باتت مسألة إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا، واحدة من أكثر الإشكاليات تعقيدًا في المشهد الليبي وأمام المجتمع الدولي. وذلك لأسباب تتعلق بالوضع في ليبيا أولأً، ثم الوجهة التي سينتقل إليها هؤلاء المسلحون. غير أن جميع الأطراف الدولية والمحلية أصبحت شبه متفقة على آلية الترحيل المتمثلة في “خروج مرحلي ومتزامن”، لكن التنفيذ يبقى رهن التطورات السياسية وتأمين المصالح الدولية في ليبيا.
خلال الأسابيع الماضية ضغطت الولايات المتحدة والبعثة الأممية بشكل مكثف لسرعة إنهاء هذا الملف. لكن ليس معروفًا إن كانت الأطراف المعنية قادرة على تأمين خروج آمن لكافة القوات قبل إجراء الانتخابات المقرر لها في 24 ديسمبر المقبل أم لا؟
الضغوط الدولية والإقليمية دفعت لجنة (5+5) العسكرية إلى التوصل لخطة أولية من أربع نقاط تنتهي بتنفيذ الخروج الكامل للقوات الأجنبية. تتمثل في تجميع تلك القوات في نقاط يجرى تسميتها، ثم تنتقل لجنة مراقبة دولية إلى ليبيا لحصر الأعداد بشكل كامل. ومن ثم الإشراف على عملية ترحيل متزامن ومرحلي.
اقرأ أيضًا| هل يحقق “القانون الأمريكي” استقرار ليبيا؟
حتى الآن يبدو الوضع غامضًا، رغم إقرار الكونجرس الأمريكي قانونًا لمعاقبة معرقلي العملية السياسية وإخراج المرتزقة. كما لوحت واشنطن قبل أيام في ختام اجتماع للجنة العسكرية المشتركة بفرض عقوبات على الأطراف المقوضة لنجاح عملية انتقالها السياسي.
ثمة إشكاليتان رئيسيتان في مسألة المقاتلين الأجانب، الأولى تتمثل في الجدل المثار محليًا: هل يكون الترحيل قبل الانتخابات أم بعده. والثانية تتمثل في عدم اعتراف بعض الأطراف الدولية بوجود قوات لها أو مرتبطة بها في ليبيا. ومنها روسيا والسودان اللتان كررتا نفي أي علاقة لهما بالقوات في ليبيا، رغم توثيق تقارير دولية قوات تابعة للطرفين. هذا يعني أن وجهة المقاتلين المرتبطين بالأطراف الرافضة للاعتراف بهم لا تزال غامضة إلى أين سيُرحلون.
أعداد المقاتلين الأجانب؟
من الصعب في الحالة الليبية تقدير أعداد المقاتلين الأجانب والمرتزقة، باعتبارها أرضًا خصبة لتنامي أطراف عديدة خاصة في الجنوب، الذي يصعب السيطرة عليه، لكن بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا قدرت أعداد المقاتلين الأجانب يليبيا، في فبراير الماضي، بنحو 20 ألف جندي ومرتزق.
وقتها كانت المبعوثة الأممية بالإنابة ستيفاني ويليامز تتحدث عن انتهاكات يرتكبها المقاتلين الأجانب. كما أشارت إلى عمليات تدفق السلاح على نطاق واسع، وهو ما يجعل ثمة تحديًا آخر يتعلق بكيفية جمع السلاح المنتشر بأنحاء البلاد.
هوية المرتزقة والقوات الأجنبية في ليبيا
عند الحديث عن خريطة محددة لانتشار القوات الأجنبية والمرتزقة في ليبيا، يجب الانتباه إلى أن ذلك يدخل في إطار التقديرات. فثمة مناطق خارج السيطرة وأخرى تنتقل فيها ميليشيات ومجموعات مسلحة ومهربون وعصابات الإتجار بالبشر وهذه القوات لا تحظى باهتمام على غرار تلك التي تشارك بدور في القتال على السلطة.
الأتراك والسوريون.. التجنيد ومعضلة العودة
الطرفان البارزان في مشهد القوات الأجنبية هما تركيا وروسيا، والدولتان نقلتا آلاف القوات والمرتزقة السوريين إلى ليبيا للمشاركة في القتال الذي دار في غرب البلاد بين قوات المشير خليفة حفتر وقوات تابعة لحكومة الوفاق آنذاك، التي انتهت بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار، خلال تلك الحرب نقلت تركيا أعداد يصعب حصرها، بسبب اعتمادها على سياسة الإخفاء في نقل المرتزقة، وذلك عبر رحلات مدنية من تركيا إلى مصراتة وطرابلس. اعتمدت خلالها على مقاتلي الفصائل الموالية لها في شمال وشمال غرب سوريا. وبخلاف المقاتلين السوريين انتقل عسكريين أتراك وخبراء أمنيون إلى غرب ليبيا خلال فترات الحرب، ولا يزالون يشغلون مواقع عسكرية هناك.
