والانفرادي ده شكله إيه؟ كنتي بتقضي يومك إزاي يابنتى؟
ماما سألتني هذا السؤال حوالي عشر مرات من ليلة خروجي من السجن ووصولي البيت فجر 30 أغسطس 2021. وكل مرة أهرب من السؤال وأرد عليها “مش وقته، بعدين هحكيلك”.
لن أجعلها تقرأ ما أكتب، ولن أرد أبداً على أسئلتها. تلك الأجوبة لا تستطيع الأم أن تحيا معها.
تلك الأسئلة التي كنت أبحث لها عن جواب. الآن أصبحت أعرف كل الأجوبة. ولا أعرف كيف أعيش معها.
ذات مرة نصحني حقوقي بارز أن أتوقف عن الكتابة العلنية ونشاط الفيسبوك وأكتفي بعملي المتعلق بشكل مباشر أيضا بالحريات، إلا أنني قررت أن لا أتوقف عن إذاعة كلماتي في أي منصة متاحة وبكل طريقة ممكنة ما دمت مؤمنةً بها ضاربة بالثمن المحتمل عرض الحائط، ومؤمنة بما أقوله. هل كان قرارا ساذجا؟ ربما، لكنه كان قرارا صادقا.
س: هل أشعر بالخوف؟ هل أنا خائفة؟
جـ : نعم.
س: هل يمكنني الصمت؟
جـ : أبداً.
س: هل هناك قيمة لما حدث ويحدث وربما يحدث مستقبلا؟
جـ: طبعا.
س: هل هناك أمل.
جـ: دائماً.
عندما دخلت السجن قررت أن أفكر في كل الأسئلة التي لم أكن أعرف لها جواب عن السجن، أنني يوما ما سأخرج لأكتب عنهن وأحاول أن أساعدهن هؤلاء الباقيات هناك… وأنا لا أملك سوى الكلمة. وها أنا ذا أكتب.
لكن هناك سؤال في ليالي حالكة الظلمة ينهشني… خاصة في زنزانتي الانفرادية المظلمة حينما سكن ضجيج الكون في الخارج وصم أذني ضجيج عقلي، عندما رأيت وبدأت أغوص في العفن الذي لطالما عرفته. هل يستحق الثمن؟ هل يستحق احتمالية أن أعود لهنا ثانية وأنا أعرف كل تفصيلة؟ هل يستحق الثمن؟
“كل هذا الفساد المتراكم؟ تلك الحوائط المتهالكة؟ هذه العبث المتلاعب بالعقول والجهل الواضح في الألسنة وكل هذه الأنانية والثراء غير المبرر والفقر المدقع البادي على الوجوه، كل هذا المرض والعشوائية، كل هذا الهلاك والأرض غير المستوية والتراب والأخضر الغائب.
هذا الذي أراه جيدا، العنف والضرب والقتل، البغضاء والتناحر والتنابذ بالألقاب، الفساد والرشوة والمحسوبية، التسلط والسلطوية والخضوع، كل المنتشر من هذه الأخطاء التاريخية والكارثية التي يجب أن نتعايش معها والمفاهيم العنصرية والكاره للحريات التي يجب أن نتقاتل معها.
كل هذا العفن الذي أعلمه جيدا.. حروب طواحين الهواء التي لم نخرج منها مهما هربنا منها. هذا السجن الذي سكن أرواحنا. السجن هنا بداخلنا، في ذكرياتنا وأحاديثنا وأمراضنا النفسية والبدنية. السجن هنا. هل كل هذا يستحق الثمن؟
نعم يستحق، كيف في كل مرة حدثت نفسي فيها وذكرت نفسي بكل ما عشته من موت وألم وفساد وفشل، كم مرة تعرضت فيها لتحرش بالعمل، كم مرة انتهكت أبسط حقوقي فقط لأني امرأة، كم مرة رأيت الفساد أخضر يسقى بماء وأنا عطشانة من كثرة الجهد بلا ثمن؟ كم مرة خدعت من كاذبين باسم الوطن والحق؟ كم مرة قبضوا ثمن ما دفعه جيلاً كاملاً؟ هل يستحق هذا الثمن؟
نعم يستحق، في كل لحظة بيني وبين نفسي سألت نفسي هل يستحق كان الجواب”نعم”!
