في أقل من أربعة أشهر قُتل ثلاثة من أكبر قادة التنظيمات الإرهابية في أفريقيا. وهو تسلسل نادر أو يكاد يكون الوحيد في تاريخ الجماعات الجهادية بالمنطقة. ما يترك تساؤلات عديدة إزاء تطورات المشهد الأمني هناك، هل تكون تلك الضربات قاسمة لظهر الحركات الراديكالية أم ردة الفعل ستكون عنيفة، بحكم أن الجيل الصاعد غالبًا ما يكون أكثر تطرفًا من الجيل المؤسسة.
مشاهد التساقط
مشهد تساقط رؤوس التنظيمات المسلحة في أفريقيا مركب وذات أبعاد مختلفة. جزء منها يعود إلى صراع عميق يضرب منذ سنوات بنية تلك التنظيمات التي شهدت انشقاقات كثيرة، والجزء الآخر مرده إلى العملية العسكرية الدولية في المنطقة، بالتعاون مع القوات المحلية.
في السادس من يونيو الماضي، خرج أبو مصعب البرناوي، زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في غرب إفريقيا، ليعلن في تسجيل صوتي مقتل والده الروحي، أبو بكر الشكوي زعيم جماعة “بوكو حرام”.
“البرناوي قَتَلَ أستاذه”، هكذا يبدو المشهد الذي تتابعت تفاصيله لاحقًا، حين اضطر الشكوي للانتحار بتفجير نفسه، عندما حاصرته قوات البرناوي في غابة سامبيسا، في شمال شرقي نيجيريا، والتي كانت قاعدته التي يختبئ فيها.
البرناوي في حضرة معلمه
بالعودة إلى مشهد البداية، فإن حبيب يوسف (البرناوي)، صاحب الـ27 عامًا، تركه والده محمد يوسف مؤسس جماعة “أهل السنة للدعوة والجهاد” الاسم الحقيقي لجماعة “بوكو حرام”، أمانة لدى زعيم التنظيم أبو بكر الشكوي، الذي لقبه في العام 2009 بـ”البرناوي”، بعد مقتل والده برصاص الشرطة النيجيرية.
نشأ الفتى وتدرّح في السلم الجهادي على يد معلمه أبو بكر الشكوي، وفي سن الـ15 من عمره، عندما أصبح اليد اليمنى لزعيم الجماعة، خرج لأول مرة تحت مسمى أبو مصعب البرناوي، ومتحدثا باسم التنظيم.
اقرأ أيضًا| لغز التماسك الوهمي للجماعات المسلحة في الساحل الأفريقي
ظلت علاقة الأبوة مصدر إزعاج لدى طموحات الشاب الذي يرى في نفسه شخصية والده المؤسس، وعندما دب الشقاق بين الشكوي والبرناوي، حتى أعلن الأول أن الشاب لم يعد متحدثًا باسم “بوكو حرام”، وهنا كانت القشة التي قسمت ظهر طموحات نجل المؤسسة.
طموحات الشاب تنزع عباءة الشكوي
في العام 2015 نزع البرناوي عباءة الشكوي. وقتها لجأ الشاب إلى أحد أصدقاء والده المتوفى وهو مامان نور، اللذين خرجا معًا لتشكيل جماعة جديدة حول بحيرة تشاد وفي المنطقة الشمالية لنيجيريا. وفي العام التالي كانت “بوكو حرام” قد انشقت نصفين، الأول ظل محتفظًا بالاسم نفس الاسم ويقوده الشكوي، والثاني أطلقه على نفسه “تنظيم الدولة الإسلامية-ولاية غرب أفريقيا، ويقوده البرناوي.
