“أ.ع” فتاة مستقلة من الطبقة التي تستعين بمترو الأنفاق للوصول إلى مقر عملها يوميا. ولكنها غير محجبة. وعليه اعتادت محاولات التنمر المشوبة بالانتهاكات الخفيفة في رأيها. التي تعتبر النظر شذرا أخف ملامحها. حتى جاء يوم افترشت فيه الأرض نظرا لألم حل بعمودها الفقري، فبادرت سيدتين منقبتين. بزجرها وأمرها بأن تجلس مستقيمة دون أن تمد ساقيها. رفضت الفتاة طلبهما. فبادرا بالإمساك بقميصها ومحاولة إغلاق أزراره بدعوى أن “صدرها باين”. قاومت الفتاة محاولتهما لتقويمها فما كان منهما إلا جرها من شعرها. والاعتداء عليها، وسط هرج ومرج بعربة السيدات. التي هرب ركابها المعتديتين.. وأمسكن بالضحية بعد أن أصرت على اللجوء إلى نقطة الأمن في المحطة التالية.
شرحت “أ.ع” ما تواجهه يوميا من صعوبات بسبب مظهرها وبشكل خاص شعرها. التي أرجعته للمسالة الطبقية بشكل أساسي. فهي ترى أن النساء في طبقات الأعلى لا يتعرضن لمثل هذه الانتهاكات حيث يتم النظر إليهم كما الأجانب “ممنوع اللمس أو الاقتراب”.
تقول الفتاة: أعيش حربا لا معنى لها منذ تخليت عن حجابي بعد الجامعة وفي أعقاب ثورة يناير، ففي الماجستير على سبيل المثال رفض أستاذي بحثي العلمي. قائلا: “إنت مبقتيش فاضية للعلم من ساعة ماقلعتي الحجاب وطلعتي مظاهرات”.
ولكن ومع كل هذا تأسف “أ.ع” على ما أصبح الأمر عليه من اعتداء جسدي مباشر عليها. وتقول: لم أتصور أن يتحول الأمر إلى هذا القدر من الكره والعنف. كنت قد تعودت محاولات دعوتي للحجاب، أو حتى النظر لي شذرا في المواصلات العامة. ولكني لا أستطيع أن أتخطى مسالة العنف البدني، حتى أنني لا أستطيع الخروج من المنزل منذ يومين” تردف: “أشعر أنني أعيش كابوسا”.
حكاية إيزيس
وقبل أيام من واقعة “أ.ع”. كنا على موعد مع حادث الصيدلانية إيزيس مصطفى التي اشتكت اعتداء زملائها عليها في مقر عملها في محافظة الشرقية بسبب عدم ارتداء الحجاب.
وأوضحت إيزيس أنه منذ شهر مايو الماضي. وهناك تنمر ممنهج عليها بسبب شعرها و لبسها وأنها مسلمة لا ترتدي الحجاب. وأن هذا التنمر من قبل رئيسة الوحدة الصحية في كفر عطا الله.
وأضافت: كانت بتقولي إيه الاختلاف اللي بينك و بين أي مسيحية إنت كده ربنا مش هيقبل ليكي صلاة أنت كده بتعصي ربنا”.
وأوضحت ايزيس أنه بسبب بعد المسافة بين محل سكنها والعمل كانت تأتي متأخرة بحوالي 10 دقائق عن ميعاد الحضور فما كان من رئيسة الوحدة إلى منعها من بالتوقيع في دفتر تسجيل الحضور، وتتحدث معها بأسلوب غير لائق.
وقالت إيزيس: قدمت شكوى في النيابة الإدارية بتاريخ 8 سبتمبر الماضي. وفوجئت يوم 29 سبتمبر أثناء تسجيل حضوري بأنها تلقي دفتر الحضور ورائي: “ببص ورايا هبشتني في وشي وعورتني في عيني و فتحتلي شفايفي وشدت شعري جامد “.
وتابعت إيزيس: الموضوع زاد وكتفوني و رموني على الأرض و نزلوا فيا ضرب وهي قعدت فوقي و لوحدها مسكت راسي و إيدي و ضهري ولحد دلوقتي باخد مسكنات من الألم.
وقالت إيزيس: محدش خلصني منهم وأغمي عليا دقيقتين وسابوني افتكروني مت، وأما سابوني نزلت روحت الصيدلية قالولي لازم تروحي المركز وتعملي محضر وعملت المحضر وقعدت يومين في القسم عشان العرض على النيابة.
وعدها الدكتور ممدوح غراب محافظ الشرقية بحل مشكلتها دون الدخول في أزمة تمس مستقبلها أو اسمها حتى لا تتأثر بتلك الواقعة مستقبلاً.