يستحق الدرب والضرب، يستحق الصحة والعمر، يستحق المال والجمال، وسنوات طوال من الغربة والوحدة وأنا في حواري الوطن، يستحق المطاردة والطرد، يستحق لأسباب أو بدون أسباب، لكن في كل مرة كان الجواب صدقا نعم يستحق. لأنه أكبر من كل هذا، وأجمل من هذا القبح.
كنت، ومازلت أعي كل المخاطر المحتملة بكافة تفاصيلها، وأنني رغم العلم لازلت مؤمنة بقدرة الكلمة على تغيير القدر، وضرورتها لصد الخطر، وأن كتمها في قلبي أخطر علي من التفوه بها.
وضعت في ذهني كافة الأسئلة التي لم أكن أعرف لها جوابا وأنا أخطو إلى داخل “المدرعة” التي حملتني من منزلي في 20 مايو 2020 نحو مقر أمن الدولة، والآن أصبحت أعرف كل الإجابات، ولا أعرف كيف أعيش مع ما عرفت. إلا إذا كتبت وقُرأت كلماتي وصرتم الآن تعرفون.
متر وثمانين سنتيمتر طولاً، ومتر عرضاً، ارتفاعه حوالي 5 متر، حوائطه رماديه فاتحه في مديرية الأمن، وسماوي يظهر من تحته طلاء “سمني” محطم برطوبته في القناطر، في المديرية نافذة بعيدة صغيرة تغطيها قضبان حديدية وسلك حديدي كان يسمح بدخول شعاع ضوء في الواحدة ظهراً يظل ينحصر ليتحول إلى بقعة ضوء واحدة في الساعة الثانية ظهراً ثم الثالثة عصراً من الوقت، في القناطر حظيت بزنزانة بلا ضوء طبيعي ولا كهربائي، مظلمة ليل ونهار إلا من ضي بسيط يخترقها ظهراً حينما يفتح الباب الخارجي لنا ليدخل طبيب يطمئن أننا مازلنا قادرين على تحمل التعذيب النفسي أو الألم الجسدي والأمراض التي تتزايد من ظروف الحبسة في الانفرادي.
كأنني كلب شرس مربوط إلى عمود، هكذا شعرت. رغم أنني كنت ومازلت أتفادى دهس “النملة” ولا أستطيع أن أفعلها خوفاً عليها. لكن هناك شخصاً ما يرى أن لساني خطر حتى داخل السجن هكذا قال لي شخص منهم!
في القناطر- نساء. الانفرادي لا شيء فيه، لا شيء في تلك المساحة سوى 2 بطانية سجن، لم تكن تستر رعشة جسدي في برودة شهر فبراير وتأبى نفسي أن تطلب غطاء زيادة وجردل لقضاء الحاجة تفوح منه رائحة “الكلور” الذي تعلمت أن أسكبه فيه ليغطي على أي رائحة أخرى. في المرة التي يفتحون فيها باب الزنزانة كنت أتمالك نفسي لأخرج أغسل غياري الداخلي من جراء النزيف الشخصي بعدما رفضوا إدخال فوط صحية لي. وأتحمم سريعاً وأرجع لزنزانتي لا أفعل شيئا سوى انتظار الغد.
في الإسكندرية، كانت كافة مستلزماتي معي. الطعام والشراب من زيارة عائلتي وملابسي وكافة أدوات النظافة. كل شيء إلا الورقة والقلم والكتب لفترة طويلة، ويفتح لي الباب مرتين للحمام -أحياناً أكثر إذا احتجت-. لا يوجد جردل.
