“منذ سيطرة طالبان على أفغانستان ونحن نسأل إن كانت الجماعات الجهادية، خاصة الموالية للقاعدة، ستهجر إرث بن لادن وتتبنى نموذج طالبان. تهجر هذا الجهاد العالمي الذي شتت الجهود والموارد وتتبنى نموذجًا محليًا. لا نقول إن طالبان على حق، وإنما نبرز التناقضات في التوجه والمراجعات. وما ينطبق على القاعدة ينطبق على داعش فكلاهما من رحم واحد”.
كانت تلك الكلمات جزءًا من تعليق “مرصد الجهادية” (منصة صوتية تتابع وترصد أخبار الجماعات الجهادية في العالم) على آخر مستجدات الخلاف الجهادي في سوريا بين أنصار “العالمية” من تنظيم القاعدة، وأنصار “المحلية” من هيئة تحرير الشام، على إثر سيطرة حركة طالبان على حكم أفغانستان.
المرصد سلط الضوء على عدة شهادات تشرح هذا الجدال، والنموذج الذي تقدمه طالبان من “جهاد محلي”، تسعى هيئة تحرير الشام، في إدلب، للاستفادة منه ومقاربته بما يخدم أهدافها المحلية، وعلاقاتها الدولية.
ويقول المرصد: في جانب هيئة تحرير الشام، قارب أبو ماريا القحطاني، القيادي في الهيئة، بين ما يحصل في إدلب وما يحصل في كل أفغانستان. بين ما يحصل للهيئة وما يحصل لطالبان من تفجيرات للموالين للقاعدة في إدلب وتفجيرات الموالين لداعش في قندهار وقوندوز وكابول. ومن خارج الشام، ربط نائل الغزي، الموالي للهيئة والمعارض للقاعدة، أيضا بين إدلب وأفغانستان قائلا: ينتقدون التفجيرات في أفغانستان ويباركونها في إدلب. في إشارة إلى هجوم على الجيش التركي يُعتقد أن منفذيه تابعون للقاعدة.
“اختلالات في التوجه الجهادي”
وفي منشور طويل، كتب أبو محمود الفلسطيني، الموالي لهيئة تحرير الشام والمعارض للظواهري، عن “اختلالات في التوجه الجهادي” وعن حملة مراجعات حقيقية من جهات، يقابلها من جهات أخرى “إصرار على ما هو قديم مع تكرار الفشل دون اتهام النفس بالخطأ أو بالتقصير”.
يستعرض الرجل نماذج جهادية، ويتوقف مليًا عند القاعدة في اليمن قائلاً: “وأما حال الجهاديين في اليمن فلا يسر. حالة تشرذم وضياع وتيه، مازالوا يعيشون درب أمريكا ومواجهتها، ويريدون حشد القبائل تحت هذا الشعار فكانوا خارج واقع مواجهة الحوثي، مهما أدعى البعض خلاف ذلك، فمواجهتهم كانت تطلب الخروج من حالة نظرية 2001 والانخراط في حالة عالمية، على التركيز في الواقع المحلي”. وينتهي الرجل إلى أن ما تحقق لطالبان سيتحقق لتحرير الشام.
من “الجبهة” إلى “الهيئة”: بداية المحلية
في أبريل 2013، وخوفا من نزعة الهيمنة لدى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، أصبحت جبهة النصرة، التي تحوّلت لاحقا إلى هيئة تحرير الشام، الفرع الرسمي لتنظيم القاعدة في سوريا.
لكن في يوليو 2016، وبعيد التدخل العسكري الروسي المكثّف، غيّر أبو محمد الجولاني، زعيم جبهة النصرة، اسم التنظيم إلى جبهة فتح الشام. وأعلن أنه لن يعود فرعًا لتنظيم القاعدة. وردًّا على هذه الخطوة، أنشأت مجموعة من الجهاديين المتشددين تنظيم “حراس الدين” ليكون الفرع الجديد لتنظيم القاعدة في سوريا.
قامت استراتيجية البقاء التي اتبعتها هيئة تحرير الشام منذ مطلع العام 2017 على الالتحاق بركب المعارضة السورية والتعبير عن أجندتها محلية الطابع. لذلك، كان الصدام محتوما بين هيئة تحرير الشام وحراس الدين. ولكن سرعان ما اتضح أن الهيئة تتمتع بالقوة الكافية لاحتواء حراس الدين وجميع المتعاطفين مع تنظيم القاعدة في شمال غرب سوريا. بل وقدمت نفسها كذلك كتنظيم قادر على درء المخاوف الغربية من داعش، فاتحة بذلك باب التفاهم.
