ملف الانتخابات الليبية أصبح كالغريق الذي قرر ترك جسده مع موج بحر؛ كي يقذفه إلى أيِّ شاطئ نجاة. أو هكذا بات حال الليبيين مع تعقّد المشهد كلما اقترب موعد الرابع والعشرين من ديسمبر المحدد لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية متزامنة. في ظل خلاف عميق حول القاعدة الدستورية التي سيجرى على أساسها الاستحقاق الانتخابي.
المفوضية العليا للانتخابات هي الأخرى وجدت نفسها في موقف أكثر تعقيدًا، فلا هي جسم سياسي بيده تغيير الوضع، ولا هي تمتلك الآليات القانونية لفرض إطار معيّن على الأطراف المتناحرة، بيد أنها تتلقى الإحالات القانونية وتتولى تنفيذها، وهو ما حدث بالفعل عندما تلقت قانوني الانتخابات الرئاسية والبرلمانية من مجلس النواب.
3 نقاط خلافية
وتختلف الأطراف السياسي في غرب وشرق ليبيا حول 3 نقاط جوهرية بشأن قوانين الانتخابات، الأولى تتعلق بالمبدأ نفسه الذي يقر من خلال القوانين الانتخابية، وهو ما حدده الإعلان الدستوري والاتفاق السياسي، بضرورة إصدار قوانين الانتخابات بالتشاور بين مجلسي النواب والدولة، بينما يقول الأخير إن مجلس النواب انفرد بالأمر دون مشاورته.
النقطة الثانية الفنية، تتعلق بشروط الترشح لرئيس الدولة، والتي سمح القانون للعسكريين المنافسة على الاستحقاق الانتخابي، ثم العودة لمناصبهم العسكرية في حا ل الخسارة، أما الثالثة فتتمثل في التسلسل الزمني، فبينما حددت خارطة الطريق انتخابات برلمانية ورئاسية متزامنة في 24 ديسمبر، يريد مجلس النواب في طبرق إجراء انتخابات رئاسية أولاً، لكن مجلس الدولة في طرابلس يريد انتخابات برلمانية أولاً.
اقرأ أيضًا| “فورين بوليسي”: لا أطراف جادة في ليبيا تسعى للتسوية
خلال هذه الخلافات خاض الفريقان نقاشات وحوارات لم تنجح في التوصل لموقف أو رؤية واحدة. كما لم تنجح الأطراف الدولية والإقليمية في الوصول لمقاربة توافقية بين الأطراف الليبية. وهنا كان التلاسن والاتهامات بالتخوين والرغبة في البقاء بالسلطة أو السطو على خارطة الطريق متابدلة بين الطرفين.
مفوضية الانتخابات مرتبكة
أمس الأحد، كان الجميع ينتظر مؤتمرًا صحفيًا لرئيس المفوضية العليا للانتخابات عماد السايح، باعتباره الحد الفاصل بين الصمت والتنفيذ. لكن الأخير خرج في مشهد مرتبك، حيث قال إن فتح باب الترشح سيكون عقب الانتهاء من الاستعداجات الجارية. وعندما اضطر للحديث عن موعد وهو منتصف الشهر المقبل سبقه بوصف “مخطط”، بمعنى آخر فإن المفوضية العليا تأمل أن يتفق الليبيون حتى تشرع في إجراءاتها.
السايح أعلن أن المفوضية الوطنية العليا للانتخابات ستبدأ اليوم الإثنين نشر جميع قوائم الناخبين. كما ستكون نماذج الترشح متاحة على الموقع الإلكتروني للمفوضية للراغبين في الترشح للانتخابات الرئاسية والبرلمانية. وقال: “سيكون لنا لقاء مباشر مع أعضاء اللجنة التشريعية بمجلس النواب؛ بحيث تستطيع المفوضية أن تنطلق مباشرة في عملية تنفيذ العملية الانتخابية”.
أقرأ أيضًا| داخل بنية نظام القذافي: لماذا حكم سيف الإسلام لليبيا لن يكون سهلاً؟
الأمر المحبط في مؤتمر المفوضية العليا للانتخابات أنها جعلت الوقت المتبقي قبل الذهاب لنصاديق الاقتراع مجرد مغامرة، فلا باستطاعة المرشحين الإعلان عن برامجهم ولا خوض مرحلة دعايا، ولا تسمح الاستعدادات اللوجيستية لتأمين هذه الإجراءات في وقت قصير، كما أن الخلاف حول القعدة الدستورية ليس معروفًا حده الأقصى.