س: كيف انقضى الوقت؟
جـ : هل انقضى الوقت!
في سجن القناطر للنساء ثلاث زنازين انفرادية في فترة مكوثي فيه كان ساكنوها الثلاثة سياسيات محبوسات احتياطياً كلهن مر على وجودهن شهور في هذا المكان. وفي مديرية الأمن كان الوضع استثنائيا وليس طبيعيا بسبب فترة -كورونا- وامتناع السجون فترة عن استقبال سجناء جدد وعدم امتناع أمن الدولة عن إلقاء القبض على سجناء جدد!
هل يمكننا التعافي مما حدث؟ ربما. لكن حينما أعرف أن هذا الذي عرفته لم يعد يعانيه أي شخص.
سواء سجن القناطر أو حتى فترة مديرية الأمن فبالرغم من كل ما حدث فيهم وأصف منه هنا الهزع الأخير من الليل إلا أنه يبقى وضعا أفضل كثيراً من سجون أخرى وسجناء آخرون.
صديقي المحامي عمرو إمام، أب لطفل صغير وابن لأم عظيمة هما أغلى ما يملك كما كرر لي مراراً، وأخ وصديق لأسرته. وسند لمئات الأصدقاء والمحبين في حياته. حياته التي لا يمكن وصفها بأي صفة تخريبية أو إرهابية، عمرو لا يوصف سوى بأنه إنسان يفعل ما يؤمن به من سلام وحرية وقوة الكلمة. إمام مازال حتى لحظات كتابة تلك السطور قابع في زنزانة انفرادية منذ عامين متصلين.
كذلك هؤلاء النسوة اللاتي تركتهن خلفي بإنفرادي القناطر، والصحفي عبد الناصر سلامة، ورجل الأعمال ثابت صفوان ونجله، ود. عبدالمنعم أبوالفتوح المرشح الرئاسي السابق. كل شخص أيا كان انتمائه أو حتى جريمته. أي إنسان لا يجب أن يقضي فترة عقوبته أو فترة -حبسه إحتياطياً- في زنزانة انفرادية وفقاً للقانون المصري والدولي هناك شروط كثيرة تخص المدة والوضع الصحي تحكم البقاء في الزنزانة الانفرادية.
بالرغم من أنني بدأت هذا المقال وفي نيتي التطرق لصعوبة وضع النساء في الإنفرادي خاصة أثناء الدورة الشهرية، إلا أنني أنجرف نحو مشاعر الغضب والخوف لأنه مازال هناك نساء ورجال في هذا المكان. وربما الختام الوحيد لهذا المقال بتذكيركم ونفسي باتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، تورد الاتفاقية (اعتمدت عام 1984) التعريف التالي للتعذيب: “أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسدياً كان أم عقلياً، يلحق عمداً بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه، هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث – أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأى سبب يقوم على التمييز أياً كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص يتصرف بصفته الرسمية، ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية أو الملازم لهذه العقوبات، أو الذي يكون نتيجة عرضية لها ” (المادة 1.1). وتفرض هذه الاتفاقية على الدول الأطراف اتخاذ تدابير فعالة تكفل منع التعذيب ضمن نطاق ولايتها القضائية، وتحظر عليها إعادة الأشخاص على بلدانهم الأم في حال بروز سبب يبعث على الاعتقاد باحتمال تعرضهم للتعذيب فيها.
صادقت مصر على تلك الاتفاقية في 25 يونيو/حزيران عام 1987 ودخلت حيز التنفيذ في 26 يونيو/حزيران 1987، مع الإجراءات المنصوص عليها في المادة 20 التي تنطبق على السلطات المصرية.
ربما نتعافى.. حينما يتوقف هذا الألم المبرح ويُحال الأمل للممكن بقليل من التفاهم على الإنسانية واحترام القانون.