اليوم، ما من علاقة تربط بين هيئة تحرير الشام وتنظيم القاعدة، لأن أي تنسيق أو تعاون علني قد يقضي على المحاولات الدؤوبة التي تبذلها الهيئة لإظهار “اعتدالها” و”انتمائها السوري” اللذين يشكّلان ركيزتَي استراتيجيتها الهادفة إلى الحصول على اعتراف إقليمي ودولي بسلطتها في شمال غرب سوريا، بحسب ما يقول عزام القصير، الباحث السوري المختص بدراسة التيارات الجهادية السلفية وتحولاتها الأيديولوجية.
الدرس الأساسي
وفي مقابلة مع مركز “كارنيجي” بعنوان “لماذا يتردد صدى كابُل في إدلب“، وردا على سؤال: هل يؤثّر انتصار حركة طالبان في أفغانستان على هيئة تحرير الشام بأي شكل من الأشكال؟ أجاب القصير: “نعم، إذ كان لحركة طالبان تأثير في استراتيجية تنظيم هيئة تحرير الشام وتفضيلاته قبل وقت طويل من انتصارها في أفغانستان. فقيادة هيئة تحرير الشام كانت تراقب وتسجّل الملاحظات منذ بدء المفاوضات بين طالبان والأميركيين في الدوحة قبل عامَين”.
وأضاف: الدرس الأساسي الذي تعلّمته هيئة تحرير الشام من تجربة طالبان هو: إذا كان النأي بالنفس عن تنظيم القاعدة والامتناع عن شنّ عمليات إرهابية في الخارج يقودان إلى القبول الدولي، فليكن.
تبريرات دينية وتحركات سياسية
بدأت هيئة تحرير الشام في الآونة الأخيرة استخدام ما حدث في أفغانستان في حملات التجنيد. وفي محاولاتها الآيلة إلى الفوز بدعم القادة والدعاة الجهاديين الذين يشكّكون في فعالية المقاربة التي يعتمدها الجولاني والتي تقوم على طمأنة الغرب ونفي تهمة الإرهاب.
واستنادًا إلى تحليل “القصير” لخطاب هيئة تحرير الشام، فإن هذه المقاربة لا تصوَّر داخليًا بأنها مربحة على الصعيد الاستراتيجي فحسب، بل تقدَّم أيضًا بأنها جائزة دينيًا بموجب مبدأ “المصلحة”. والقدرة على استخدام هذه التبريرات الدينية، مثل نجاح طالبان الأخير، تشي بأن المستقبل مفتوح أمام خطوات براجماتية أكثر جرأة يمكن أن تقدِم عليها قيادة الهيئة. وقد تتخذ شكلًا من أشكال التعاون مع تركيا وما يسمّى بالجيش الوطني السوري المدعوم من أنقرة، وفقا لرؤية الباحث.
وفي الإطار نفسه، أشار مجلس الشؤون الدولية الروسية (مؤسسة بحثية رسمية) إلى أن هيئة تحرير الشام، مثل طالبان، ستتجنب إثارة غضب المجتمع الدولي بأي شكل من أشكال العدوان. بل على العكس، سيسعون للحصول على دعم الولايات المتحدة وتركيا من خلال اتخاذ إجراءات لقمع الجماعات المتطرفة والإرهابية الأخرى في إدلب. مع اختيار عدم استهداف دمشق الرسمية.
وأوضح المجلس أنه على الرغم من أن الجماعات المتطرفة الأخرى المتجذرة في إدلب، بما في ذلك تلك المرتبطة مباشرة بالقاعدة، احتفلت بنجاح طالبان. إلا أن المتحدثين باسمهم أشاروا بوضوح إلى أنهم يرون أفغانستان كملاذ يمكنهم الانتقال والعيش فيه كمدنيين وليس كمكان لاستمرار نشاطهم العسكري.
لا يمكن استبعاد أن نفوذ طالبان قد يؤدي إلى التخلي عن “الجهاد العالمي”، وليس تطرف بعض الجماعات. لذلك، قد تهدد “أسطورة طالبان” أيديولوجية السلفية الجهادية، بتعبير المركز الروسي، الذي يرى أن اتباع مسار طالبان يمكن أن يفتح الباب أمام تنظيمات جهادية أخرى في أفريقيا من أجل بدء حوارات وإجراء تفاهمات.
