الضربة الانتخابية التي تلقاها تحالف الفتح العراقي الذي يضم أحزابًا مدعومة من إيران، والتي لها صلات بجماعات مسلحة، طرحت تساؤلات حول تزعزع النفوذ الإيراني في الدولة المجاورة بعد سنوات من التغلغل في كل مفاصل الدولة، حين استغلت طهران الإطاحة بنظام صدام حسين، في عام 2003، وأوجدت لنفسها موطئ قدم عبر كيانات سياسية وميليشيات كانت الحرب ضد تنظيم “داعش” أحد أهم دوافع ترسيخ الوجود الإيراني بتشكيل مجموعات الحشد الشعبي التي ما لبثت أن أصبحت جزءًا من المؤسسة الأمنية العراقية، كما أصبح لحلفائها صوت وحضور قوي في المشهد السياسي.
بيد أن انفراط السيطرة الإيرانية تدريجيًا في العراق، يستدعي إلقاء نظرة فاحصة على الجماعات والتنظيمات المرتبطة بدول خارجية في المنطقة، والتي استفادت من التمويلات ودشنت بنى تحتية عسكرية وأمنية استطاعت من خلالها إيجاد دور سياسي في المشهد المحلي، على غرار جماعة الحوثي والكيانات الجنوبية في اليمن، والكتائب المسلحة في مصراتة وطرابلس الليبية، وتشكيلات المعارضة السورية، والمجموعات المسلحة في مناطق مترامية بأفريقيا، والتي تقف وراء صمودها تمويلات من إيران وتركيا والخليج وفرنسا وروسيا، جميع تلك الدول تنفذ أجندات عبر مجموعات محلية الصنع.
لعبة الكراسي الأربعة
تتقاطع طموحات ورغبات دولية، تتنازع مواضع الضعف والقوة في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط، لكنها تتفق جميعًا على عملية إعداد محكمة للمجموعات المسلحة، المؤهلة للاستمرار والتمدد، فما يكاد ينخفض تأثير مجموعة مسلحة في منطقة حتى يزداد نفوذ أخرى في منطقة أو قطر عربي آخر، فخفوت نجم تحالف الفتح في العراق يقابله تنامي واسع لحزب الله اللباني، وكلاهما يتغذيان على نفس العشبة الإيرانية.
الأمر نفسه بالنسبة للأجندة الخليجية، الداعمة في الغالب للجماعات السياسية وأنظمة الحكم طويلة النفس، كتلك التي تسبق ما يعرف بأحداث الربيع العربي، فما ينخفض تأثير حلفائها في منطقة إلا ويصعد في منطقة أخرى، بما يضمن الحفاظ على قدر من النفوذ بالقطر العربي، يسمح للدولة الخليجية مصدر التمويل بموضع قدم وثقل على طاولة أية مناقشات إقليمية ودولية.
لا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة لتركيا، الداعمة لمشروعات جماعات الإسلام السنية، في مقدمتها الإخوان المسلمين، التي يبدو أن ربيعها إلى الأفول، لكن هذا لا يعني أن أنقرة تخلت عن المنهج نفسه الذي نتحدث عنه، فمواضعها ثابتة في مناطق أخرى بأفريقيا والدول المجاورة لها، خاصة ذات المرجعية السنية.
الطرف الرابع في لعبة النفوذ الدولية هي الأطراف الغربية عموما، وأبرزها روسيا والولايات المتحدة والصين، وتلك الدول تعتمد في عملية صناعة النفوذ على الحكومات القائمة في مناطق، وجماعات مسلحة في مناطق أخرى، على غرار القارة الأفريقية التي تتحرك فيها الأطراف الغربية عبر مسارين، الأول عمليات عسكرية أغلبها هجمات جوية ضد متمردين رافضين للوجود الغربي على أراضيهم، وبين دعم مجموعات مسلحة وحكومات لمواجهة هذا التمرد، كما تفعل فرنسا في تشاد ومالي على سبيل المثال.