بين يونيو وأكتوبر.. نهاية المتنافسين
ظل الخلاف بين التنظيمين يأخذ منحنيات عدة، حتى جاءت “معركة يونيو”، وقتها حاصرت قوات البرناوي (تنظيم الدولة الإسلامية)، الشكوي وقوات من “بوكو حرام”، ولما اشتد الخناق، اضطر الأخير لتفجير نفسه بحزام ناسف، فخرج البرناوي يعلن بنفسه خبر مقتل (أستاذه المنافس).
بعد أقل من أربعة أشهر، وتحديدًا في 15 أكتوبر الجاري، أعلن أعلن الجيش النيجيري مقتل زعيم “تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا” أبو مصعب البرناوي، من دون أن يقدم مزيدًا من التفاصيل، كما لم يصدر عن التنظيم أي تعليقات.
الصحراوي.. و”الضربة الحاسمة”
بين هذه الأشهر الأربعة، كان نبأ آخر يهزّ بنية التنظيمات الإرهابية، عندما أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في 20 سبتمبر الماضي، مقتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى، عدنان أبو وليد الصحراوي، على يد القوات الفرنسية.
اقرأ أيضًا| الطائرات المسيرة في أفريقيا.. صراعات خفية
وقتها وصف ماركون مقتل الصحراوي بـ”النجاح الكبير“، وقالت وزيرة القوات المسلحة الفرنسية، فلورنس بارلي، إنها “الضربة الحاسمة”. بينما كانت الأنظار تحدث في مصير “بوكو حرام” التي لا شك أنها تحاول تجميع نفسها، باعتبار أن مقتل زعيمها ذات تأثيرين سلبيين، الأول أنه قضى نحبه انتحارًا، والثاني أن العملية جاءت من بني جلدتهم الفكرية.
دلالات وتداعيات
في أحدث سقوط، يمثل مقتل البرناوي ضربة قوية لتنظيم “الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا”، الذي تحّول في عهده إلى قوة متطرقة سيطرت على مشهد النزاع النيجيري، الذي خلف أكثر من 40 ألف قتيل. ومع ذلك فإن وفاة الزعيم المؤسسة قد تشكّل ضربة لهيكلية التنظيم الذي صعد على أنقاض “بوكو حرام” التي تحاول العودة منذ مقتل الشكوي، وهي النقطة التي اشتغلها البرناوي جيدًا.
رغم ذلك، يدفع بعض القريبين من مشهد التنظيمات الراديكالية في أفريقيا، بأن مقتل البرناوي “لن يترك تأثيرًا كبيرًا على بنية الجماعة”، ويدللون على ذلك بأن تنظيم الدولة منذ أجرى منذ 2016 خمسة تغييرات في القيادة، ورغم ذلك حافظ على ثباته في المعارك الميدانية.
احتمالان وجملة تأثيرات
لكن لعل التطور البارز هو أن تنظيم الدولة في غرب أفريقيا سينشغل بنفسه عن ملاحقة فلول “بوكو حرام” التي رفضت مبايعته. وهو ما يترك احتمالين، الأول تقوية شوكة “بوكو حرام” التي تحاول لملمة صفوفها، أو تزايد عدد الخارجين من طوع التنظيمين، بعدما شهدت الأسابيع الماضية استسلام المئات للجيش رفقة عائلاتهم وأطفالهم، في محاولة للاندماج بالمجتمع وهجرة الفكر المتطرف.
إجمالاً يمكن تحديد التداعيات المحتملة لهذه التطورات في النقاط التالية:
– تشجيع القوى الدولية والإقليمية على زيادة الانخراط في جهود مواجهة الإرهاب، استغلالاً لمرحلة الضعف التي تبدو عليها تلك التنظيمات حاليًا.
– تبقى الخلافات الدولية حول أطر التعاون في تلك المنطقة، وما تبعها من تنافس اقتصادي، عقبة أمام فرصة بلورة تحرك دولي منظم، وهو ما بدا من مطالبة فرنسا مؤخرا بتقاسم عبء التحديات الأمنية في منطقة الساحل.
