كانت الأجواء تشير إلى حدث جلل في طريقه للوقوع؛ التوتر في أوجِّه، الشائعات تضرب الأحياء والمدن. يتناقل الجميع همسًا وخوفًا من أن شيئًا ما في طريقه للانفجار، الجميع يتوقع وينتظر وقوع ما لا يحمد عقباه. لكن لا أحد يعرف ماذا ينتظر السودان خلال ساعات.
كان صباح يوم 25 أكتوبر، ومعه شعاع الشمس يخترق طبقات الجو ويسقط عموديًا على شاشات التلفزيون ومحطات الراديو التي تبث مارشات عسكرية. فيما اعتبره البعض تمهيدًا لخطوة عسكرية سوف تقضي على آمال الشعب السوداني في سلطة مدنية وانتخابات ديمقراطية.
لحظة البداية.. مارشات موترة
في ذلك الوقت كان المهندس «عادل بشير» جالسًا داخل منزله يتطلع تارة إلى هاتفه وتارة إلى محطات التلفزيون. المارشات العسكرية بثت الخوف في قلبه، أدرك أن انقلابًا عسكريًا قدم تم، وجرى الإعداد له في ساعات الليل.
يقول «بشير»: «في الساعات الأولى للصباح بدأت استمع إلى المارشات العسكرية في محطات الراديو. كنا نعرف أن حدثًا كبيرًا في طريقه للتنفيذ، كان الانقلاب العسكري آخر ما نتصوره، لكنه حدث».
بعد يوم عمل طويل وشاق في الفترة الليلية، عاد «بشير» إلى منزله الكائن بحي الرياض في العاصمة السودانية الخرطوم. تناول إفطاره وارتكن إلى حجرته لينال قسطًا من الراحة؛ بعد فترة وجيزة استيقظ على نداء من زوجته تخبره أنهم باتوا معزولين عن الحياة، لا اتصال بشبكة الإنترنت. والتلفزيون القومي بدأ بث المارشات العسكرية. انتفض من سباته، ارتدى ملابسه وهرول إلى الشارع ليتساءل عما يحدث، هناك أخبره أحد الرفاق أن انقلابًا عسكريًا قد وقع.
فرق للحماية.. وأحيانًا وسائل إعلام
اتفق «بشير» مع رفاقه على التجمع وتكوين فرق لحماية الحي الذي يقطنوه (لجان شعبي). في الساعات الأولى من الصباح ظهر الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، على شاشة التلفزيون ببزته العسكرية. وأعلن بنبرة حازمة أنه يريد «تصحيح الثورة» التي أطاحت بعمر البشير في 2019. وأكد إعفاء الوزراء ووكلاء الوزراء من مهامهم، علماً بأن جزءاً كبيراً من هؤلاء اعتُقلوا منذ الفجر على أيدي قوات عسكرية.
يقول «بشير»: «كل حي عنده مجموعة شباب لهم باع في السياسة، ويتم تكوين لجنة مقاومة. تكون هي نبض الحي والمسؤول الأول عن إخبار وإعلام الحي بأكمله عن كل ما يدور في الأحياء المجاورة والدولة ككل».
مناعة ضد الصدمة
بدأ الشباب في الاحتشاد وتسيير المواكب وإقامة المتاريس. الحالة السياسية بما فيها من زخم منذ أكثر من عامين منحتهم مناعة ضد الصدمة والمفاجأة. كانت الأفكار حاضرة على حجم الحدث.
يقول «بشير»: «احتشدنا وتحركنا تجاه مبنى القيادة العامة للجيش على طول الطريق بدأت مجموعات من أحياء مختلفة تنضم إلينا. وصلنا مبنى القيادة العامة في موكب مهيب وضخم يضم الآلاف. وبدأت المناوشات مع قوات الجيش ولم يفرقنا سوى بمضادات الطيران الثنائي المعروفة بـ(الدوشكا)». خلال تلك الساعات بدأ الانقلاب يتخذ خطواته، حيث تمت السيطرة على كل الوحدات العسكرية والمناطق الحيوية في العاصمة الخرطوم.
الأمر كان مختلفًا بالنسبة إلى عتاب حسن، الفتاة السودانية ذات الثمانية عشر ربيعًا، قضت يوم 24 أكتوبر تتصفح حسابات “انستغرام”. ومن ثم ألقت بجسدها لتغوص في نوم عميق، لم تفق سوى على صوت والدتها تخبرها صبيحة 25 أكتوبر أنه لا ذهاب إلى الجامعة اليوم.
اهتمام هامشي
تقول عتاب: «لم أعرف ماذا يحدث، ليست لي نشاطات سياسية، أعرف أن السودان تمر بأزمة سياسية كبيرة. لكنني لست طرفًا فيها بشكل مباشر، اهتم بدراستي في مجال البيزنس. واستمتع بوقت فراغي بمشاهدات مقاطع الفيديو على انستغرام وفيسبوك».
بينما لا يسيطر على الفتاة أي اهتمام كبير بالسياسة، بقدر اهتمامات تتعلق بفترة المراهقة. في يوم 25 أكتوبر انقطع الاتصال بالإنترنت في تمام السادسة صباحًا، غابت الشبكة عن الهواتف وأصبح الجميع رغم قرب المسافة في جزر منعزلة.
تقول «عتاب»: «أمسكت هاتفي وبدأت في محاولة الوصول إلى شبكة لكنني فشلت. أخرجت رأسي من نافذة الغرفة وجدت حشودًا تسير في الشوارع، خشيت على نفسي وعلى عائلتي. لم أكن بعد استوعبت ماذا حدث، هرولت إلى غرفة المعيشة واستمعت إلى محطات التلفزيون لم أجد سوى أغانٍ وطنية وعسكرية يتم بثها. بدأ قلبي يرتجف، شيئًا ما يلوح في الأفق، أزمة سياسية كبرى سوف تقع.. لكن هذه المرة سوف تمسني بشكل مباشر».
سواعد الشارع
جرت الأحداث بشكل متسارع، الفوضى عمت الأحياء في الخرطوم، الاتصالات صعبة، الإنترنت منقطع، شبكات التلفزيون سيطر عليها قوات الجيش. الخوف بدأ يتملك عتاب، شقيقها أصر على الخروج والمشاركة في التظاهرات بالرغم من رفضت والدته.
تقول عتاب: «شقيقي قرر أن يسير في التظاهرات وأن يشارك. منذ أكثر من عامين وهناك لجان مقاومة لكل حي، هي بمثابة الفنار الذي يلتقي عنده الجميع. بدأ شباب الحي في إقامة المتاريس في كل شارع لمنع قوات الجيش من الدخول إلى حينا».
كان لربات البيوت والفتيات دور تقول الفتاة: «بدأنا نحن إعداد الطعام وإرساله مع شقيقي، نعرف أن الفترة الحالية هي الأصعب وسنمر بفترات مقبلة ستزيد من صعوبة الأمر. لكن علينا أن نتحلى بالصبر وألا تلينا سواعدنا طلبًا للديمقراطية وأن نضمن مستقبلا وحاضرا لنا ولأجيال مقبلة سوفت تنبتها الأرض».
صبيحة 25 أكتوبر الجاري، بينما كانت التوترات متصاعدة في السودان. أعلن قائد الجيش السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان حل مجلس السيادة والحكومة برئاسة عبد الله حمدوك الذي أعتُقل فجرًا مع عدد من الوزراء والسياسيين.