بناء الشرعية يبدأ من الخطاب
في خطابها المحلي قدمت طالبان نفسها باعتبارها حركة وطنية قومية في المقام الأول، مستخدمة لغة مقاومة المحتل وإبعاد الغزاة. وبالمثل لجأت هيئة تحرير الشام إلى ذلك “لكي تُظهر للسكان المحليين أنها تعيد تأهيل نفسها بعيدا عن الجهاد العالمي. وكان أحد تكتيكاتها الأولى هو اعتماد لغة الثورة”، بحسب معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى.
وعلى مدار السنوات الخمس الأخيرة، أصبحت الرسائل المرتبطة بالثورة جزءا أساسيا من معجم الهيئة، على الرغم من استمرارها في الامتناع عن اعتماد علم الاستقلال السوري الأخضر. إلا أنها تتساهل على نحو متزايد مع المواطنين الذين يستخدمون هذا الرمز في المظاهرات والمناسبات الأخرى.
وهنا ربما يتبدى الفارق بين طالبان والهيئة، فالأولى حافظت على خطابها المتسق مع الهوية القومية البشتونية. بينما لجأت الأخيرة إلى ذلك في سياق تحولي، إذ كان لدى قادتها خلافات أيديولوجية شديدة مع أولئك الذين انتفضوا ضد نظام الأسد، واعتبروا خطاب الثورة وأهدافها “بديلا قوميا غير شرعي عن جهادهم العادل”.
وتستغل الهيئة -بحسب معهد واشنطن- قضايا مثل الدفاع عن النبي محمد وفلسطين لحشد الدعم المحلي، وفي صرف النظر أيضا عن سجلهم السيئ في الحكم. موضحًا: “ليس هناك شك في أن الهيئة وأنصارها يهتمون فعلا بهذه القضايا. ومع ذلك، فهم يحوّلونها إلى أداة بطريقة استعراضية وسياسية بدلاً من أن يُعتبر دعمها ذو منحى إيديولوجي”.
المشاركة القبلية كبناء آخر للشرعية
في مجتمع قبلي كأفغانستان، استطاعت طالبان أن تبني شبكة من التحالفات والعلاقات القائمة على المصالح المتبادلة، ضمن استغلالها لضعف الإدارة الحكومية التي لم تقدم أي نوع من الخدمات الأمنية والاقتصادية لسكانها، فملئت الحركة ذاك الفراغ.
وبالمثل يمكن القول إن هيئة تحرير الشام، استطاعت توظيف البناء القبلي لصالح تحقيق أهدافها، من خلال اجتماعات متواصلة للجولاني، قائد الهيئة، ومسؤولين آخرين مع الجهات المحلية العشائرية، انتهت بإنشاء مجلس شورى لمعالجة الشؤون والمشاكل القبلية.
هذه الخطوة ينظر إليها الباحث عزام القصير من زاويتين، فمن جهة تتيح هذه المجالس للهيئة الحفاظ على سطوتها وإظهار موقعها المهيمن كوسيط النفوذ وصانع القرارات الأوحد في إدلب، وتُمكّن القبائل من الإبقاء على دورها التقليدي والمشاركة في إدارة الشؤون الاجتماعية والقضائية.
ومن جهة أخرى، يعكس إنشاء المجالس القبلية الانخراط المتزايد للهيئة في السياق السوري. فقد بدأت الهيئة، بعيد القطيعة مع المنظومة الجهادية العالمية، تظهر طابعها المحلي من خلال إعلانها أنها تمثّل إرادة العرب السنّة في سوريا. وهكذا، يمكن النظر إلى إنشاء مجالس الشورى القبلية بأنه خطوة إضافية تلجأ إليها هيئة تحرير الشام لتعزيز انخراطها في الشؤون المحلية وإظهار فهمها للديناميات الاجتماعية المحلية.
ويرى معهد واشنطن أن التكتيكات المتبعة من الهيئة لاكتساب الشرعية -سواء تغيير الخطاب للهجة قومية، أو استغلال القضايا الدينية والسياسية، أو بناء شبكة تحالفات مجتمعية- هي ذات التكتيكات التي تتبعها الأنظمة الاستبدادية العربية.
أي مستقبل ينتظر الهيئة؟
تصنف عدد كبير من الحكومات والمنظمات الدولية هيئة تحرير الشام في خانة التنظيمات الإرهابية، لكن شطب هذه التنظيمات من قوائم الإرهاب ليس أمرًا غير مسبوق. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك الحوثيون في اليمن.
