كل يوم يخرج علينا المسئولون بأن العالم كله يتعلم من تجربة مصر في الإصلاح الاقتصادي وأن المؤسسات المالية الدولية تشيد بوضع الاقتصاد المصري، وأنه تجاوز كورونا بدون مشاكل كبرى، وتردد جوقة الإعلام نفس هذه المقولات، حتى بدأنا نبحث في الشوارع عن أنهار السمن والعسل المصرية، والحياة الكريمة التي تحققت بفضل هذه السياسات. ولنحاول تأمل الصورة من واقع البيانات والتصريحات الحكومية المنشورة والمعلنة.
أوضح تقرير المؤسسة العربية لضمان الاستثمار أن مجموع الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي جذبتها مصر خلال العام الماضي يقدر بنحو 5.9 مليار دولار، ويعد هذا تراجعًا بنسبة 35.1% مقارنة بعام 2019 والذي حققت مصر فيه جذب استثمارات مباشرة تقدر ب 9 مليار دولار (هذا تراجع طبيعي على المستوى العالمي بفعل الكورونا والإغلاق). وأكد البنك المركزي المصري أن صافي التدفق للداخل للاستثمار الأجنبي المباشر في مصر تراجع إلى نحو 4.8 مليار دولار خلال الفترة بين يوليو/ مارس من العام المالي الجاري، مقابل نحو 5.9 مليار دولار بنسبة انخفاض تبلغ 19.3%، كما أن مصر كانت من بين البلدان الأكثر تحسنًا في مؤشر البنك الدولي لسهولة ممارسة الأعمال، لكنها جاءت أيضًا في مرتبة متأخرة، حيث تحتل المرتبة الـ93 من بين 140 دولة في مؤشر التنافسية العالمي التابع للمنتدى الاقتصادي العالمي وهو ما يستدعي جهودا متكاملة لتحسين ترتيب مصر في هذه المؤشرات وبقوة. كما أن مصر تواجه التزامات كبرى مستحقة خلال عامي 2023/2024، 2024/2025 وهي سداد 11.5 مليار دولار لصندوق النقد الدولي وسداد 25% من الاحتياطي النقدي مستحق للسعودية والإمارات وبما يشكل ضغوطا كبيرة على الاحتياج للنقد الأجنبي.
الغرق في مستنقع الديون
نتيجة ضعف الموارد وعدم توافر التمويل اللازم للمشروعات التي تقوم بها الدولة نتيجة ضعف وقصور الجهاز الضريبي من ناحية، وتراجع الزراعة والصناعة وضعف الصادرات، ورغم المعونات الخليجية التي تدفقت على مصر منذ 30 يونيو ورغم قروض صندوق النقد الدولي وتنفيذ كل توصياته ترى كيف تطورت مديونية مصر الداخلية والخارجية. لقد أكدت دراسة للمركز المصري للدراسات الاقتصادية في أغسطس 2019، أن الاعتماد المستمر على النمو من خلال الاقتراض الخارجي بدلا من النمو من خلال الاستثمارات والإنتاج سوف يتسبب في الوصول بالديون إلى مستويات لا يمكن تحملها، وبالتالي سيدخل الاقتصاد في حلقة مفرغة من الاقتراض الخارجي.
لم تتجاوز الديون المحلية 1.6 تريليون جنيه في يونية 2014، وارتفعت إلى 4.1 تريليون جنيه في يونيو 2020 أي أنه خلال الفترة ما بين 2014-2020 اقترضت مصر 2.5 تريليون جنيه ديونا إضافية. وتنقسم الديون المحلية إلى ديون قصيرة الأجل هي أذون الخزانة والتي تتراوح فترة استحقاها ما بين شهر و12 شهرا، أما الديون المحلية طويلة الأجل فتسمي سندات الخزانة وهي تتراوح ما بين سنتين وعشرين سنة. وفقا لبيانات النشرة الإحصائية الشهرية الصادرة عن وزارة المالية ارتفعت ديون مصر من أذون الخزانة من 534 مليار في يونية 2014 إلى 1.7 تريليون جنيه في يونية 2020 أي بزيادة 1.234 مليار جنيه. كما ارتفعت سندات الخزانة من 436.5 مليار جنيه إلى 1.6 تريليون جنيه أي بقيمة 1.2 تريليون جنيه.
وهو ما يؤكد خطورة التوسع في الديون المحلية خاصة أذون الخزانة والتي يقبل عليها الأجانب نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة عليها خاصة ما يسمي بالأموال الساخنة وقد نشرت بيانات تؤكد خروج 17 مليار دولار من مصر خلال شهري مارس وإبريل 2020 فقط في بداية الكورونا والإغلاق.
أما الديون الخارجية فقد ارتفعت قيمتها من 46 مليار دولار في يونيو 2014 إلى 123.5 مليار دولار في يونيو 2020.أي بزيادة 77.5 مليار دولار خلال الفترة 2014 إلى 2020 مع ملاحظة أن سعر الصرف الدولار في 2014 كان 7 جنيه أي أن الديون الخارجية تساوي 322 مليار جنيه بينما وصل سعر الصرف في 2020 إلى 15.7 وبذلك تكون الديون الخارجية المصرية 1.9 مليار جنيه. ولا نعرف حجم الديون المحلية والخارجية الإضافية التي حصلت عليها مصر منذ يونيو 2020 وحتى أكتوبر 2021.