هكذا يمكن تقسيم خريطة النزاع الدولي على أربعة كراسي تتصارع لتهيئة أحد المقاعد لحلفائها، في المقابل أنفقت هذه القوى أموالاً طائلة على مشروعاتها سواء عبر تمويل الوجود السياسي أو العسكري والأمني، أو خلق ظهير دولي داعم لهذه الفصائل دولياً.
المُرَّكب الشيعي.. سلسلة المد والجذر
في مايو ٢٠٠٨، كان وفد من قبيلة “الدليم” العراقية يزور القاهرة ليطلب موقفًا عربيًا موحدًا وتدخلاً “لنجدة الشعب العراقي من الاحتلال الإيراني”. بعد 13 عامًا انتقل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى بغداد بصحبة الملك عبدالله وحشد إقليمي ودولي لتدشين مشروع “الشام الجديد”، يرتكز في الأساس على الخروج من رحمة إيران، التي تنفرد حصريًا بمد جارتها بالكهرباء.
المشروع الاقتصادي فضلاً عن كونه نقلة نوعية للعراق، فهو يحد من النفوذ الإيراني. لكن اللافت هو طعنة مفاجئة للجماعات والمكونات السياسية والعسكرية الموالية لإيران، بخسارة تحالف الفتح الانتخابات. هذا التطور الذي جاء عقب تضييق رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، رجل المخابرات، الخناق على الجبهات الموالية لإيران في الداخل. منذ اليوم الأول لتوليه المسؤولية توجه الكاظمي برفقة ضباط عسكريين إلى معابر حدودية تخضع لسيطرة الميليشيات الموالية لإيران، واستعاد سيطرة الدولة عليها. والمعابر تحقق عائدات جمركية تتراوح بين 6 مليارات و12 مليار دولار سنوياً، لم يدخل خزينة الدولة سوى مليار دولار فقط سنويًا، والباقي يذهب لخزينة الميليشيات التي تمول عملياتها العسكرية، أو حتى حملات أنصارها السياسية.
كما كان للعنصر الأمني دور في تحجيم هذه الجماعات، فبعد أشهر من عمليات اغتيال شبه أسبوعية لنشطاء في الحراك الشعبي. ألقت قوات الأمن القبض على “عصابة الموت” الموالية لإيران والمتهمة في الاغتيالات. كان ذلك إشهارًا لسيف الدولة في وجه الميليشيات، ثم رويدًا رويداً يستعيد العراق عافيته، سياسيًا واقتصاديًا، في محاولة يراد منها أن تكون العراق محورًا استراتيجيًا في الشرق الأوسط، ليس أوضح من ذكر اسمها لأول مرة مكرونًا بمحاولة الصلح بين الأطراف المتشاجرة إقليميًا.
تمدد إيراني غير ناعم
عودٌ على ذي بدء، عندما كان الوفد القبلي في القاهرة يطلب تدخلاً عربيًا عاجلاً لإنقاذ العراق من مخالب إيران، كان مقاتلو “حزب الله” سيطرون على العاصمة اللبنانية بيروت، كرد فعل على صدور قرارين حكوميين بمصادرة شبكة الاتصالات الخاصة بالحزب، لم يضع الحزب سلاحه في مواجهات أدت إلى مقتل 71 شخصاً حتى سحبت الحكومة القرارين، ومعها سحبت هيبة الدولة اللبنانية أمام الحركة الشيعية.
في التوقيت نفسه، كانت صحف عربية تتناقل أخبارًا عن ولادة كتائب “حزب الله العراقي“. وفي المحيط الخليجي الذي يختلف عن بقية الدول العربية تعجّ بالطائفة الشيعة، وتضرب في عمق المجتمع وتنتقل بالتبعية إلى وسائل إعلامها ومنابرها، فتبرز عناوينها أخبارًا عن حركات شيعية آخذة في التطور والاندماج المجتمعي، ثم لاحقًا تتجذر في بنية المجتمع السياسي والأمني، وعندما تندلع ثورات الربيع العربي تجد نفسها قادرة على هزيمة التنظيمات السنية في الساحتين السورية والعراقية.
