كان الانقلاب العسكري السوداني متوقعا لدرجة أن شركات الطيران العالمية قد عطلت رحلاتها إلى الخرطوم قبل يومين من وقوع الانقلاب. القوي السياسية السودانية قالت عنه في المؤتمر الصحفي الأخير لها أن الانقلاب زاحف. إذن يكون من المشروع ألا نسأل لماذا وقع الانقلاب، ولكن ماذا بعد الانقلاب، ما هي فرص نجاحه. هل يتراجع الشعب السوداني عن حلمه في نظام ديمقراطي حقيقي؟ وهل يكون ثمن هذا الحلم حربا أهلية أو انفلاتا أمنيا ممتدا؟ باختصار ماذا عن اليوم التالي للبيان الأول؟.

علي المستوي الاقليمي هل يجد الفريق عبد الفتاح البرهان دعما أم ممانعة؟ وإذا كانت العواصم العالمية الغربية قد أدانت الانقلاب خصوصا واشنطن التي بذلت الكثير من الجهود للاحتكام للوثيقة الدستورية خلال الشهر الماضي بهدف حل الخلافات بين المكونين المدني والعسكري.

عبدالفتاح البرهان
عبدالفتاح البرهان

علي المستوي الداخلي تصدر وزارات عبدلله حمدوك الذي تم اعتقاله مع زوجته، بيانات رفضا للانقلاب، ووزارة الإعلام قالت بوجود عصيان مدني داخل الوزارات. كما أصدرت مريم الصادق المهدي وزيرة الخارجية بيانا قالت فيه انه لا مجال لفرض إرادة طرف علي آخر، بينما  أعلنت نقابة الأطباء انسحاب منتسبيها من العمل في المستشفيات العسكرية، ماعدا أقسام الطوارئ.

هذه المقاومة من جانب الوزارات المنحلة للانقلاب العسكري، التي أعلنها الوزراء بأنفسهم قد يواجهها رفضا من جانب المستويات الدنيا في الوزرات نفسها، خصوصا أن بيان البرهان لحل الحكومة قد احتوى تكليفا لمدراء العموم بمهام تسيير الوزرات بينما أعفي وكلاء الوزارة المنتمين لتحالف الحرية والتغيير.

وبطبيعة الحال هذا الوضع من الالتباس مرشح أن ينتج صراعات داخلية في كل وزارة، وأن يتم تفاقهما بشكل يسفر عن مواجهات شخصية.

علي مستوي الشارع هناك مستويين من المخاطر الأول مواجهة المظاهرات بالعنف ليس من جانب الجيش أو قوات الدعم السريع فقط ولكن أيضا من جانب عناصر الجبهة القومية الإسلامية الذين لديهم تنظيما خاصا ومسلحا، حيث سبق وأن مارس اغتيالات ممنهجة قبل خلع عمر البشير، وربما هذا ما يفسر سقوط متظاهرين قتلي وعشرات من المصابين، حيث يسعي عناصر النظام القديم لحماية مصالحه السياسية والاقتصادية التي هددتها لجنة إزالة التمكين بشكل سافر.

حمدوك
حمدوك

في المقابل فإن قوي الحرية والتغيير وبعض الأحزاب السياسية يبدو أنها قد استعدت للمواجهة باختفاء عضويتها من لجان المقاومة وقيادات الصف الثاني والثالث، حسب ما قال به بعض الشباب من منتسبي لجان المقاومة على الفضائيات العربية.

هذا المشهد الاستقطابي ربما ينتج اختلالات أمنية ممتدة، وربما يكون لها طابع اثنيا أيضا، نظرا لوجود كل الحركات المسلحة بعتادها العسكري في الخرطوم، وهي الحركات المنتمية لدارفور علي وجه الدقة، والمفارقة هنا أن حاكم الإقليم تخلي عن صلاحياته لنائبه مؤقتا كي يبقي في الخرطوم في دلالة لا تخطئها عين.

المستوي الثاني من تصاعد التوتر هو المواجهات العسكرية بين الأطراف، وهو ما حدث في منطقة كرري بين قوات المدرعات وأحد الميليشيات المنتمية لحركات دارفورية مسلحة طبقا لصلاح مناع رئيس لجنة إزالة التمكين الذي خرج من السودان قبل أسبوع تقريبا من الانقلاب حين أصبحت اللجنة المنشأة بقانون محلا لسهام المكون العسكري.

هذا المشهد المتعدد المستويات الاستقطابية قد يقود إلى انفلات أمني يخاف منه الجميع، ويتوقعون إن حدث أن تكون الإمكانيات الواقعية لتطويقه محدودة.

على المستوي الإقليمي لم يدن أحد الانقلاب العسكري بشكل مبدئي ولكن اتفقت العواصم في القاهرة والرياض والدوحة في بيانات صادرة عن وزرات خارجية هذه الدول، على ضرورة ضبط النفس، والعودة للحوار، بينما جاء بيان الجامعة العربية محددا في ضرورة الاحتكام إلى الوثيقة الدستورية وهو موقف متقدم للجامعة عن مواقف العواصم العربية.

