وفقاً لردود الفعل الأولية، تبدو سيطرة القوات المسلحة على المشهد السياسي في السودان وإزاحة المدنيين. تمت بمباركة من كافة القوى الأمنية ومن يحملون السلاح في السودان. خاصة قوات الدعم السريع والحركات المسلحة المتمردة على الحكومة. التي كان لها العديد من الملاحظات والاعتراضات على قوى الحرية والتغيير الحاضنة السياسية لحكومة عبد الله حمدوك. التي تمت إزاحتها عن المشهد السياسي في 25 أكتوبر الجاري.
رغم التوافق الشكلي على إزاحة المكون المدني عن المشهد السياسي. إلا أن العلاقة بين مكونات الفريق الأمني تبقى بالغة التعقيد. خاصة مع تعذر الاتفاق على الترتيبات الأمنية في اتفاق السلام الموقع في جوبا أكتوبر 2020. ورفض العديد من الحركات المسلحة الاندماج في القوات النظامية، وترك السلاح. حيث كان الاتفاق نص على تنفيذ عمليات الدمج والتسريحح المتعلقة بمقاتلي الحركات المسلحة. وتشكيل قوات مشتركة من الجيش السوداني والشرطة والدعم السريع لحقظ الأمن في دارفور والمنطقتين في خلال 39 شهر.
ورغم توقيع البرهان على اتفاق جوبا الذي أقر تنفيذ الترتيبات الأمنية ودمج الحركات المسلحة في القوات النظامية في خلال 39 شهر من توقيع الاتفاق. إلا أن دخول عناصر الحركات المسلحة للعاصمة الخرطوم والمدن السودانية بكامل ألياتها العسكرية. أثار مخاوف أمنية تمركز في الخرطوم وحدها 5 جيوش. منهم الجيش النظامي وقوات الدعم السريع، وقوات حركة تحرير السودان/جناح مناوي، وقوات العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم. وقوات أخرى لحركات منشقة انتشرت في الطريق الرئيسية في الخرطوم بسيارات الدفع الرباعي والعتاد العسكرية.
إفراغ الخرطوم من العناصر المسلحة
مع توتر الوضع الأمني. قررت اللجنة الفنية لمجلس الأمن والدفاع في مارس الماضي. إفراغ الخرطوم من الوجود المسلح للحركات الموقعة على اتفاق جوبا للسلام. وايقاف التجنيد والاستيعاب السياسي. الذي تقوم به الحركات المسلحة في مناطق مختلفة في السودان. في الوقت الذي بدأت فيه الحركات المسلحة بحشد أعداد واسعة من مناصريها وبيع الرتب العسكرية بغية تقوية مراكزها. حيث تعذر اتخاذ الجيش النظامي في السودان إجراء حاسما تجاه هذه التطورات أو تنفيذ أي من الترتيبات الأمنية مع التحذيرات ببيع الرتب العسكرية باسم حركات الكفاح المسلح. التي قد تزيد الوضع تعقيداً بفتح الباب لخلافات واسعة على تقاسم الزعامة والقيادة.
لكن إفراغ العاصمة من العناصر المسلحة لم ينه التخوفات الأمنية. حيث لا تزال أعداد من يحملون السلاح والقوى الفعلية للحركات المسلحة غير محددة أو معروفة، فهناك تقديرات لتقارير أمنية تشير إلى انتشار ما يقرب من 5 مليون قطعة سلاح بين المواطنين والمسلحين وهو ما يزيد الأمر تعقيداً على الجيش السوداني والإدارة العسكرية في استيعاب الموقف إلى جانب إدارة الفترة الانتقالية بعد ازاحة الحكومة المدنية، وهو ما قد يضيف المزيد من التعقيدات إذا ما فتح المجال لخلافات وانشقاقات جديدة داخل المكون العسكري نفسه.
