على الرغم من محاولات رئيس الوزراء السوداني د. عبدالله حمدوك الدؤوبة لاختراق الأزمة السياسية الراهنة في السودان، ومحاولة المضي قدما في الاستمرار في الفترة الانتقالية حتي نهايتها، طبقا للوثيقة الدستورية وهي المقررة بعد عامين، فيبدو أن المشهد السوداني ربما يتجاوز هذا الطرح الطرح، حيث يشكل عقد الانتخابات أحد مخارج المأزق السياسي الراهن، وذلك في مشهد يكرره التاريخ السوداني على نحو قد لا يرقى لمستوى أي خيال سياسي. فنفس مأزق الديمقراطية السودانية الثالثة نراه يتكرر ربما بنفس التفاصيل والآليات.
على أية حال خطاب حمدوك عشية التظاهرات التي دعا إليها جناح “الميثاق الوطني” في تحالف الحرية والتغيير المنشق عن التحالف الأصل، قدم فيه حمدوك تنازلا لا يستهان به بطرحه الاستعداد لتوسيع قاعدة المشاركة في الحكم، كما طرح ضرورة العودة إلى الحوار تحت مظلة الهياكل الانتقالية وأهمها المجلس السيادي، لكن يبدو أن هذا المطلب من جانب حمدوك والقوى المدنية يواجه رفضا قاطعا من جانب المكون العسكري، وذلك على خلفية التراشق اللفظي مع المكون المدني فيه في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة في الأسبوع الثالث من سبتمبر الماضي.
مجهود عبدالله حمدوك لم يجد آذانا صاغية حتى لدى الحاضنة السياسية له المجلس المركزي للحرية والتغيير “قحت” الذي قال في وقت لاحق لإعلان خارطة طريق حمدوك إن مجهودات رئيس الوزراء لم تحقق اختراقا للموقف المأزوم.
وهكذا بات إسقاط الحكومة التي يترأسها حمدوك، وتفويض المكون العسكري، وإنهاء الفترة الانتقالية يمثل ثلاثة مطالب أساسية مطروحة أمام القصر الجمهوري السوداني حاليا، في اعتصام مفتوح يبدو غير وازن على المستوى السياسي حتى الآن بالنظر لوجود عدة مئات فقط من المعتصمين فضلا عن اعتراف الكثير منهم أنهم ممولون، ولكن تكمن أهميته في رعاية كل من حركة العدل والمساواة بزعيمها وزير المالية جبريل إبراهيم وحاكم دارفور مني أركو ميناوي لهذا الاعتصام، وهما رجلين يملكان تنظيماتها المسلحة، وقاعدة جماهيرية دارفورية لابأس بها بالخرطوم .
في هذا السياق ثمة تطورات مؤثرة ومنذرة في التفاعلات الراهنة بالسودان، قد جرت أثناء مظاهرات ١٦ أكتوبر، منها قيام حركة مسلحة لم يتم تحديد هويتها علي وجه الدقة بمواجهة عناصر مدنية في منطقة شرق النيل بالخرطوم، بينما أعلن أيمن نمر والي الخرطوم أن تأمين مواقع سيادية قد جرى سحبه من جهات مجهولة، وبالمقابل، قال رئيس الشركة السودانية للموارد المعدنية مبارك أردول وهو أحد عناصر التحالف المنشق أن عربات حكومية قد حاولت تعويق مظاهرات فريقه في الوصول للقصر الجمهوري. وذلك في وقت تم تعويق موكب للمحامين كان يحاول الوصول إلى القصر الجمهوري مطالبا باستكمال الفترة الانتقالية، حيث تم منع هذا الموكب من جانب أنصار تفويض الجيش .
وطبقا لهذه المؤشرات باتت المواجهات بين فريق دعم الحكومة الراهنة واستكمال الفترة الانتقالية وبين تفويض الجيش وإجراء انتخابات ممكنا، وبات من الممكن أيضا أن تكون هذه المواجهات دامية طبقا للسوابق.
ارتباك المشهد السوداني انعكس لحد ما على الموقف الأمريكي الذي ظهر مرتبكا أيضا إزاء التفاعلات السودانية، فبينما تصدر السفارة الأمريكية في الخرطوم صباح ١٧ أكتوبر بيانا يدعم إجراء انتخابات في السودان وهو انحياز لمطلب المكون العسكري، يغرد وزير الخارجية الأمريكي بدعم خارطة الطريق التي أعلنها رئيس الوزراء السوداني داعيا إلى ضرورة الالتزام بالوثيقة الدستورية كمحدد حاكم للعلاقة بين أطراف المعادلة السياسية السودانية، وهو ما يعني الانحياز للمكون المدني.