مثلما كان حزب الله سبّاق في صناعة النفوذ الإيراني بالمنطقة، كان أولهم من حيث اهتزاز صورته المجتمعية، فتحولت صورة زعيمه حسن نصر الله من “البطل” المناضل للاحتلال الإسرائيلي، إلى الشوكة في خصر الدولة اللبنانية، وذلك مع بروز موجة اغتيالات كبيرة، أبرزها اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري في فبراير 2005.
مرحلة ما بعد 2011.. الصعود إلى الهاوية
مع بداية العقد الأخير، بدأ النفوذ الإيراني يتعرض لهزة عنيفة، خاصة بعد فشلها في مسايرة موجة التظاهرات التي واكبت العام 2011، وقتها حاولت المكونات الشيعية نقل التجربة إلى المجتمع الخليجي لكنها قوبلت بالقوة، خاصة في البحرين والسعودية، والتي انتهت بإعدام المملكة رجل الدين الشيعي نمر النمر في مع 47 آخرين بتهمة الإرهاب مطلع يناير 2016، دون أن يكون لإيران والتنظيمات الموالية لها بالخليج رد فعل مماثل.
في المقابل، خرجت التظاهرات من المناطق السنية في سوريا والعراق، للمطالبة بإسقاط النظام الحاكم ذي الغالبية الشيعية، ووقف التدخلات الإيرانية في البلاد. لكن مع سيطرة تنظيم “داعش” (السني) على الأرض بالبلدين، كانت الفتوى التي أصدرها المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني في يونيو 2014 وعرفت باسم “الجهاد الكفائي“، واحدة من أساسيات تجميع الشتات الشيعي في المنطقة، من لبنان إلى سوريا والعراق، كان الهدف العلني هزيمة “داعش”، لكن التنظيمات الشيعية خرجت من هذه المعارك بصفة شبه رسمية كالحشد الشعبي في العراق، باعتبارهم محاربي الإرهاب جنبا إلى جنب مع القوات الحكومية والدولية.
انتهت معركة القضاء على “داعش”، ووجدت الفصائل الشيعية نفسها في قلب مناطق سنية بالعراق، كديالى وصلاح الدين وكركوك ونينوى والأنبار، والتقت مع أخواتها في سوريا، وشكلّت خلال السنوات القليلة الماضية حزامًا أمنيًا في المنطقة، وهو ما شكل تهديدًا خطيرًا للأمن العربي.
بدافع حماية المحيط العربي والخليجي أو لأسباب أخرى، كانت الضربات الأمريكية عميقة في صلب المشروع الإيراني. أهمها اغتيال الجنرال الذي كان يُتصور أن اغتيال رئيس الدولة الإيرانية أسهل من التفكير في القضاء عليها، قتل قاسم سليماني في الملعب الذي كان يتحرك فيه بأريحية، عندما كان خارجًا لتوهِ من مطار بغداد، ثم جاءت ردة الفعل الإيرانية معبرة عن الانهزامية.
ثور إيران يسقط أرضًا
التقط العراقيون الخيط، وتخللهم شعور بأن استطالة اليد الإيرانية وسطوتها عليهم قد خفت، فجاء رجل المخابرات قاسم سليماني يضرب في عمق تلك التنظيمات التي اشتاطت غضبًا في لحظات تهور فسارت تغتال وترتكب حماقات تجاه متظاهرين غاضبين وناقمين على الوضع الاقتصادي المزري، وهو ما خلق عداء مجتمعيًا ضد هذه التنظيمات، سرعان ما استغلتها الإدارة التنفيذية الجديدة ووجهت ضربات متتالية على مراكز قوة هذه المجموعات المسلحة وخلفيتها السياسية، وهو ما بدا من استعادة سيطرة الدولة على المعابر الحدودية، والقبض على عصابات اغتيال النشطاء، وتهيئة المناخ العام لإجراء انتخابات قالت صناديقها للجماعات الموالية لإيران: كفى!