خيارات معقدة
ورغم أن اتفاق جنيف الأخير أنهى حقبة حرب مدمرة، لكنه لم يوضّح ما إذا كانت الانتخابات المقررة في 24 ديسمبر المقبل ستجرى وفق الإعلان الدستوري المؤقت، أم الاستفتاء على دستور جديدٍ دائم يسبق الانتخابات. لذلك وضع مهتمون سريعًا خيارات على الطاولة أمام الليبيين، للخروج من المأزق القانوني للانتخابات.
منذ اليوم الأول انخرط الليبيون في الجدل: هل الدستور أولاً أم الانتخابات؟. تنقسم الأطراف الليبية حول ضرورة طرح دستور دائم للاستفتاء قبل الذهاب لأي استحقاق انتخابي باعتباره لن يكون فترة مؤقتة، لكن آخرون رأوا في هذا التوجه محاولة من السلطة القائمة حاليًا، ذات الميول لطرف الإسلاميين، محاولة لإطالة أمد الحكم، باعتبار أن مدة الأشهر المتبقة لن تكون كافية للاتفاق على مسودة الدستور؛ ومن ثمّ تهيئة البلاد للاستفتاء عليها.
اقرأ أيضًا| هل تستطيع ليبيا انتخاب الرئيس؟
استقطع هذا الجدل أسابيع كثيرة في الجزء الأول من المرحلة الانتقالية التي جرى تحديدها بتسعة أشهر أمام حكومة الوحدة الوطنية، خلالها تحدث البعض عن إحياء مسودة الدستور التي جرى وضعها قبل حرب طرابلس، لكن المقترح لم يجد قبولاً هو الآخر.
“مسودة 2017”
وخلال السنوات الماضية، اتفقت الأطراف الليبية على تسمية الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، وانتهت في 29 يوليو 2017، بإعلان مسودة نهائية، لقيت انتقادات عديدة، خاصة من الأطراف المناهضة للإسلاميين، فضلاً عن انتقادات مناطقية، رأت في المسودة تجاهلاً للجنوب وإقليم فزان.
عاد الحديث عن تلك المسودة مرة أخرى في العامين اللاحقين، وخرجت أنباء عن إمكانية إجراء تعديلات عليها والاستعداد لطرحها أمام الاستفتاء الشعبي، لكن حتى آلية الاستفتاء كانت محل جدل، وانتهت إلى صيغة في منتصف فبراير الماضي بمدينة الغردقة المصرية على “نظام الدوائر الثلاث” هي الأقاليم التاريخية في ليبيا “طرابلس، برقة، فزان”، على أن “ينال مشروع الدستور ثقة الشعب إذا صوت بنعم الأغلبية المطلقة (50+1)، بدلا من النظام السابق الثلثين + 1، من المقترعين بكل دائرة من الدوائر الثلاث”.
وإزاء الحديث عن صعوبة تنظيم استفتاء على دستور دائم، فضلاً عن الاتفاق على بنوده، طرح البعض حلاً آخر يتمثل في الاتفاق على قاعدة دستورية جديدة، تتضمن تعديل المادة 30 من الإعلان الدستوري المؤقت الصادر في 3 أغسطس 2011.
تقديم الانتخابات على الدستور
هذا الطرح نجح في انتخاب المؤتمر الوطني العام في 2012، ومجلس النواب في 2014، حين خضع الإعلان الدستوري لعدة تعديلات، سمح بموجبها بعقد انتخابات شرعية من الناحية الدستورية والقانونية، وهو ما دفع البعض لتطوير الفكرة والاعتماد على قانون انتخاب مجلس النواب نفسه، لإجراء الاستفتاء على الدستور.
في التاسع من أبريل الماضي، أعلنت لجنة قانونیة منبثقة عن ملتقى الحوار السیاسي، عن تأجيل الاستفتاء على مشروع الدستور إلى ما بعد تشكيل السلطة التشريعية الجديدة، التي بدورها ستختار رئيس الجمهورية بالاقتراع.