الضحية باتت متهمة
وخلال الساعات الماضية نشرت مؤسسة بلادي الحقوقية على موقع “الفيسبوك”. منشورا يفيد بظهور ايزيس في نيابة أمن الدولة العليا. والتحقيق معها بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية، ونشر أخبار كاذبة. وقررت النيابة حبسها على ذمة القضية رقم ٢٢١٤ لسنة ٢٠٢١ حصر أمن الدولة عليا.
يتم الحديث عن النساء المسلمات ولكن لا يسمح لهن بالكلام، وحين يتحدثن تتم إعادة تفسير كلامهن، أي لا نتركهن يقلن ما يردن بل ما نريد أن نسمعه.
الناشطة والكاتبة الإسبانية السورية سيرين إدلبي السباعي
العنف والتمييز ضد غير المحجبات ليس بجديد خاصة خلال العشرين عاما الماضية. هكذا ترى كل من الباحثة النسوية إلهام عيداروس والمحامية الحقوقية لمياء لطفي. فالأمر ليس جديدا، ولكنه يزيد استفحالا.
تجد إلهام في تصاعد العنف والتمييز ضد غير المحجبات. أسباب متنوعة منها تصاعد الحركة النسوية وتحقيقها لنجاحات على مستويات عدة. فكسر صوتهن حاجز الصمت بعد سنوات. وفي المقابل تواجه الجماعة المحافظة تلك الخطوات بمقاومة ضخمة، وصلت إلى العنف الجسدي المباشر.
خطاب نسوي متصاعد
السوشيال ميديا أيضا كان لها دور مهم في إلقاء الضوء على حدة العنف. وإبراز مختلف حالاته، بحسب عيداروس. فضلا عن انتشار الخطاب النسوي حتى ما بين المحجبات، وفئات من المحافظين. الذي ساعد المرأة على عرض قضاياها وفقا لقناعاتها.
وانتشرت المصطلحات التي تخص الحقوق، والحريات. حتى في تفنيد حق المحجبات، والمنقبات أنفسهم بالاحتفاظ بأزيائهم. ولكن على الجانب الآخر فإن انتشار هذا الخطاب يكن له المحافظون عداء شديدا.
فقد يتسامحون مع تلك اللغة وأدواتها في حالة السائد بالنسبة لهم مثل مسألة النقاب، وغيره، لتختلف المسألة قطعيا بالنسبة للقضايا التي تتعارض في رأيهم مع العقيدة، مثل أمور غير المحجبات.
وبشكل شخصي تسرد إلهام تجربتها مع الحجاب. إذ إنها كثيرا ما واجهت نوعين من التمييز السلبي. فمن ناحية يشككك البعض في ديانتها نتيجة لقبها غير الواضح. أو عندما يتأكد لدى الآخر بأنها مسلمة. فيبدأ في دعوتها إلى ضرورة ارتداء الحجاب. وكيف أنه دليل على الاستقامة، والأصل الجيد.
الأعلى.. العنف خارج القاهرة
أما لمياء لطفي فتلفت إلى ازدياد العنف والتمييز في الأقاليم خارج العاصمة. انطلاقا من كونه مجتمع مغلق. يحافظ فيه الجميع على ما اكتسبوه من عادات حتى وإن كانت تمييزية. تضرب المثال على ذلك بفتاة الفيوم. الذي اعتدى عليها أهل القرية نتيجة خلعها الحجاب. على اعتبار أن مخالفة الاجماع يعد مساسا بالعقيدة يجب معه إنزال العقاب بالمخطئ.
وفي العموم تعتقد لطفي أن المجتمع المصري كيان لا يتقبل المختلف عنه. ويبادر بالتنمر عليه، او حتى التمييز ضده. سواء كان المختلف مختلف عقائديا، أو طبقيا، أو حتى لمجرد المظهر الخارجي.
أشكال التمييز
وحول أشكال التمييز فتعدد لمياء وقائعها التي تصل إلى حد عدم مساندة المرأة في حال التحرش بها إن كانت غير محجبة. وتصل إلى التعيين في بعض الوظائف، فضلا عن الوصم خاصة في القرى إلى الحد الذي يضطر معه السيدات المسيحيات إلى ارتداء غطاء للشعر.
وتحكي لمياء عن تعرض بعض الفتيات للتمييز في المصالح الحكومية من قبل بعض الموظفين نتيجة عدم تغطية شعرهن. والإعراض عن مساعدتهن في إنهاء أي أعمال ورقية تخصهن.