تبقى التجربتان اليمنية واللبنانية، أكثر ورقتين رابحتين في المعادلة الإيرانية بالمنطقة، فالأولى لا تزال وسيلة مساومة وابتزاز ليست فقط لدول الخليج العربية، ولكن على المستوى الدولي، تمتلك إيران عبر ذراعها جماعة أنصار الله، فرصة للبقاء بالمنطقة، وفق مقاربات جديدة، يجرى العمل على وضعها حاليًا، في إطار الحوار الاستراتيجي القائم بين الخليج وطهران، برعاية أمريكية.
أما ورقة لبنان فأمد بقائها ورقة رابحة، يتزامن مع مستقبل الأزمة اللبنانية نفسها، ومعها يمكن معرفة هل يكون حزب الله جزءًا من الحل، وشريكا في السلطة، أم يستحق غضبا شعبيا آخذا في التطور حاليا. الواقع يقول إن الغضب الشعبي غير مقتصر على جماعة حزب الله وحدها، ولكنه يطال الجميع، “كلن يعني كلن”، كما أن التركيبة السياسية في لبنان، والتي يمثل الشيعة أحد أطرافها تجعل من الصعب انْزِواء هذا الملف بعيدًا عن طهران، بل يمكن أن تكون الورقة الأطول عمرًا، والأكثر ربحية، بخلاف الوجود الإيراني في بقية المنطقة.
الطموحات الخليجية
في العام 2015، قال أوباما لصحيفة “نيويورك تايمز” إن أكبر تهديد أمني لدول الخليج السنية ليست إيران الشيعية، وإنما سوء الحكم والتطرف في الداخل. كان ذلك بمثابة جرس إنذار شديد اللهجة، تحسست إزاءه دول خليجية عديدة رأسها، وزاد إصرارها على مساعدة أنظمة حكم تأرجحت بفعل انتفاضات عربية قبل ذلك التاريخ بأربع سنوات.
لم تكن دول الخليج أقل طموحًا أو جنوحًا لهذا المنهج التوسعي الذي انتهجته إيران، من خلال دعم حركات وجماعات محلية في المنطقة، ليس فقط لخلق نفوذ ولكن لحفظ مصالحها في هذه البلدان. بيد أن سبب المفارقة البارزة أن علاقات دول الخليج بالحركات والجماعات المحلية تتسم بالتناقض الفجّ، ففي حين تمثل جماعة الإخوان نغصًا للسعودية وتدعم إزاءها مناهضيها، فإنها في الحالة اليمنية الشريك الوفي.
الملعب السوري.. من التشييد للهدم
كان الحضور السعودي في سوريا في مهد الثورة، الأكثر وضوحًا مع مطلع العقد الأخيرة، عندما قدمت تمويلاً ودعمًا كبيرًا لفصائل المعارضة المسلحة، امتدت في بعض الحالات لتنظيمات مرتبطة أو ذات امتداد جهادي. قدمت السعودية دعمًا للجيش السوري الحر وفصائلة، وفقًا لصحيفة “فاينانشال تايمز” التي تحدق في العام 2013، عن كون المملكة أصبحت أكبر مزود أسلحة للجيش السوري الحر، وفصائل المعارضة السورية.
كما أن برنامج “تيمبر سيكامور” كان شاهدًا على هذا الجور، وهو برنامج سري بين الاستخبارات السعودية، ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية لتسليح المعارضة السورية وتدريبهم، على أن يتشاطران الأمر، فتقوم السعودية بتمويل التسلح وواشنطن بالتدريب.