الموقف الأمريكي المرتبك توج خلال الأسبوع الماضي، مجهودات كل من المبعوث الأمريكي جيفري فيلتمان، وفولكر بيرتس رئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم الانتقال في السودان (يونيتامس)، وذلك في محاولة لتقريب وجهات النظر بين مكوني المجلس السيادي، واختراق موقف المكون العسكري المصر على إنهاء علاقته بالمكون المدني، وذلك على الرغم من حث فيلتمان الأطراف السودانية على ضرورة التخلي عن سياسيات حافة الهاوية.
الشاهد أن خيارات د. عبدلله حمدوك في إنقاذ الفترة الانتقالية تبدو محدودة
نسبيا، ولكن يحسب للرجل إصراره على مواصلة المجهودات بمباحثات منفصلة وغير معلن تفاصيلها مع أطراف معادلة مظاهرات القصر الجمهوري المطالبة بتفويض الجيش، ومنهم منى أركو منياوي حاكم إقليم دارفور الذي أشاد بمجهودات رئيس الوزراء وقال إنها قد تفتح طريقا، بينما يبدو جبريل إبراهيم وزير المالية ورئيس حركة العدل والمساواة وصاحب الخلفية الإسلاموية أكثر تشددا، ولعل ما يفسر ذلك أن الأخير يرتكن إلى قواعد الحركة القومية الإسلامية التي انشقت عنها الحركة في توقيت سابق، وتعد واجهة نظام البشير وقواعده الاجتماعية الماثلة على الأرض حتى الآن.
وقد استبق حمدوك مظاهرات ٢١ أكتوبر التي تدعو لها حاضنته السياسية من الحرية والتغيير، (المجلس المركزي) باجتماع طارئ لمجلس الوزراء السوداني تم الإعلان عنه صبيحة ١٨ أكتوبر، وذلك في محاولة لاحتواء الموقف السياسي الملتهب بين الأطراف، ووضع أسس لتوسيع المشاركة السياسية التي ينادي بها معارضو حكومته، وأقر هو بها في خارطة الطريق التي أعلنها عشية مظاهرات ١٦ أكتوبر .
وبطبيعة الحال، تبدو دوافع حمدوك في هذا الاستباق جلية في إمكانية انزلاق المشهد السياسي برمته إلى مواجهات، خصوصا وأن المظاهرات المرتقبة الخميس المقبل قد يكون فيها احتكاكات على الأرض غير محمودة الأثر، فمن ناحية يملك تاريخ ٢١ أكتوبر رمزيته في التاريخ السياسي السوداني، وهو ما يعني زخما متوقعا لهذه المظاهرات، وهو من ناحية أخرى سيكون يوما تتواجد فيه أيضا قوى تفويض الجيش كما أعلنت مؤخرا .
وفي تقديرنا أنه قد يدعم مجهودات حمدوك الراهنة، ويعطيها فرصا للنجاح ثلاثة مؤشرات الأول أنه بعد يومين من الاعتصام أمام القصر الجمهوري وضح ضعف هذا الاعتصام ووزنه السياسي المحدود، حيث إن حجم المعتصمين لم يتجاوز المائتي شخص. المؤشر الثاني أنه قد بدأت انسحابات بالفعل من الاعتصام من جانب بعض مكوناته السياسية، فانسحب أحد الأحزاب البعثية، وثالث هذه المؤشرات أن هذا الاعتصام لم يأخذ بعدا إثنيا، وهي مخاوف كانت حاضرة في المشهد في أن يؤيد الاعتصام القواعد الدارفورية الموجودة بالخرطوم، ولكن يبد أن كل من جبريل إبراهيم ومنى أركو ميناوي باتا معزولين عن هذه الجماهير لحد يبدو منظورا وواضحا.
في الأخير يبدو أن موقف المكون العسكري النهائي من مصير الفترة الانتقالية، ومسألة تسليم رئاسة المجلس السيادي للمكون المدني سوف يتبلور طبقا لطبيعة المشهد السياسي يوم ٢١ أكتوبر، وما قد يوضحه من توازنات القوي على الأرض، وهي التوازنات التي سوف تعكس نفسها على اتجاهات الموقف الأمريكي، والعواصم العالمية في الفترة المقبلة إزاء مصير الفترة الانتقالية السودانية.