بعدها بدأت الأطراف السياسية النقاش حول قاعدة دستورية يصدرها مجلس النواب بالتشاور مع مجلس الدولة، تكون مخصصة لإنجاز الانتخابات المرتقبة، ولكن الخلافات التي تزايدت خلال الأشهر الأخيرة حالت دون التوافق على صيغة قانونية موحدة.
هل يكون دستور الاستقلال هو الحل؟
خلال كل هذه المراحل، لوَّح كثيرون بفكرة العودة لدستور الاستقلال في العهد الملكي، مع إجراء بعض التعديلات واعتماده دستورًا مؤقتًا تجرى على أساسه الانتخابات المرتقبة، إلى حين الاتفاق على مسودة دستور دائم.
ويعتبر دستور ليبيا لسنة 1951 التشريع التأسيسي الأول للدولة الليبية الموحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وهي أول وثيقة دستورية في تاريخها التشريعي أعدتها لجنة ضمت ممثلين عن الأقاليم الثلاثة “طرابلس وفزان وبرقة” بإشراف الأمم المتحدة. لكن القذافي ألغى عند وصوله إلى السلطة في 1969 الدستور الملكي وأعلن الجمهورية.
“لا أميل إلى النظام الملكي والوراثي وأميل إلى النظام الجمهوري الديمقراطي ولكن الحكمة السياسية والعقلانية، بالنظر للواقع وما صاحبها من حروب أهلية توجب علينا كعقلاء أن نقبل بالملكية الدستورية…”. هكذا طرح الباحث الليبي المقيم في بريطانيا سليم الرقعي النقاش أمام الليبيين، لكي يفكروا في أخف الضررين، إن صح التعبير.
ملكية بشروط
لكن الرقعي وضع أربعة شروط للقبول بالملكية، أولها أن تكون ملكية دستورية الحكم فيها للبرلمان لا للملك، وأن تكون مهمة الملك رئاسة الدولة بصلاحيات محدودة هدفها المحافظة على وحدة الأمة، وأن يكون الملك من العائلة السنوسية، إذ لو جرى فتح المجال لتنصيب ملك من غير العائلة السنوسية، فإن ذلك حتمًا سيفتح أبواب جهنم، بالإضافة لإجراء استفتاء بعد 15 عامًا برعاية أممية لمعرفة موقف الليبيين من النظام الملكي هل يستمر أم يعدل لنظام جمهوري.
على أرض الواقع ينقسم الليبيون مناصفة تقريبًا بين الراغبين في عودة الملكية والرافضين لهكذا حكم. ففي نهاية العام الماضي صوت 56% بالموافقة على عودة الملكية، في حين عارض 44% ذلك، وفق مؤشر للرأي العام أجرته وسائل إعلام محلية.
اقرأ أيضًا| مع عودة الانقسام.. ليبيا أمام اختبار الفرصة الأخيرة
الأمر تطور إلى تحركات فعلية، ففي أكتوبر 2020 اجتمع ليبيون من مختلف الاتجاهات في أحد فنادق طرابلس، وأصدروا وثيقة تطالب الأمير محمد الحسن الرضا المهدي السنوسي للعودة إلى البلاد “لمباشرة مسؤولياته وسلطاته الدستورية كملك”. كان الأمر أشبه بالمزاح، فمن يمتلك السلاح لا يستطيع أن يبسط قبضتة على الحكم، فكيف بأمير مسالم عائد من المنفى لا يمتلك سوى مظهر أنيق مما تبقى من الملكية الليبية أن يحكم هذا الشتات المسلح.
هل الغرب يفضّل الملكية الليبية؟
عند تلك النطقة، كان النقاش ساخنًا لإقناع الغرب بأن الفكرة مثيرة لشهية الحل السياسي في ليبيا، في حال التزمت الأطراف المتنازعة على العودة للملكية الدستورية. وقتها كتب شلومو جيسنر، الرئيس والمؤسس المشارك لـ”منتدى كامبردج للشرق الأوسط وشمال أفريقيا” عريضة طويلة في ميزات العودة لدستور 1951.
يرسخ الكاتب لفكرة أن السعب الليبي يحتاج حاليًا لزعيم يلتف حوله، لذلك رأى في عودة الشرعية الدستورية، فرصة ذهبية خاصة أن زعماء القبائل والسياسيين يتقبلون هذه الفكرة، وفق ترجيحه. كما يرى أن كون محمد الحسن السنوسي في المنفى منذ عام 1988، يعني أنه لا يمتلك أجندة خاصة، على خلاف كثيرين في ليبيا، وسيبقى فوق صراع السياسيين الفاسدين والمسببين للانقسام.