مثَّل الانخراط السعودي في بادئ الأمر عاملاً فارقًا في تثبيت مناطق نفوذ المعارضة وبدرجة أقل فعلت الإمارات في الملعب السوري، سواء من خلال الدعم المادي أو الدفع في المحافل الدولية بثقل المعارضة، وصولا إلى تولي الإتفاق عن برامج تدريب عسكري في الولايات المتحدة لعناصر هذه الفصائل، كان الدافع الرئيس من هذا الموقف هو رغبة السعودية في المقام الأول دون باقي الخليج في التخلص من نظام الحكم العلوي، قبل أن تتبدل الأحوال وتنزع دول الخليج ستار الدعم عن هذه الفصائل وصولا إلى إعادة فتح سفاراتها في دمشق، ثم ليس غريبا أن نطالع قبل ساعات خبرا عن اتصال هاتفي بين بشار الأسد وحاكم الإمارات الفعلي، ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد.
الساحة اليمنية.. نفوذ باقٍ ومتمدد
من الملعب السوري إلى نظيره اليمني، هيأت السعودية والإمارات الملعب منذ بداية العشرية الأخيرة لصراع نفوذ آخذ في التمدد، ففي الوقت الذي احتضنت فيه السعودية الحكومة التي فرت من العاصمة صنعاء أمام سلاح الحوثيين، ودعمت حزب الإصلاح الإخواني، عكفت الإمارات على تقوية جبهة في الجنوب اليمني باتت الآن شبه دولة، عبر الفصائل الجنوبية بتنوعها، وجسمها السياسي المجلس الانتقالي الجنوبي.
على خلاف المشهد السوري، لا تزال الأجسام السياسية والعسكرية الموالية للإمارات والسعودية في اليمن تحتفظ بقوتها وفرص انخراطها في مستقبل أية عملية سياسية يجرى الترتيب لها حاليًا، عبر الحوار الاستراتيجي المفترض الذي ترعاه العراق. استطاعت الدولتان الخليجيتان تحقيق مكاسب ميدانية في عدة جبهات، سياسيًا من خلال ضمان ولاء شبه تام للأطراف المحلية، واقتصاديًا من خلال وضع اليد على الفرص المتاحة، وجيوسياسيًا من خلال حصرية التحكم في المنطقة التي تشكل مركز ثقل دوليًا.
الحالة الليبية.. حضور خجول بدون مكاسب
إلى ليبيا كان ولا يزال الحضور الخليجي خجولاً، أو قل ضعيفًا أمام الأجندات المناوئة، كالحضور التركي أو الأوروبي والروسي، ذلك أن الدعم الذي تقدمه الإمارات للأجسام السياسية والعسكرية في الشرق الليبي لم يحصد مكاسب تضاهي تلك المحققة في جبهات أخرى، فضلا عن حضور ضئيل للسعوديين، لاعتبارات تتعلق بأولوية السياسة الخارجية للرياض.
ورغم ذلك، لا تزال الدولتان تحتفظ بورقة الشرق الليبي في مقارعة المشروع التركي، يمكنها تحريكها في الوقت المناسب للحصول على مكاسب في جبهات أخرى، أول بأقله الاستثمار في الموقف لصالح مشترين يملكون أوراقًا مماثلة في مناطق النزاع بالمنطقة.
القارة السمراء.. صراع تثبت الأقدام
أما في الساحة الأفريقية التي تعج باللاعبين الدوليين، فتصارع دول الخليج لتثبيت قدمها في أي موضع يسمح لها بالبقاء مدة أطول، وهي بذلك تنطلق من محددات اقتصادية واستراتيجية تتعلق بأمنها القومي، فضلاً عن كون القارة السمراء نافذة جيوسياسية هامة على شبه الجزيرة العربية.
نجحت دول الخليج في صناعة ظهير سياسي وأمني في مناطق وفشلت في مناطق أخرى، خاصة القرن الأفريقي ومنطقة الصحراء، بيد أن كثرة اللاعبين هناك أنقص من نصيب دول الخليج على حساب النفوذ الغربي، كما أن حضورها هناك ترك تأثيرا سلبيا على علاقتها ببعض الدول العربية، على غرار موقفها السلبي من قضية سد النهضة.