في ضوء الفشل الأمريكي في اعتماد خارطة طريق جيفري فيلتمان المبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي في اعتماد الأطراف المتصارعة في السودان الاحتكام للوثيقة الدستورية، لجأ الأخير إلى القاهرة بتواصل مع سامح شكري وزير الخارجية المصري يبحث عن مبادرات يمكن أن تنقذ الموقف السوداني من الانفلات.

ويبدو اتصال المبعوث الأمريكي بالقاهرة تعبيرا عن يقين بأن سلاح العقوبات الأمريكي لن يكون فعالا في المرحلة القادمة وأن النطاق الإقليمي ربما يستطيع أن يمارس ضغوطا بدعم أمريكي قد يساهم في تحسين المشهد السوداني وتفكيك الموقف العسكري دفعا وراء حوار سياسي من منصة جديدة.

جيفري فليتمان
جيفري فليتمان

على الصعيد الاقتصادي ربما يكون سلاح العقوبات جاهز، ولكن هذه المرة من باب تعليق المساعدات وليس بفرض عقوبات اقتصادية شاملة، حيث تم الإعلان عن تعليق مساعدات أمريكية بقيمة ٧٠٠ مليون دولار، ولم يتم الإعلان عن اتجاه بشأن فرض عقوبات، ذلك أن إسقاط العقوبات عن السودان ورفع اسمه من على قائمة الدول الراعية للإرهاب تم بموجب قوانين في الكونجرس يصعب في ظني التراجع عنها.

الفريق عبد الفتاح البرهان يدرك أن الضغوط الغربية تفتقد القدرة إجرائيا على التأثير، ويعرف أن المنافسات الدولية بين الصين وروسيا من جانب وواشنطن من جانب آخر تتيح له هامش مناورة لصالحه، من هنا لم يعتد كثيرا بقانون دعم الانتقال الديمقراطي في السودان الصادر في ديسمبر ٢٠٢٠ والذي تبلور هدفه الرئيسي في الضغط على المكون العسكري كي يسلم المنشآت الاقتصادية التي يملكها للمكون المدني، حيث كلف الكونجرس الرئيس الأمريكي بمتابعة التنفيذ.

وعلي الرغم من أن واشنطن تكثف من ضغوطها حاليا بعد دعمها المباشر لمظاهرات ٢١ أكتوبر وتشجيع المدنيين عليها، والتلويح بالتراجع عن إدماج السودان اقتصاديا بالمنظومة العالمية، ولكن يبدو ذلك كله لا يعني تضحية كاملة بالسودان وتركها لاحتضان صيني، خصوصا وأن الفريق عبد الفتاح البرهان أعلن في بيانه الانقلابي التزاما بالاتفاقات الدولية مشيرا من طرف خفي في هذه الجملة باتفاق سلام مع إسرائيل وهو كنز لن تضحي به لا واشنطن ولا تل أبيب، ويبدو أن البرهان بذلك يؤمن تحركه في الاستيلاء علي السلطة.

في هذا السياق ربما يكون من المتوقع أن تسعي الولايات المتحدة لدي العواصم العربية وأهمها القاهرة والرياض لبلورة مبادرات من شأنها تخفيف الاحتقان، ومحاولة العودة خطوتين إلى الخلف دون أن يمس ذلك حقيقة سيطرة المكون العسكري علي السلطة، ومن ذلك الإفراج عن رئيس الوزراء وزوجته وعدد من الوزراء والقادة السياسيين، وتكوين حكومة ترضي عنها القوي السياسية بشكل أو بآخر.

علي مستوي الأزمات الإقليمية سيكون أي انفلات أمني في السودان مهددا لكل من إثيوبيا وليبيا وهي دول هشة وتقترب من الانفلات بدورها، حيث تهتم واشنطن بشكل خاص بإثيوبيا وسقوط السودان في فوضي سيعني أمرين: الأول انفلات واسع في إثيوبيا، وتجميد ملف سد النهضة دون ضمان إنهائه وهو ما يعني حرمان القاهرة من حليفها في هذا الملف السودان.

المشهد برمته يشكل تهديدا لجملة من المصالح الدولية والإقليمية المعنية باستقرار السودان وسوف يجعل الكل يتحرك لدرء المخاطر لكن تحت سقف من الاعتراف بالانقلاب ربما، هذه المعادلة قد يقلبها الشعب السوداني إذا استطاع أن يكون تحركه هادرا خلال الأيام القادمة، وينجح في تنفيذ عصيان مدني شامل حتي يقلب المشهد الراهن ويمهد الطريق أن  يتولى السلطة مدنيون في السودان، وفي هذه الحالة قد يجد دعما من قوات محمد حمدان دقلو حميدتي قائد قوات الدعم السريع الذي تعود أن ينحاز للطرف الفائز ولكن قبل ميل واحد من إحرازه النصر.