بالمثل نقلت روسيا عددًا كبيرًا من المرتزقة السوريين الموالين لها، جندتهم شركة “فاغنر الروسية“، لدعم قوات المشير خليفة حفتر. اعتمدت موسكو في عمليات التجنيد على عناصر سابقة من الجيش السوري وميليشيات تنشط في مناطق نفوذ النظام السوري.
اقرأ أيضًا| “بي بي سي”: تركيا وروسيا تسعيان لاستنساخ صفقتهما بسوريا في ليبيا
المرصد السوري لحقوق الإنسان رصد على مدار أشهر الحرب عمليات تجنيد واسعة النطاق من روسيا وتركيا للمقاتلين السوريين، ونشر إحصائيات عديدة عن هوية المجندين ورواتبهم وآلية نقلهم. لكن الأمر الأكثر خطورة هو رفض عدد كبير من المقاتلين السوريين في ليبيا العودة لبلادهم وتمسكهم بالانتقال إلى أرووبا، للبحث عن فرص عمل، خاصة أن الدافع المادي هو السبب الرئيسي في انتقالهم إلى ليبيا وليس الأيديولوجي، وهو ما يجعل إمكانية هروبهم إلى أوروبا أو اتخاذ أية حيل لعدم العودة إلى سوريا أمرًا متوقعًا.
كما أن تركيا لا تزال متخوفة من إعادة أعداد مهولة من المرتزقة، بدون خطة للإدماج باعتبارهم يمثلون تهديدًا كبيرًا لها. خاصة أنها جربت في السابق تمردهم على القرار التركي، وهي بذلك أمام خيارين إما نقلهم لمناطق نزاع أخرى أو البث عن آلية لدمجهم في المجتمع.
فاغنر الروسية وسهولة تغيير الملعب
الطرف الثاني في خريطة المقاتلين الأجانب، هو عناصر “فاغنر” الروسية، وهؤلاء نقلتهم روسيا منذ سنوات لدعم قوات المشير خليفة حفتر، قبل أن تصبح لهم تمركزات واضحة وتحركات بآليات عسكرية يرصدها الليبيون بشكل مستمر. وهؤلاء يسهل حصرهم باعتبارهم فرق أمنية شبه نظامية وتتمركز في مواقع شبيهة بالثكنات العسكرية.
المعضلة الأساسية أمام هؤلاء هو عدم اعتراف روسيا بعلاقتها بهم، حيث كررت موسكو في كثير من المناسبات عدم وجود قوات لها في ليبيا. وذلك بعدما رصدت تقارير لجنة تقصي الحقائق الأممية انتشارًا واسعًا لهذه القوات وارتكابها جرائم حرب في ليبيا.
رغم عدم اعتراف روسيا بقوات “فاغنر” بسبب عدم تحمل مسؤولية الانتهاكات التي ارتكبتها، فإن أمر إخراجهم من ليبيا يبدو أسهل من القوات السورية، باعتبارهم شركة أمنية في الأساس وتنتشر بأفريقيا ويمكن تغيير الملعب في حال التوصل لتفاهمات دولية بشأن الأوضاع السياسية في ليبيا.
المقاتلون السودانيون.. الخرطوم تتبرأ وتتحسب خطورتهم
وثقت تقارير أممية آلاف الجنود من متمردي جنجاويد السودانيين، بالإضافة إلى آخرين تابعين لقوات الدعم السريع السودانية. وهي قوات جرى نشرها في وسط ليبيا وبعض مناطق الجنوب لدعم قوات المشير خليفة حفتر، لكن الخرطوم هي الأخرى تتبرأ من هذه الاتهامات وتقول إنها لا تمتلك جنودا في ليبيا، رفم توثيق التقارير صورا لانتشار قوات سودانية في سرت والجفرة وهون بوسط البلاد.