تاريخ عامر بالانقلابات والانقسامات داخل صفوف العسكر
المتتبع لتاريخ القوات المسلحة في السودان. يجد أن العديد من حركات التمرد خرجت من داخل صفوف الضباط. حيث ظلت أبز ميليشيا وقوة متمردة تقاتل ضد الجيش السوداني لأكثر من نصف قرن. هي قوات أنانيا الجنوبية. التي تأستت من قبل قادة في الجيش السوداني نفسه. حيث استمرت الحرب بينهما منذ استقلال السودان في عهد الرئيس الراحل جعفر النميري. حتى توقيع اتفاق للسلام في أديس أبابا في السبعينيات. لتعود هذه القوة المتمردة إلى الجيش السوداني مرة أخرى. ولكنها لم تلبث لتندمج في القوات المسلحة النظامية ليتمرد مجموعة من الضباط مرة أخرى بقيادة جون قرانق وتكوين الحركة الشعبية لتحرير السودان. التي خاضت حرباً واسعة ضد الجيش والحكومة السودانية منذ بداية الثمانينيات حتى توقيع اتفاق السلام المعروف باتفاقية نيفاشا والتي تم على إثرها اعطاء حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان ومن ثم انفصاله في 2010.
بدأت الانقلابات العسكرية في السودان بعد الاستقلال في 1957. حيث انقلب مجموعة من ضباط الجيش بقيادة إسماعيل كبيدة. على أول حكومة وطنية ديمقراطية. كما نفذ الفريق ابراهيم عبود في 1958 انقلاباً على الحكومة الائتلافية بين حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي. حتى قامت ثورة شعبية على حكم عبود في 1964.
انقلاب جعفر النميري
في عام 1969. نفذ جعفر النميري انقلابا عسكريا ليحسم السلطة لصالح المكون العسكري. إلا أنه لم يسلم من الانقلاب عليه أيضاً حيث نفذت مجموعة من الضباط المحسوبين على الحزب الشيوعي في الجيش السوداني انقلاباً بقيادة هشام عطا في 1971. إلا أن النميري استطاع إعادة السلطة في غضون يومين. لكن محاولات الانقلاب عليه من داخل المؤسسة العسكرية لم تهدأ حيث وقع خلاف آخر في المؤسسة العسكرية في 1937. تطور إلى تمرد على نظام النميري استمر لـ3 أيام. وتكررت محاولات الانقلاب على النميري في 1975 و1976. حتى أعلن الجيش السوداني إنهاء حكم النميري في 1985 بعد عصيان مدني شامل وقيام مرحلة انتقالية بقيادة الفريق عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب الذي تصدى لسيطرة العسكر على الحكم بتشكيل مجلس عسكري أعلى لإدارة المرحلة الانتقالية تحت رئاسته، لمدة سنة واحدة حتى اجراء الانتخابات، حتى نفذ العميد عمر البشير الانقلاب في 1989، ضد الحكومة المدنية المنتخبة برئاسة الصادق المهدي.
وخلال حكم البشير حاول قادة في الجيش تنفيذ عده محاولات للانقلاب في 1990، و1992. ما كان سببا في الاضعاف المتعمد للجيش السوداني خوفا من الانقلاب على حكمه. والاستعانة بقوات الدعم السريع التي عزز من وجودها في السودان وتوسع في تقوية عناصرها ماديا ومعنويا.
ولم تنته الانقلابات العسكرية خلال المرحلة الانتقالية الحالية منذ الإطاحة بنظام البشير حيث بلغ عدد المحاولات الانقلابية داخل الجيش ستة محاولات آخرها تمرد مجموعة من ضباط سلاح المدرعات في سبتمبر الماضي.
حركات مسلحة في مواجهة الحكومة والجيش النظامي
إلى جانب الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب. بدأت الحركات المسلحة في السودان تتشكل منذ عام 2003 مع التمرد في دارفور ضد نظام البشير. حيث تشكلت حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة ، إلا أن خلافات بين قادة الحركات تسببت في الانقسام إلى 3 حركات اثنين باسم حركة تحرير السودان واستمرار حركة العدل والمساواة ثم تكون عشرات من الأفرع والحركات الجديدة التي وقعت في النهاية على اتفاق سلام جوبا في 2020 فيما عدا الحركة الشعبية لتحرير السودان فرع عبد العزيز الحلو، حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، وهما الحركتان الأقوى من حيث عتاد التسلح وعدد المقاتلين والمناطق التي تقع تحت نظاق سيطرتهم.
في مواجهة الحركات المسلحة والتمرد في دارفور وولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان. اتجه الرئيس المعزول عمر البشير لتعزيز قبضته العسكرية بتكوين قوات مقاتلة تحمل اسم “الدعم السريع”. استهدف بها في البداية مواجهة التمرد وقتال الحركات المسلحة في دارفور. حتى أصبحت لها اليد العليا في السيطرة على القطاع الأمني والعسكري في السودان. في مواجهة القوات النظامية للجيش السوادني. الذي حاول البشير تهميشه وعدم إمداده بما يكفي من التسليح والتدريب خوفاً من الانقلاب عليه.