أما فوائد الديون فقد كانت 85 مليار جنيه في 2010/2011 وارتفعت إلى 203 مليار جنيه عام 2014 ووصلت إلى 579.6 مليار جنيه في موازنة العام الحالي 2021/2022 وهي تمثل 32% من مصروفات الموازنة بالإضافة الي 593 مليار سداد أقساط الديون المحلية والخارجية أي أن الأقساط والفوائد تبلغ 1.2 تريليون جنيه وهي تمثل 48% من استخدامات الموازنة و64% من المصروفات ورغم ذلك يخرج علينا البعض بأن ديون مصر في الحدود الآمنة!
أوضحت الموازنة أن الاقتراض وإصدار الأوراق المالية من أذون وسندات وغيرها لتمويل الموازنة الجديدة يبلغ 1.1 تريليون جنيه ديون إضافية في العام المالي الحالي وهو يمثل 43.4% من موارد الموازنة العامة وبما يؤكد إننا أصبحنا في خطر حقيقي واقتصاد يعتمد بالكامل على الخارج ويمول العديد من المشاريع والمبادرات بقروض فتدهورت الزراعة والصناعة كما تدهور التعليم والصحة. وأصبحت الديون تمثل مشكلة كبرى وخطر داهم يحتاج لعلاج عاجل على المدي القصير وعلاج جذري على المدى الطويل. ومن الطرائف أن الدكتورة سحر نصر، وزيرة التعاون الدولي وربيبة البنك الدولي قالت منذ سنوات: إن القروض التي يتم منحها لمصر سيتم سدادها في مواعيدها، مضيفة: “هيجي يوم نقرض فيه الدول بس شويه كدا عشان إحنا بدأنا متأخر” (اليوم السابع – 12 يناير 2017) ورحلت سحر نصر أحد مهندسي إغراق مصر في الديون ولم يتحقق ما وعدت به بل ازداد الأمر سوءا وارتفعت أعباء الديون وأصبحت لها الأولوية على الإنفاق على باقي مصروفات الدولة بقطاعاتها المختلفة.
كيف يمكن تقليص الديون
منذ حكومة الدكتور عاطف عبيد وحتى الآن تبحث السياسة الاقتصادية عن حل لمشكلة المديونية، طرح في فترة مبادلة ديون التأمينات الاجتماعية بأصول حكومية، ثم تحويل جزء من المديونية إلى صكوك كما حدث في ظل تولي الدكتور يوسف بطرس غالي وزارة المالية. لكن بعد الاستدانة المنفلتة البعيدة عن أي رقابة سواء للجهاز المركزي للمحاسبات أو مجلس النواب عاد الحديث عن تخفيض أعباء المديونية بتحويل بعض الديون القصيرة الأجل إلى ديون طويلة الأجل وطرحها في الأسواق المالية الدولية. وأخطر ما تواجهه مصر الآن هو الربط ما بين الديون وبيع الأصول المملوكة للدولة.
لقد فرض صندوق النقد الدولي على الحكومة في 2016 عدد من الإجراءات منها تعويم سعر الصرف وإلغاء الدعم واستكمال برنامج الخصخصة بل وبيع كل الشركات المملوكة للدولة بما فيها الشركات التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية وإعطاء المزيد من التسهيلات للقطاع الخاص والمزيد من الشراكة مع القطاع الخاص في كافة القطاعات، واسترداد التكلفة في المرافق والخدمات العامة. إضافة الي صدور تشريعات تخص ضريبة القيمة المضافة والخدمة المدنية والتأمين الصحي والتأمين الاجتماعي وقوانين العمل. هكذا أصبحت القرارات الاقتصادية والمالية تتشكل بضغوط ورغبات المقرضين من مؤسسات التمويل الدولية.
يرى الدكتور محمود الخفيف الخبير بالأمم المتحدة أنه يجب على كل دولة ألا تقترض إلا لتمويل استثمارات إنتاجية تعود بالنفع على المجتمع والاقتصاد في المستقبل بما يسمح بخدمة وسداد هذه القروض بيسر وبدون تحميل الأجيال المقبلة عبء ديون لا طاقة لهم بها. ويجب أن يكون للقروض والديون دور أساسي في تحقيق العدالة الاجتماعية وتقليل الاستقطاب بين الغنى والفقر، فمن حيث استخدامات الديون يجب توجيهها إلى استثمارات تستهدف تنمية ورفع مستوى معيشة الطبقات الأكثر فقرا، ومن حيث عبء خدمة الديون يجب أن تتحملها الطبقات الأكثر يسرا عن طريق فرض ضرائب تصاعدية وتبنى نظام ضريبي أكثر إنصافا لكل طبقات المجتمع بما في ذلك الأجيال القادمة.