– احتمالية تشكل جماعات جديدة بقيادة جديدة، خارج سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، تبقى قائمة لا سيما مع اتباع هذه الجماعات سياسة إعادة الانتشار مع كل مرة يتعرضون خلالها لطعنة.
– ربما يؤدي مقتل القادة إلى خفوت نسبي للعمليات الإرهابية، أو نشوب انقسامات داخلية. لكن على المدى الطويل، قد يؤدي مقتل الزعماء الروحيين والمؤسسين إلى إثارة الرغبة في الانتقام بين مقاتليهم.
أظهر التاريخ الحديث للجماعات الجهادية في منطقة الساحل أن القضاء على زعيمها في كثير من الأحيان – وإن لم يكن دائمًا – يؤدي إلى ظهور قادة أكثر تطرفاً. (المصدر- مجموعة الأزمات الدولية)
– قد يلجأ تنظيم الدولة الإسلامية على وجه التحديد إلى سياسة البناء من الخارج، عبر تعيين قادة المجموعات الأفريقية من خارج الساحل، وهو ما تردد بأن القيادة المركزية لتنظيم “الدولة الإسلامية” أرسلت بالفعل مبعوثين إلى المنطقة.
فرصة الحوار
في أحدث قراءة تحليلية للوضع في تلك المنطقة، عقب مقتل القادة، يرى تقرير لمجموعة الأزمات الدولية أن الفرصة للحوار مع الجماعات المتطرفة باتت سانحة جدًا، ويدلل على ذلك بأنّ الزعيم الجديد، أيًا كانت هويته، ستكون له سيطرة أقل على الحركة، على الأقل في البداية. وتضرب مثالاً بـ أبو وليد الصحراوي، الذي نجح خلال السنوات العشر التي قضاها في المنطقة، في بسط نفوذه على القادة المحليين وأقام روابط قوية مع مجتمعات حدودية معينة. بينما يحتاج القائد الجديد إلى وقت قبل أن يتمكن من استعادة موطئ قدمه الراسخ في المنطقة. لذلك قد يكون القادة المحليون مستعدين للتفاوض مع الدولة، عندما تم منعهم في السابق من القيام بذلك بسبب عناد أبو وليد وقادة أجانب آخرين.
ويتعرض القادة المحليون لضغوط للانخراط في حوار من مجتمعاتهم المحلية، التي تتحمل وطأة الصراع بين الدولة والجهاديين. علاوة على ذلك، على عكس القادة الأجانب الذين يبدو أنهم منغلقين على الجهاد دون أي مخرج سوى النصر أو الموت أو الاستسلام، يمكن للقادة المحليين التفكير في استراتيجيات خروج بديلة. حتى لو كانت المفاوضات صعبة، يمكن للقادة المحليين محاولة التفاوض بشأن العفو أو حتى إعادة الاندماج في المجتمع لأنفسهم وللمقاتلين الذين يقودونهم.
لكن في حال جرى تعيين قادة غير محليين، فإن فرصة الحوار تبقى ضئيلة للغاية، حيث ترفض دول الساحل الحوار مع أجانب. حيث رفضت حكومات مالي والنيجر وبوركينا فاسو الحوار مع القادة الأجانب. وفي مارس، أكد الرئيس النيجيري محمد بازوم موقف بلاده الحالي بقوله: “لا يمكننا إجراء مناقشة مع أشخاص ليسوا من مواطني نيجيريا. وبما أنه لا يوجد نيجيريون يمكن الحديث معهم، فإن السؤال لا يطرح علينا”.
لمحة على الوجه الإرهابي في أفريقيا
تعتبر أفريقيا مركزا استراتيجيا لمختلف الجماعات المتطرفة، حيث ارتفعت حدة النشاط الإرهابي خلال العقدين الماضيين بنسبة 50%. بينما تشكل منطقة غرب أفريقيا على وجه الخصوص بيئة إرهابية من الطراز الأول. بدافع الظروف التي هيأت نشأة ونمو جذور الإرهاب المحلي والدولي، من حيث الفساد الإداري، والصراعات الإثنية، والتراجع الديمقراطي.
