“تسير العلاقات وفق ما نقدمه من تنازلات” جملة طرحتها صديقتي في مناقشاتنا عن كيف نسمح للآخرين باستباحتنا، البشر محيرون جدًا، غير مفهوم دوافعهم، كلما مضى الانسان في التقدم، تعقدت حياته ومشاعره وسلوكه أيضًا، البساطة تتوارى لصالح حسابات المصالح والخوف من نتائج أفعالنا، فكلما تضاءلت مكانة الفرد عظم خوفه من تأثيرات سلوكه وأفعاله.
والتضاؤل هنا يأخذ أشكال مختلفة سواء كان اجتماعيًا أو ماديًا، والأخطر أن يكون إحساس المرء بالتضاؤل والدونية حبيس روحه، ذلك أنه ينعكس على سلوكه في مبالغات لتعظيم ذاته او التقليل ممن حوله وتحقير أفعالهم، ونزع القيمة أو الأخلاق عن تصرفات الآخرين ليبدو هو الأفضل.
إن أصعب ما يواجهنا في العلاقات الإنسانية أن يكون الشريك يشعر بالنقص بداخله، وربما يشعر أيضًا بالدونية، فهذه المشاعر المخبأة تنعكس في طريقة إدارة العلاقة.
النساء مفرطة العاطفة خافية النقص
اعتمد المجتمع صورًا نمطية عن النساء كونهن عاطفيات، مفرطات التعبير عن مشاعرهن، حادات أحيانًا، ولأن فكرة الأحكام المطلقة والصور العامة هي فكرة مرفوضة منطقيًا وعقليًا، فهناك عشرات وربما مئات الأنماط ليس للنساء فقط بل للرجال أيضًا.
لكن العلاقات بين النساء دومًا تحت المجهر، صداقة النساء محط انتقاد، ربما يرجع الأمر إلى النظرة العامة المتأصلة نحو النساء بكونهن الأضعف، ناقصات، وربما كونهن أكثر صخبًا في تعاطي الحياة يجعلهن أوضح.
عندما نقترب في علاقاتنا نعمى، ولا نرى الشريك، فمراية الحب العامية لا تقف عند العلاقات العاطفية، ولكنها تنسحب على كافة أشكال العلاقات، وهو ما يجعلنا عند الغضب والبعد نُفاجئ بعيوب واضحة، ونقائص لم نعرفها ولم نقبلها، ولكن كنا نمررها عبر عمى المحبة.
القرب الشديد آفة تُفسد العلاقات، تستبيح خصوصية الطرفين، فجأة تجد نفسك مشاع أمام شريكك، كل شيء يعرفه الآخر عنك، بينما في لحظة تقف لتتذكر ماذا تعرف أنت عنه؟ وهنا يبدأ الشرخ في العلاقة.
بعض النساء يعتمدنا منهج المشاعية فيما يخص غيرهن فهي تسأل عن أدق تفاصيل الشريك، تستبيح حياته ووقته وتصدر بداخلها الأحكام التي تراها متوافقة مع تصرفات الشريك/ة في حين أنها تسعى لطمس معالم حياتها، فتبدو حياة الآخر مستباحة، بينما هي تتحدث عن الخصوصية.
أولى درجات المشاع هي حالة الاقتراب الشديد والتواصل الدائم، إذ تجد نفسك مطالبًا بسرد تفاصيل يومك أو الساعات الفاصلة بين اتصال وآخر، يأتي السرد يسيرًا لملء وقت المكالمة، أو المقابلة، في العلاقات يأخذ أحد الطرفين دور القائد فيبدأ في طرح التساؤلات التي تبدو في ظاهرها للاطمئنان والتواصل، بينما هي تنزلق لفخ الاستباحة، وفى أي علاقة على كل طرف أن يقف ليسأل نفسه هل يعرف عن شريكه نفس القدر الذي يعرفه الشريك عنه؟
القرب الشديد وعدم احترام خصوصية كل طرف ومساحته الخاصة يمكن أن نطلق عليها سرطان العلاقة، إذ تبدأ العلاقة بالتداعي والانهيار، فعدم وجود خصوصية ومساحات خاصة لكل طرف تصنع اختناقًا يتنامى مع الوقت، حتى يشعر أحد طرفي العلاقة بأنه مُراقب طيلة الوقت.
من كبرى أزمات صداقة النساء التداخل المفرط في التفاصيل والتي تبدأ من أدق التفاصيل الشخصية والحميمة وصولًا بالعمل والمعارف والعلاقات، بعض النساء تميلن إلى الاستحواذ على صديقاتهن/ هم فتتقصى كل شيء، في حين تسعى هي إلى إخفاء ما يخصها، أو إخفاء ما تراه هامًا، فهي تصنع مساحتها بينما تمارس تنطعًا في علاقاتها بالآخرين، واستباحة لحيواتهن/ هم، وربما مثل هذه الأمور ما يصنع صخبًا حول علاقات النساء بعضهن ببعض.
وجود مساحة ومسافة في العلاقات لا تضمن فقط الحفاظ على الخصوصية ولكنها أيضًا تضمن عمرًا أطول في العلاقة، عندما تكون لديك مسافة بينك وبين الشريك يمكن أن ترى عيوبه وتعرفه، هذه المعرفة مع المحبة تجعلك تقبل هذه العيوب من وجهة نظرك، وقبول الاختلاف هو أول علامات العلاقة الصحية والسلمية.
من أين تنبت المشكلة؟
ليست دومًا أزمة العلاقة والاستباحة يكون سببها طرف واحد، بل هي صنيعة الطرفين، طرف يقود الآخر نحو انتهاك خصوصيته، والآخر يتهاون، وكم من المصائب تتم تحت ستار المحبة، أحيانًا تبدأ المشكلة أن احد الطرفين ليست لديها القدرة على الاستماع لشريكه، هو فقط يريد أن يحكي، وحين يحاول الآخر أن يقول شيئا عن نفسه، فإن الشريك يتجاوز عما سمعه ويمرره دون اهتمام بما يخلق مسارًا واحدًا في العلاقة، حين تفقد خصوصيتك ليس فقط لأن الآخر يستبيحك ولكن لأنك لا تعطى العلاقة حقها، لا تمنح الآخر فرصة البوح والمشاركة، فحين تقترب الفرص من المساواة يمكن اكتشاف حالة الاستباحة.
خصوصية الفرد أمر بالغ الأهمية، هدف نظل نناضل من أجله طيلة حياتنا، يحاول أولادنا أن يحافظوا على خصوصيتهم، وتسعى الزوجة والزوج لخلق مساحة خصوصية لكل طرف، وفي الصداقة أيضًا، الخصوصية والمساحة الشخصية من مكونات أي علاقة، فلا تسمح أن يتم استباحتك فأنت شريك في ذلك.