اقرأ أيضًا| هل تدفع دول الجوار ثمن ترحيل المرتزقة من ليبيا؟
سواء كان الوجود السوداني رسميا في ليبيا أو عبر ميليشيات ومتمردين فإن أمر إعادتهم إلى بلادهم، يحمل خطورة مشابهة لتلك في ليبيا. لاسيما أن السودان لا تزال تحاول احتواء الصراعات المسلحة وغضب المتمردين، وليست قادرة على تحمل أعباء إضافية وهي المنهكة بطبيعة الحال.
القوات التشادية.. خطر متعدد الأطراف
أما المتمردين التشاديين المنتشرين في جنوب ليبيا. فهم يمثلون الخطر الأشد في الحالة الليبية. ذلك أنهم منخرطون للقتال مع كافة الأطراف، وهم ثلاثة فصائل رئيسية: “مجلس القيادة العسكرية لإنقاذ الجمهورية”. و”اتحاد قوى المقاومة” و”جبهة الوفاق من أجل التغيير التشادية”. نقلت تقارير دولية ووثقت انتشار الأطراف التشادية بجوار قوات الطرفين في شرق وغرب ليبيا.
مؤخرًا أجرت حكومة الوحدة الوطنية مشاورات مع محمد إدريس ديبي نجل الزعيم التشادي الذي قتل والده على يد قوات المعارضة المتمركزة في ليبيا. جرى خلالها الاتفاق على وضع تصور واضح لتأمين الحدود وتضييق الخناق على المتمردين التشاديين. إلى حين البحث عن حلول لإعادة دمجهم في الحالة التشادية، في وقت تقول تقارير إن الزعيم الشاب يحاول إيجاد صفقة مع المتمردين لإنهاء حقبة التوتر الذي أودى بحياة والده.
هذه القوات سواء بقيت في ليبيا أو انتقلت إلى موطنها تشاد، فإنها تمثل خطرًا أمنيًا كبيرًا على كافة الأطراف. وهو ما دفع دول ليبيا والنيجر وتشاد والسودان إلى النظر في تفعيل اتفاق رباعي لحماية الحدود، والتعاون الأمني المشترك، وهي خطوة استباقية لعملية إخراج المرتزقة والمتمردين من ليبيا.
شتات من المرتزقة
بخلاف الأطراف المحددة والموثقة في تقارير أممية، ثمة مقاتلين من عدة دول استعانت بهم الأطراف الليبية، سواء من موزمبيق وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، أو مقاتلي الجماعات المتطرفة التونسيون الذين استقروا في المدن الليبية الساحلية المواجهة لبلادهم، قبل سنوات، وشاركوا في حرب 2014 ومواجهات 2019 بغرب ليبيا.
هذه الفئة منخرطة في المكونات الليبية والكتائب، خاصة كتائب الزاوية ومصراتة، ويصعب تحديدهم، أو حصرهم ومن ثم ترحيلهم، ويبقى أمرهم مقترنًا بنقاش آخر يتعلق بـ الميليشيات الليبية نفسها، وكيفية نزع سلاحها.
إزاء ما سبق، فإنّ وجود المرتزقة والقوات الأجنبية فرصة لتفجير التوتر الأمني في ليبيا في أي وقت، كما أن استمرارهم يستنزف الموارد المالية والبشرية والعسكرية للبلاد، كما تقف عقبة رئيسية أمام إجراء الانتخابات المقررة في ديسمبر 2021.
وعلى مستوى الأمن الإقليمي، أصبحت ليبيا ساحة للعناصر المتمردة والمعارضة وأعضاء الجماعات الإرهابية. وبالتالي تمثل نقطة انطلاق لشن هجمات إرهابية ضد دول الجوار، على غرار حادث اغتيال الرئيس التشادي “إدريس ديبي” في أبريل 2021. بالإضافة إلى تعاون العناصر الإجرامية مع شبكات التهريب وجماعات الجريمة المنظمة عبر الحدود.
إشكاليات عودة المقاتلين إلى أوطانهم
في حال التوصل إلى حل لخروج المقاتلين من ليبيا، يفجر تحد آخر: هو مدى جاهزية دول الموطن لاستقبال هذه القوات، وهو ما يضع تلك الدول أمام عدد من التحديات:
مخاطر أمنية: يمثل رجوع العناصر المتطرفة تصعيدا أمنيا بالغ الخطورة. مما يستدعي رفع حالة التأهب الأمني بهدف احتواء والسيطرة على العائدين من الحروب والعمليات الإرهابية. إذ إن مشاركتهم في الحرب الليبية لسنوات طويلة ساعدت في تنمية القدرات القتالية لديهم. مما ينذر بإمكانية تشكيل خلايا فرعية منتشرة من العائدين تحاول مد الحرب –بالتنسيق مع الجماعات الإرهابية- في بلادهم. لاسيما أن أغلبهم من العناصر المعارضة وفي ظل تلقيهم التدريب والسلاح. قد يحفزهم على تنفيذ عمليات فردية أو جماعية ضد قوات الأمن أو الكيانات الحكومية المختلفة في ظل التردي الأمني والسياسي لأغلب الدول المستقبلة.