على سبيل المثال، شهدت مالي 3 انقلابات عسكرية في فترة 8 سنوات، وكذلك المظالم المحلية، والصراع على الموارد، وعدم قدرة الحكومات على تلبية احتياجات المواطنين، ومن ثم استطاعت الجماعات الإرهابية توظيف هذه العناصر من خلال سياسة إمالة العقول لصالح تكوين قاعدة عريضة من المؤيدين والمتعاطفين.
اقرأ أيضًا| حركة “أنصار الدين”.. المبايعة أينما وجد التمويل
وتوسع حجم الحضور الإرهابي إلى حد ظهور حوالي 7 جماعات إرهابية، في محيط بوركينا فاسو والكاميرون وتشاد وغامبيا وغينيا وموريتانيا ومالي والنيجر ونيجيريا والسنغال. ووفقا لتقارير مرصد الأزهر، يزيد معدل الهجمات الإرهابية على 50 هجوم شهريا. وخلال الأشهر الستة الأولى من 2021، شهدت أفريقيا ما يزيد على 320 هجومًا، بحصيلة 5 آلاف قتيل.
خصوصية الصحراء الكبرى وغرب أفريقيا
في الفترة الأخيرة، تصاعد حدة نشاط “داعش” في الصحراء الكبرى والقرن الأفريقي وغرب أفريقيا، بعد انحسار نفوذ التنظيم في معاقله الرئيسية في سوريا والعراق. لذلك وجه تركيزه نحو الساحة الأفريقية، ممتدًا حول حوض بحيرة تشاد في نيجيريا، خاصة ولاية بورنو، والكاميرون وتشاد والنيجر، وتركز أهدافه نحو الأفراد الجيش والشرطة والمؤسسات الحكومية والمدنيين، بقوة تصل قوامها 3500 إرهابي، بجانب مقاتلو “بوكو حرام” العائدين من ليبيا.
ومؤخرا، استطاع التنظيم تحقيق مكاسب حيوية لاسيما بعد انتصاره على جماعة بوكو حرام. وانخرط التنظيمات في منافسة، خاصة بعد هيمنة “داعش غرب أفريقيا” على مناطق عديدة في شمال شرقي نيجيريا. وطبقا للأمم المتحدة، وصل عدد ضحايا الإرهاب في أفريقيا منذ عام 2009 في خضم تمرد بوكو حرام وداعش إلى ما يزيد عن مقتل 300 ألف شخص ونزوح ثلاثة ملايين شخص قسرا.
حضور دولي
أطلقت الولايات المتحدة حملة موسعة للقضاء على الإرهاب في بداية القرن 21، وكان للدول الأفريقية نصيب واسع من دائرة اهتمام المجتمع الدولي، بهدف ملاحقة العناصر الإرهابية، منذ عقدت قمة مكافحة الإرهاب في داكار عام 2001، كمحاولة لتنسيق الجهود في مكافحة الإرهاب.
كما شكلت الولايات المتحدة القيادة الأمريكية “أفريكوم” لتعزيز جهود مكافحة الإرهاب في أفريقيا، بحيث وصل عدد جنودها إلى 6 آلاف جندي. كذلك شاركت فرنسا في الحرب على الإرهاب من خلال عملية “سيرفال” في مالي منذ عام 2013، ثم “قوة بارخان” بإجمالي عدد جنود 4500 عسكري.
واتخذت الأمم المتحدة خطوات ملموسة لمواجهة تهديد الإرهاب، على سبيل المثال، بعثة الأمم المتحدة في الصومال (أميصوم) بمشاركة 11 دولة أفريقية وحوالي 20 ألف فرد، وكذلك بعثة مينوسما في مالي منذ عام 2013.