وحظيت قوات الدعم السريع بالاهتمام الرئيسي للرئيس المعزول. الذي استطاع ادماجها أيضاً في عمليات إقليمية حيث شاركت في عاصفة الحزم ضد الحوثيين في اليمن، وهو ما أتاح لعناصرها المزيد من فرص التدريب والتسليح الكافي للاشتباك على جبهات متعددة. ما يعزز قوتها الآن وتأثيرها في المشهد السياسي في السودان بخاصة بعد انحيازها للثورة ضد البشير، وسيطرتها أيضاَ على قطاعات ومرافق حيوية في السودان، حيث شغل قائدها محمد حمدان دقلو، المعروف باسم “حميدتي” نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي بعد توقيع الوثيقة الدستورية في أغسطس 2019.
التنافس بين البرهان وحميدتي
لعل أبرز التخوفات من تطور الخلافات داخل المكون العسكري هو احتمالات الصراع بين الفريق عبد الفتاح البرهان، القائد العام للقوات المسلحة، والفريق محمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع والتي تتمتع بقوة أمنية ومعنوية ومادية كبيرة داخل السودان، خاصة مع تداول تقارير إعلامية سودانية عدة تكشف عن تباين وجهات النظر بين الرجلين في كثير من القضايا السياسية الداخلية والخارجية، مثل ملف الحدود مع إثيوبيا وعملية السلام، وهو ما يعزز التنافس بينمها على مراكز القوة خلال الفترة الانتقالية حيث كان رئيس مجلس الوزراء المنحل، عبد الله حمدوك قد حذر من تداعيات خلاف بين العسكريين في وقت سابق.
كانت الخلافات قد بدأت بين البرهان وحمديتي حسب وسائل اعلامية سودانية منذ توقيع اتفاق السلام ورفض الأخير تفكيك قوات الدعم السريع واندماج عناصرها في الجيش السوداني تحت قيادة البرهان، بحجه أنها أسست بقانون وتتبع القائد العام للجيش السوداني، إلا أنه بعد تصاعد التوتر نجح البرهان وحميدتي في خفض حدة الاحتقان، بين الرتب العليا، تحسبا من وصول الخلافات لمستوى القواعد من الجنود.
ورداً على ما نشر عن التوتر حرص البرهان وحميدتي على الظهور إعلامياً في أكثر من مناسبة. منها خطاب البرهان عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة من وحدة المدرعات في سيبتمبر الماضي للتأكيد على التوافق بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، حيث نفى البرهان كثيراً الخلافات بين المكونات العسكرية.
تحديات أمام البرهان
منذ إزاحة نظام البشير. حذر العديد من المراقبين للوضع السياسي في السودان. من خطورة تفكك وتعدد الجيوش في السودان. وكان أبرزها ما عبر عنه رئيس بعثة الأمم المتحدة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان، يونيتامس في إحاطته لمجلس الأمن. التي قال فيها إن السلام في السودان لن يتحقق في ظل تعدد الجيوش حيث لا يزال كل طرف متمسكا بقواته على الأرض. ما يتخطى في خطورته مجرد المناوشات والاختلافات بين المكون المدني والتي كانت سبباً في الانقلاب عليهم واقصائهم من المشهد السياسي بوصفهم خطرا على السودان وتعطيلا لمسار التحول الديمقراطي.
وكشف تأخر تنفيذ بنود الترتيبات الأمنية في اتفاق السلام عن صعوية توحيد القوات المسلحة السودانية تحت مظلة واحدة مع تشدد الأطراف في تقديم تنازلات لصالح الاندماج في القوات المسلحة. وصمت الجيش بقيادة البرهان عن اتخاذ قرارات فاعلة في نزع سلاح الحركات المسلحة أو إعادة دمج أفرادها في الجيش أضاف مشاكل أمنية سيكون من الصعب السيطرة عليها في ظل التوتر السياسي واستمرار كل طرف في إظهار قوته طمعاً في الحصول على أكبر قدر من المناصب خلال تقاسم السلطة.