الواقع يقول إن السياسة المالية تتجه للاقتراض للإنفاق على مشروعات البنية الأساسية التي لن تدر عائد على المدى القصير وعلى مشروعات مثل العاصمة الإدارية والقطار الكهربائي السريع وغيرها من المشروعات غير الانتاجية.
طرح الديون في الأسواق الخارجية
وقعت مصر اتفاق في 2019 مع يوروكير أكبر دور المقاصة الأوروبية لتسوية معاملات الأوراق المالية. ونظرا لارتفاع حجم الفائدة كنسبة من مصروفات الموازنة وكنسبة من الناتج المحلي أعلن وزير المالية أنه يستهدف تخفيض نسبة الديون إلى الناتج المحلي من 8.8% إلى 6.9% بحلول 2023/2024.لذلك بدأت مصر في طرح سندات بالدولار في الأسواق الدولية وفي عام 2014 كانت السندات والديون المطروحة في الخارج تبلغ 6 مليار دولار وتمثل 13% من قيمة الديون الخارجية وارتفعت الي 23.9 مليار دولار تمثل 19% من الديون الخارجية في يونيو 2020. وتتجه السياسة المالية لتحويل القروض قصيرة الأجل إلى ديون طويلة الأجل بدلا من البحث عن حلول أخرى لعمل تخفيض حقيقي في المديونية. لكن ما هي مخاطر ذلك:
1 – سداد الفوائد والأقساط يشكل ضغوط على الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية في مصر.
2 -ارتفاع سعر صرف الدولار يزيد من قيمة الديون المستحقة وفوائدها وأقساطها.
3 – لا نعرف ما هي جنسية المشتري في السوق الدولي وما مدى قدرته على التأثير على مصر وسياستها واقتصادها.
4- الحصول على القرض يعني الخضوع لشروط المقرض وتوجهاته بغض النظر عن مصالحنا الوطنية.
5- بدأت سياسة الإقراض بضمان الأصول مثل تفويض وزير المالية الاقتراض بضمان شركة مصر للطيران في قرض قيمته 5 مليار جنيه بما يرفع نسبة المخاطرة ويهدد بفقدان الأصول. وكذلك طلبت الشركة المصرية للاتصالات قرضا بقيمة 500 مليون دولار (7.8 مليار جنيه) وهي المرة الثانية التي تتوجه فيها المصرية للاتصالات للاقتراض من البنوك الدولية بعد القرض الذي حصلت عليه في 2018.
6- تتجه مصر الآن للاقتراض بضمان الأصول المملوكة للدولة مما يعرض الأصول للضياع لصالح الدائنين وما يمكن أن يفرضوه من شروط لإدارة الأصول المرهونة، أو الاستيلاء عليها عند التعثر في السداد.
7- يتجه صندوق مصر السيادي وبضغوط من الدائنين لطرح مجموعة من الأصول المصرية للبيع ولا نعرف لمن تنتقل ملكية هذه الأصول وبما يعرض السيادة الوطنية للخطر.
لقد عشنا جميعا الشروط التي فرضها صندوق النقد الدولي على مصر في 2016 وتأثيرها على محدودي الدخل ورفع معدلات الفقر، وفرض سياسات محددة في التعليم والصحة وإدارة المرافق العامة كالسكك الحديدية ومترو الأنفاق والكهرباء وغيرها وإلغاء الدعم. إن التوسع في الديون يضع قيود على السيادة الوطنية ويؤثر على القرار المصري الذي يلتزم بمراعاة مصالح وتوجهات المقرضين من مؤسسات التمويل الدولية التي تفرض على مصر توجهات وسياسات محددة مثل وقف التعينات في الحكومة ورفع أسعار الكهرباء والغاز والمحروقات والمزيد من مشاركة القطاع الخاص وبالتالي يكون فخ الديون هو المزيد من السقوط في مستنقع التبعية بكل ابعادها الاقتصادية والسياسية وفقدان القرار المستقل.
إن قضية الديون تحتاج لاتخاذ خطوات واضحة في المعالجة منها:
– رقابة الجهاز المركزي للمحاسبات ومجلس النواب على أي قروض جديدة ومراجعة موقف القروض الحالية.
– توحيد الاقتراض في جهة واحدة البنك المركزي أو وزارة المالية لأن الفوضى الحالية وحصول أكثر من جهة حكومية على قروض يشكل نوعا من الفوضى المضرة التي تحتاج الى تنظيم وترشيد.
– وقف أي قروض جديدة إلا لمشروعات إنتاجية تقدم قيمة مضافة وفرص عمل وصادرات تنعكس على مجمل الاقتصاد المصري وتعود بالنفع على كل المصريين وتضمن سداد الفوائد والقروض من عوائد المشروعات.
– ضرورة وضع استراتيجية لتخفيض المديونية والبحث عن وسائل أخرى للتمويل.
– أهمية إصلاح النظام الضريبي لتوفير موارد حقيقية بدلا من اللجوء للاستدانة.
من الضروري الخروج من فخ الديون لكي تستعيد مصر سيادتها وسيطرتها على القرار الوطني بعيدا عن رغبات وتوجيهات المقرضين والجهات المانحة من منظمات الإقراض الدولية.