محور مشروع جماعات الإسلام السنية
يزاحم المشروعان الخليجي والإيراني، مشروع جماعات الإسلام السنية التي آذنت شمسها بالمغيب الآن، بعد عقد من النشوة المدفوعة بطموحات “الخلافة الإسلامية”. وهي اللحظة التي تعتبر امتدادا لطموحات القرن الماضي، حين برزت جماعات راديكالية، بعضها يرفع شعارات يعتبرها وسطية للاندماج السياسي والديني معاً ويمثلها جماعة الإخوان المسلمين، والبعض الآخر أكثر وضوحا في تطرفه ودمويته، باعتقاد أن “شرع الله” آتٍ بحد السيف.
المشروع الراديكالي يمتد إلى الخلف لعشرات السنوات، لكن تتبع السنوات العشر الأخيرة باعتبارها موازية للمشروعات آنفة الذكر، يتضح أن ثمة جماعات صعدت إلى القمة وهبطت سريعا إلى القاع، كحال جماعة الإخوان في مصر وتونس والمغرب والسودان، وجماعات جهادية تلقت هزائم في المحيط العربي بعد نشوة ظهور مفاجئ، كتنظيم “داعش” الذي نقل مسرح عملياته إلى أفريقيا ودول آسيوية، بعد فقدانه الأرض في سوريا والعراق وليبيا ومصر.
خلال هذه المرحلة التي شهدت صعودًا وهبوطا، كان الطرف الداعم والممول واحد، المتمثل في تركيا وقطر، الدولتان اللتان تحملتا عبء الدفاع عن المشروع السياسي لهذه الجماعات، بعضها بشكل غير علني، والبعض الآخر بشكل واضح كحال دعم جماعة الإخوان، وهو الموقف الذي تسبب لهما بمشكلات دبلوماسية وسياسية مع المحيط العربي، والخليجي منه على وجه التحديد.
النموذج التركي.. براغماتية سريعة الذوبان
الحالة التركية في هذا المشروع تتسم بالبراغماتية سريعة الذوبان، فسرعان ما تقلب تحالفها مع قوى وحركات سياسية إلى ورقة مساومة لدول في المنطقة، وهو ما ظهر أول الأمر في الساحة السورية حين جعلت أراضيها مسرحا للمهاجرين السوريين، قم لاحقًا ابتزت بهم الأوروبيين مهددة بفتح حدودها أمامهم للانتقال إلى القارة العجوز، إن لم يظهر الأوروبيون دعمًا لأنقرة، وفي الحالة الليبية استخدمت جماعة الإخوان وميليشيات مصراتة للمساومة في ملف غاز المتوسط، والحوار الاستراتيجي مع مصر، وفي العراق اختبرت تلك السياسة مع قوات “الحشد الوطني”، وفي فلسطين أيضًا عمدت تركيا إلى توسيع هامش المناورة في مواجهة بقية الفصائل الفلسطينية، وكذلك في مواجهة القاهرة المصرية.
أقرأ أيضًا| ما علاقة تركيا بإعادة عائلة القذافي للمشهد الليبي؟
لذلك، لم يستغرب المراقبون أن يتخلى الأتراك عن جماعة الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي في مقابل تحقيق مصالحة مع مصر، تضمن لها مصالح في المتوسط، أو مكاسب في مناطق أخرى، وهو الأسلوب الذي تنتهجه حاليًا في اليمن، من خلال محاولة تقوية شوكة الإخوان هناك، في مواجهة القوات الجنوبية المدعومة إماراتيا، كي تستخدمها لاحقا ورقة رابحة في علاقاتها الخارجية.
الحالة القطرية.. فائض مالي وجهادي
أما قطر التي وظفت إمكانيات المالية المهولة مقابل متطلباتها المتدنية، في خدمة أجندات جماعات الإسلام السياسي السنية، خاصة تلك التي برزت في العشرية الأخيرة، وأهمها جبهة النصرة في سوريا، فضلاً عن دور مماثل لتركيا في دعم فروع جماعة الإخوان بالمنطقة.