ولكي تشطب الهيئة من قوائم التنظيمات الإرهابية، يجب أن يأتي ذلك نتيجة تدقيق طويل ومعمق في الوعود التي قطعتها بالسماح بظهور حراك مدني أساسي ومجدٍ، وفي مزاعمها عن استعدادها لفتح السجون ومراكز الاعتقال أمام مجموعات حقوق الإنسان لإجراء عمليات تفتيش، بحسب ما يرى القصير في مقابلته مع كارنيجي.
ويتابع: “الطريق معبَّدٌ أمام تعاون هيئة تحرير الشام مع تركيا، سواء بصورة مباشرة من خلال حكومة الإنقاذ التابعة للهيئة في إدلب، أو بصورة غير مباشرة من خلال التنسيق العسكري مع الفصائل المدعومة من أنقرة في الشمال”.
التقارب مع تركيا والموقف الأمريكي
ويأتي هذا التقارب مع تركيا في ضوء تعرض الهيئة لضغوط من “الأصوليين المستائين من براجماتية الجولاني، وكذلك من السكان المحليين غير الراضين عن إدارة التنظيم للشؤون الاجتماعية والاقتصادية. لذلك غالب الظن أن تصبح الهيئة أقرب إلى القبول بتركيا كراعيتها الإقليمية، وأن تمتثل لأي مبادرات دولية للسلام والمصالحة في المستقبل، أو أقلّه ألّا تبدي معارضة شديدة لها”.
وهنا يجدر الإشارة إلى الدور الأمريكي وكيفية تفاعله مع الهيئة، فمن جانب يمكن أن ينظر إلى احتواء إدارة بايدن لها وشطبها من قوائم الإرهاب على أنه تقويض لتعهد الترويج لحكم منفتح وديمقراطي، والعودة بشكل أساسي إلى السياسة الفاشلة المتمثلة في دعم الحكم الاستبدادي المحلي الذي يعود بالفائدة فقط على من هُم في السلطة، بكلمات هارون زيلين، الباحث في كيفية تكيف الجماعات الجهادية مع البيئة السياسية الجديدة في عصر الانتفاضات العربية.
ومن جانب آخر فإن احتمالية حدوث انسحاب أمريكي من سوريا يدفع جميع الأفرقاء، ومنهم هيئة تحرير الشام، إلى الاستعداد لمثل هذا السيناريو، لأنه سوف يؤدّي، حال حدوثه، إلى تغيير في ميزان القوى يصب على الأرجح في مصلحة كل من إيران وروسيا والنظام السوري.
لذا، وبحسب مركز كارنيجي، سوف تستثمر هيئة تحرير الشام في سيطرتها على إدلب بحكم الأمر الواقع لمحاولة الحصول على الاعتراف بدورها وسلطتها من أجل التعويض عن تراجع شرعيتها العسكرية.
فروقات بينية
كانت المقارنة بين طالبان وهيئة تحرير الشام لتكون صحيحة لو انسحبت روسيا وإيران من سوريا، لكنها لم تفعل، مما يترك المقارنات بين الحركتين محصورة في الخطاب والسياسات، وفقا لما يعتقده حسن أبو هنية الباحث في شؤون الجماعات الجهادية.
وبينما فرضت طالبان نفسها كقوة حاكمة وحيدة في أفغانستان، تظل هيئة تحرير الشام خاضعة للحسابات الإقليمية والدولية ولم تستطع احتكار السلطة في شمال غرب سوريا.
أظهرت تجربة طالبان -والحديث على لسان أبو هنية- أن الثبات في المواقف وليس التنازلات سيضمن الاحترام والاعتراف العالميين. وافقت طالبان فقط على التفاوض مع الولايات المتحدة بشأن انسحاب القوات الأمريكية ولم تقدم سوى القليل من التنازلات. ولم تتعهد قط بالحكم بالديمقراطية والانتخابات، لكنها أعلنت أنها ستنشئ إمارة إسلامية في أفغانستان، على عكس هيئة تحرير الشام.
وأضاف الباحث أن المرحلة المقبلة ستشهد على الأرجح منافسة شديدة بين الحركات الإسلامية، تؤدي إلى حل القاعدة أو زوالها، تاركة المشهد لتنظيم داعش بفكره وحركاته الجهادية العالمية أو ذات الأجندات المحلية مثل هيئة تحرير الشام وطالبان وغيرها، مؤكدا أنه رغم التشابهات إلا أن “هناك اختلافات عميقة بين تجربة طالبان وهيئة تحرير الشام” وأن “السياقات أهم من الأيديولوجيات”.