التراب عن روحي، وأتوقف طول الوقت أمام نفسي مندهشا وأنا أخاطب أبي، لدي رغبة في استحضاره (ولو بالكلام)، وأختنق كلما عثرت على كلام نسيت أن أقوله له في نقاشاتنا الحميمية الحامية، كان في لقاءاتنا المتواترة الأخيرة يوصيني بالابتعاد عن السياسة والكتابة، يوصيني بالكف عن المشاكسة، وكنت أغضب بشدة، فيقول بلغته الخائفة/الجديدة: “عاوز أطمن عليك.. كفاية كده”.
ثم يحاول أن يتضاحك ويخفف من غضبي فيقول: أنت هتعمل أبو زيد الهلالي؟
أشتاق إلى أبي يا سبينوزا.. أحتاج إلى حصني، وكنزي الماشي على قدمين بلا تعب.. أخشى أن أكون قد فقدت آخر الدلع، وآخر الحماية، وآخر الطمأنينة
قال لي من بين ما قال: لا تخف من الرجل.. خاف من كلبه
وقد تجرأ الكلاب كثيرا في زمن الخرائب، حتى صاروا أسيادا مرهوبين في المدن، وصاروا يهزون ذيولهم فخرا وتسلطا وغرورا، وهذا لو تعلم يا عزيزي نذير شؤم مخيف..
خاتمة مؤقتة واعتذار متكرر
لدي الكثير من الكلام يا عزيزي، لكنني مشوش، ليس نتيجة لحزني الفردي، لكن نتيجة لحزن البلاد، أتخيل أن الحزن يمطر على الناس فيصيبهم كالقدر، وأشعر أننا مستلبون، كأننا غيرنا يا عزيزي.. كأننا آخرون مريبون، وقبل أن أمضي إلى “عزلتي الاندماجية” التي تشبه عزلتك المدعاة أذكرك بالنكتة الأمريكية التي تسأل بتفلسف سمج: إذا كان الكلب يستطيع أن يهز الذيل، فهل يستطيع الذيل أن يهز الكلب؟
هذه النكتة صارت يا عزيزي محورا لفيلم أمريكي شهير عن كيفية معالجة فضيحة الرئيس باختراع كذبة عن الإرهاب وضرورة الحرب ضده، طبعا الرئيس المقصود هو كلينتون والفيلم المقصود هو “هز ذيل الكلب” الذي يخبرنا أن “الكلب” هو “النظام السياسي” الذي يعتمد على الذيول الإعلامية الكاذبة، ولا تتعجب يا عزيزي فيلسوف الواقعية السياسية وداعية الدولة المدنية الحديثة مما حدث في زماننا، حيث صار للذيول إرادة يستجيب لها الكلب، فيهتز وينبح ويحبس أيضا
والكلب كما عرفنا يا سبينوزا، ما أخبرنا به الفيلم الأمريكي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
* باروخ سبينوزا.. فيلسوف هولندي يمكن أن تكتب الاسم على جوجل لتعرف عنه الكثير، وإذا أردت المزيد بالعربية ابحث عن كتاب فؤاد زكريا الوافي باسم الفيلسوف، واقرأ مقدمة حسن حنفي العظيمة لترجمة كتاب سبينوزا الشائك والمهم: “رسالة في اللاهوت والسياسة”
** مقتطف بتصرف أمين من رواية “الغريب” لألبير كامو، حيث يحكي “ميرسو” ظروف تلقي خبر وفاة أمه
*** عزيزي المحرر/ أتذكر وعدي بتلوين بعض العبارات التي تحتمل التأويل باللون الأزرق، وقد كتبت هذا المقال كله بالأزرق: حزني أزرق، وموتي أزرق، والعيشة التي نتوهم أنها حياة زرقاء زرقاء، لذلك لن أغضب من حذف كلمة أو سطر أو المقال كله، فأنا أدرب نفسي هذه الأيام على فكرة قبول الحذف حتى من الحياة نفسها، على كل حال الحذف يؤجل الكلمات ولا يمحوها