وعلى المستوى الشخصي تعرضت لمياء لمظاهر من التمييز أثناء الدراسة. إلى الحد الذي كان منعها من ممارسة بعض الأنشطة المدرسية. ولكنها لم تتوقع أن يمتد الأمر إلى ابنتها ندى، التي واجهت الموقف ذاته ولكن بشكل أكثر حدة مرتين.
ففي المرة الأولى مارست مدرسة الجغرافيا التنمر على ندى ورددت عبارات مثل “أنت صعبانة عليا عشان مش متمسكة بفروض دينك”. وهو الأمر الذي ساهمت مديرة المدرسة في وضع حد له، ولكن تكرر الموقف في مدرسة جديدة وفي هذه المرة بدت مديرة المدرسة شديدة التعنت. كما أنها بدأت في وصمها شخصيا. ونشر صورها على مجموعات أولياء الأمور. وحرضت الآلاف من أولياء الامور ضدها. معرضة حياة الطفلة، والأم للوصم، والخطر. حتى تم توقيفها ومعاقبتها، ولكنها عادت لمنصبها نفسه هذا العام.
ترى لمياء أن الحركة النسوية لازالت بحاجة إلى مزيد من التنظيم والتناغم. وأن الطريق لا يزال طويلا جدا في هذا الشأن.
الحل.. الحماية المجتمعية
في حين تعتقد إلهام عيداروس أن الحل يكمن في دولة منضبطة تلتزم بحفظ الحقوق للجميع الأقلية قبل الأغلبية. فالممارسات الأمنية من وجهة نظر إلهام تدعم البلطجة المجتمعية. ونزوات الجماعات المحافظة.
وتقول إلهام: “لست بحاجة لتغيير قيم أحد أو اقناع الآخر بشخصي. ما احتاجه هو الحماية من قبل الدولة”.
وتابعت: تمارس الدولة سلوكا محافظا وتميز بين مواطنيها. عبر إهمالها للجماعات التي تمارس الاستعلاء الديني. ولا تتدخل إلا إن وصل الامر للقتل كما هو الحال مع قتيلة السلام. أو حتى الشيخ الشيعي حسن شحاتة. ولكن في الأحوال العادية. فالأمر متروك لهوى الأغلبية.
كما تمارس الدولة نفسها الوصاية الأخلاقية. والدينية كما في حالة فتيات التيك توك. أو حتى في رفضها للممارسات الدينية الشيعية. على سبيل المثال، ما يفتح الباب أمام الجماعات المحافظة للتدخل في حياة الآخر.
“فخ الحجاب”، أي ذريعة السيطرة الأبوية على أجساد النساء، سواء لفرض لباس ما أو حتى لفرض التعري.
أستاذ النوع الاجتماعي أنجليس راميريز
يثير خلع الحجاب عاصفة من اللغط والاستنكار لا حصر لها. لا توازي ترك المرأة المسلمة للصلاة أو حتى كامل أركان الإيمان. ويرجع ذلك لارتباطه بمسألة الشرف، وكذلك العادات والتقاليد، التي يمس بعض منها المرأة بشكل خاص.
في محافظة البحيرة يعيش المحامي الحقوقي محمد حمادة الذي يرى أن مسألة الحجاب في محافظته. ما هي إلا ذريعة لسيطرة الذكور على أجساد النساء. وأن المسألة ليست دينية أبدا، إنما هي عادات وتقاليد.
العار.. لغير المحجبات
يقول محمد ” تصل المسالة إلى حد أن خلع الحجاب أو عدم ارتدائه. يعد قرينة على انحراف السلوك مشهود لها. إلى حد لجوء بعض المسيحيات إلى غطاء الشعر كعرف وليس رمزا دينيا.
أما فيما يخص المدرسة، فالإكراه هنا ليس واضحا حيث أن الفتيات يستسلمن للأمر من قبل ذويهم منذ نعومة أظفارهن. ونادرا ما تحيد عن ذلك الخط. وغالبا لن تترك الأسرة الأمر للمدرسة. فالتعنيف والرفض سيكون فوريا. إلى درجة أنني بقريتي لم يسبق وأن شاهدت مسلمة غير محجبة. وإن كان بعض الأهل يسمحون للفتاة بخلع الجاب خارج نطاق القرية حتى لايتم وصمهم مجتمعيا.
أما مسالة الاستهداف البدني لغير المحجبة فيرجعها حمادة إلى ثقل العائلة وقوتها طبقيا بين أبناء القرية. فالفتاة الأضعف طبقيا قد يشكل الأمر خطرا عليها كما في حالة فتاة الفيوم، ولكن غالبا ما يكون الاستهداف معنويا عبر الوصم، والتشوية نظرا للروابط العائلية، والقبلية.