الغرب لم يخض في هذا الاقتراح كثيرًا، باستثناء إتاحة الفرصة أمام الأمير السنوسي للإدلاء بآرائهم أمام منتديات كبرى، بعضها تحت مظلة الأمم المتحدة، أبرزها عقب الإطاحة بالقذافي في العام 2011. هذا الصمت الغربي تجاه مقترح الملكية يفتح الباب أمام كونه خيارًا سيبقى باقيًا في حال فشلت كل الحلول.
الأمير محمد السنوسي.. فرصة الملكية الأخيرة
وتوفي الملك إدريس السنوسي عام 1983، وتوفي ابن أخيه وولي العهد حسن السنوسي، بعد 9 سنوات في لندن. وقبل وفاته، عيّن محمد نجله رئيسا للبيت الملكي في ليبيا. لذلك يعدّ محمد الحسن السنوسي هو الوريث الشرعي.
الموقع الرسمي للأمير محمد السنوسي اضغط هنا
وكان في السابعة من عمره عندما قام القذافي بانقلاب ضد الملك إدريس السنوسي، في الأول من سبتمبر عام 1969. وهاجر الأمير محمد إلى بريطانيا بعد حرق منزل العائلة في عام 1988. عند انطلاق الثورة الليبية في 17 فبراير 2011، أيد الأمير الثورة وطالب المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته لخلع نظام القذافي.
“العودة إلى النظام الملكي لا بد أن تتمثل في ميثاق وطني شامل يجلب الاستقرار والطمأنينة، ويحقق تطلعات وطموحات الشعب الليبي، الذي آن الأوان ليستريح ليضع الدعائم لمستقبله ولمستقبل أبنائه”. (الأمير محمد السنوسي)
بعدما رأى أن البلاد تأخذ منحنى الحرب الأهلية، وليست فقط خلع النظام الذي أذاق عائلته الملكية الويلات، نأى الأمير محمد السنوسي بنفسه عن الأحداث، وتجنب إبداء أي موقف بجانب أي طرف.وتمسك منذ ذلك الحيان بإصدار بيانات على فترات متباعدة تطالب الليبيين بالتوحد ووضع مصالحهم الشخصية جانبًا في سبيل المصالح الوطنية.
هذا الموقف جعل الأمير محمد السنوسي واحدًا من القلائل المرغوب فيهم لدى القبائل. وفي العام 2016 طالب الشعب الليبي بوقف الحرب، معلنًا استعداده لخدمة بلاده، إن احتاجت إليه.
استنتاجات ومآلات:
– الضغط الدولي على المجتمع الليبي لإجراء الانتخابات تحت أي ظرف يشير إلى أن ثمة فرصة حقيقة لإجراء انتخابات فوضوية يمكن أن تزيد تأزم الموقف.
– فرصة الاتفاق على إطار دستوري بين مجلسي النواب والدولة لا تزال قائمة، خاصة أن المفوضية العليا للانتخابات قالت إنها تنتظر تعديلات البرلمان على قانون الانتخابات.
– الخلاف حول الانتخابات المُزمَّنة، قد تكون محسومة لصالح خارطة الطريق، وتراجع مجلس النواب عن فكرة تأجيل الانتخابات البرلمانية بضغط دولي.
– الوقت أصبح ضيقًا لتنفيذ فكرة العودة للدستورية الملكية، خاصةً أن الجدل حول التعديلات المطلوبة على الدستور الملكي ستحتاج شوطًا إضافيًا من الحوار السياسي.
– يمكن أن تكون الملكية حلاً واقعيًا في حال فشلت خطة إجراء الانتخابات في موعدها، أو إجراء انتخابات فوضوية يرفضها البعض أو يطعن في قانونيتها.
– صمت المجتمع الدولي حيال فكرة الملكية الدستورية يمكن تفسيره على أنه رفض تام للفكرة، أو العكس تمامًا باعتبارها الكارت الأخير في أدراج الغرب.
– الخلاف حول عودة الملكية بدون الأمير محمد السنوسي كأنها حرث في الماء، فكيف للمجتمع الليبي المنقسم على نفسه أن يتفق على عائلة مالكة جديدة.