الفائض المالي لدى الدوحة ساعدها في مد طموحاتها إلى أنحاء العالم، ففضلاً عن دورها المعروف تجاه حركة طالبان التي دعمتها لاستعادة السلطة في أفغانستان، فإن مركز أبحاث (مقره الإمارات) كشف قبل عام، عن أن حجم التمويل الذي قدمته قطر للتنظيمات الإرهابية منذ تسلم الأمير السابق حمد بن خليفة الحكم في الدوحة وصل إلى 150 مليار دولار.
كما كشف المركز الدولي لدراسة التطرف (ICSR)، عن أن منظمة “قطر الخيرية” التي موّلت 138 مشروعًا في جميع أنحاء أوروبا، مرتبطة بجماعة الإخوان. التحرك القطري الذي جاء في أغلبه تحت ستار دعم المراكز الدينية وهي جمعيات تابعة للتنظيم الدولي للإخوان في الغرب، تقوم بإدارة تلك الأموال وإعادة جزء منها لفروع التنظيم في الشرق الأوسط.
الغرب يستبدل الاستعمار بالاستثمار في الولاءات
الأمر بالنسبة للغرب يبدو مختلفًا بشكل محوري وعميق، بالنظر إلى طرفي المعادلة، فثمة دول نامية تعتمد في جزء من إنفاقها على منح الدول الغنية والصناعية، وهنا شكل الغرب أداة ناعمة واسعة الانتشار عربيًا وأفريقيًا، لكسب ولاءات محلية وصناعة نفوذ بديل لمرحلة الاستعمار الفانية.
الساحة الأفريقية.. المقاربة الصينية تنتصر
من الولايات المتحدة إلى الصين وروسيا وفرنسا، يتوزع الاهتمام الغربي بشكل أكثر وضوحا في القارة السمراء التي أثبتت الصين جدارتها في الاستحواذ على النصيب الأكبر من النفوذ بأفريقيا، وفق أرقام وكالة “ماكنزي” الأمريكية التي قالت إن الصين ستجني أرباحًا من أفريقيا بقيمة 440 مليار دولار بحلول عام 2025. كما باتت بكين أكبر لاعب منفرد في البنية التحتية الأفريقية، ومن خلال هذه السياسية استطاعت السيطرة على صنع القرار.
بينما كانت بكين تنظر إلى القارة الأفريقية على أنها الدول الفقيرة التي تحتاج إلى تنمية وأموال باهظة لكسب الولاء، كانت أغلب دول الغرب تنفذ أجندات أمنية وعسكرية، خاصة الولايات المتحدة وفرنسا اللتين دعمتا جماعات محلية للسيطرة على مدن ومناطق، في مواجهة جماعات تمرد وحركات إرهابية، شكلت تهديدا لاستثماراتها هناك.
المنطقة العربية.. الاستثمار في المواقف
في المنطقة العربية كان الوضع مختلفًا إلى حد كبير، خاصة لدى دول الخليج الغنية، وهنا برز ما يمكن تسميته بالاستثمار في المواقف مارسته دول غربية ذات ثقل دولي، على دول المنطقة، لضمان تثبيت دعم أمني أو سياسي في مواقف الأخيرة، كالحالة الخليجية الأمريكية، التي برزت خلال السنوات الماضية، أو الحالة المصرية الأمريكية إبان ثورة يناير، وأيضا ما تشهده تونس حاليًا.
اقرأ أيضًا| هل تستطيع روسيا ملء الفراغ الأمريكي بالخليج؟
الوقائع تشير إلى أن التدخلات الغربية وقت الحرب أكثر منها وقت السلم، فيما يتعلق بصراعات الشرق الأوسط التي برزت خلال السنوات العشر الأخيرة، فعلى سبيل المثال كان تدخل “الناتو” في ليبيا إبان 2011، أكثر تأثيرا وحسما للمشهد هناك، ثم انتقل التأثير الغربي إلى حلقات من “المكلمة” المستديرة والتي تتنقل بين العواصم المختلفة، ذلك أن الغرب كان قادرًا على وضع نهاية للحروب في مناطق النزاعات إذا توفرت إرادة جمعية في هذا الاتجاه، وفق مؤشرات ومراكز بحثية.