أعباء اقتصادية: تمثل عودة العناصر السورية والسودانية والتشادية ضغطا اقتصاديا متعدد الأوجه بالنسبة لهذه الدول. حيث يتطلب تهيئة أماكن الاحتجاز بالعناصر البشرية والفنية وتدريب الكوادر المتخصصة في مكافحة الإرهاب في إطار جهود دمج العائدين. وتوفير الدعم المالي اللازم لإثنائهم عن الأنشطة الإجرامية لاسيما أن أغلبهم جاء من مجتمعات تعاني التهميش الاجتماعي والفقر وارتفاع العنف.
تشوه ديمغرافي: يكمن الجهد الأكبر في محاولة إصلاح ونزع التشوه الفكري من جذوره والأيديولوجيات المتطرفة التي تم استقطابهم وتدريبهم عليها لاسيما الأطفال. إذ إن عودتهم تمثل تهديدا اجتماعيا لما يمكن أن ينشروه من أفكار متطرفة تؤثر على بنية المجتمع. بالإضافة إلى كونهم صاروا بمثابة عناصر جديدة دخيلة على المجتمع، الذي بدوره يتطلب بذل المزيد من الطاقات لأجل تطبيعهم وإعادة توطينهم في المجتمع.
قصور السياسات الحكومية: يتطلب إعادة دمج المتطرفين في المجتمع، خطة شاملة تتكون من برامج فكرية واقتصادية وتشريعات قانونية. وتفعيل برامج التقصي والملاحقة لأجل حصر أعداد المقاتلين والتأكد من كونهم شاركوا في العمليات الإرهابية. ومحددات قضائية واضحة لكيفية معاقبة المجرمين. وحتى الآن، لا يتوافر أي برنامج معني بدمج العائدين في الدول المستقبلة.
استنتاجات ودلالات:
المقدمات السابقة تقود إلى جملة من الاستنتاجات والمحددات التي تحكم هذا الملف المعقد، منها:
– لن يقبل أي طرف سواء محلي أو دولي إخراج قواته من ليبيا قبل انتهاء المرحلة الانتقالية واتضاح مستقبل الحكم.
– ستبقى القوات الأجنبية ورقة التوازنات الإقليمية الأكثر ربحًا في المسألة الليبية.
– لابد من التفرقة بين المرتزقة والقوات الأجنبية النظامية، فالأولى غير معترف بها ويصعب السيطرة عليها، وفي الغالب ستكون وجهتها أشد تعقيدًا من الاتفاق على خروجها.
– بقاء القوات الأجنبية في ظل إجراء انتخابات فوضوية يعني بقاء ليبيا في المربع “صفر”.
– الأثر الذي تركته القوات الأجنبية في ليبيا يحمل أبعادًا أكثر من مجرد خروجها، باعتبار أنها تركت جيشًا من الميليشيات مدربًا تدريبًا نظاميًا، وقادرًا على تهديد المستقبل السياسي لليبيا.
– لذلك فإن التفكير في إخراج القوات الأجنبية يجب أن يرافقه تفكير مماثل في نزع سلاح الميليشيات الليبية المحلية، وإلا سيكون الأجنبي قد ترك مكانه لليبي في دوامة التوتر الأمني.
– التهديدات التي تعكسها عمليات الترحيل على البلد المستقبل للمرتزقة. يمكن احتواؤها في حل اعتراف الأطراف الداعمة لها بمسئوليتها. وعندما سيجد المجتمع الدولي آلية توطين وتأهيل لهؤلاء، تجنيًا لمخاطر أمنية على دول الجوار.
– ستلعب التفاهمات الإقليمية دورًا مهمًا في إنهاء مسألة المقاتلين الأجانب، خاصة تلك الجارية بين مصر وتركيا.
– ينتظر المراقبون أن يضع مؤتمر دعم الاستقرار، المقرر إقامته في ليبيا في 21 أكتوبر الجاري، تصورًا واضحًا متفقًا عليه دوليًا ومحليًا بشأن القوات الأجنبية.