الواقع الافتراضي، أو العالم الافتراضي، مصطلحان نستخدمهما كثيرا للإشارة إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وإلى تعاملنا مع اﻵخرين من خلالها. وهو استخدام غير دقيق، فثمة قليل جدا مما يحدث من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وينطبق عليه حقا وصف “افتراضي“.
الحقيقة أن تعاملاتنا من خلال مواقع التواصل الاجتماعي لا تختلف بشكل جذري عن تعاملاتنا باستخدام وسائل اتصال تقليدية قديمة، مثل الرسائل المكتوبة، والهاتف. وبعبارة أخرى التواصل مع اﻵخرين من خلال موقع مثل فيسبوك هو ببساطة شكل أكثر تطورا من نقل الرسائل إليهم. التطور يتعلق فقط بسرعة وصول الرسالة المكتوبة، بتنوع صور الرسائل، واستمرارية وجودها بحيث يمكن استعادتها لاحقا، وربما اﻷهم هو عدد الناس الذين يمكن أن تصل إليهم رسائلنا، وحقيقة أن بعضهم على اﻷقل قد لا نعرفهم وربما لم ولن نلتقي بهم على اﻹطلاق. في نهاية المطاف نحن نتواصل بالفعل مع أشخاص حقيقيين، أية أوهام لدينا بخصوصهم، سواء خلقوها عمدا أو تخيلناها عنهم، لا تختلف عن اﻷوهام التي قد تكون لدينا عن أشخاص نلتقيهم في الواقع اليومي الحقيقي. بخلاف اﻷشخاص فكل ما نتعامل معه من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، يوجد به خط فاصل واضح بين الواقع والخيال، عندما نقول إننا دخلنا إلى غرفة محادثة، ندرك تماما أنه ليست ثمة غرفة، وأن هذا مجرد مجاز. نحن أنفسنا، لا زلنا في مكاننا، يمسك كل منا بهاتفه الذكي، ولا شيء يخلق أي وهم لحواسه يشعره بأنه قد انتقل فعليا إلى غرفة يلتقي فيها بأشخاص آخرين ليتبادل معهم الحديث.
ليس اﻷمر كذلك عندما يتعلق بالواقع الافتراضي الذي ينطبق عليه هذا المصطلح بدقة أكبر. الواقع الافتراضي هو تكنولوجيا، أو في الواقع عدة تكنولوجيات، بعضها يتعلق ببرامج كمبيوتر، واﻵخر بأدوات إلكترونية مختلفة، وهي معا تعمل من خلال إيهام حواس المستخدم بحيث يشعر بأنه يمر بتجربة واقعية تماما. أقرب تجربة يعرفها كثيرون منا هي أفلام البعد الثالث، والتي يتطلب مشاهدتها بقاعة عرض السينما أن يرتدي المشاهدون نظارات خاصة، وهي تخلق لديهم وهما أقرب ما يكون إلى أنهم موجودون بداخل المشهد الذي يتم عرضه على الشاشة. لتكنولوجيات الواقع الافتراضي أيضا نظارات خاصة بها، ولكنها أكثر تعقيدا بكثير من نظارات عروض البعد الثالث السينمائية، التي لا تزيد عن كونها عدسات خاصة، ولا شيء أكثر من ذلك. على خلاف ذلك، نظارات الواقع الافتراضي هي أجهزة معقدة تعمل من خلال برامج كمبيوتر تضعك فعليا داخل المشهد، فمع كل تغيير لاتجاه رأسك يتغير المشهد ليحاكي بالضبط رؤيتك لجانب آخر منه، تماما كما يحدث عندما تكون بمكان ما، وتنظر إلى يسارك أو يمينك فترى من الغرفة تفاصيل مختلفة عما تراه عندما تنظر إلى اﻷمام.
لا تكتفي تكنولوجيا الواقع الافتراضي باﻹيهام البصري، ولكنها تستخدم أيضا أدوات أخرى للتعامل مع حواس اللمس، ومع حركات جسدك، فيمكنها إيهامك بأنك عندما تمد يدك لتلمس شيئا في المشهد الافتراضي، تشعر فعليا بملمسه، وبمقاومته ليدك، وهي تستجيب لحركة يدك فتسمح لك بتحريك اﻷشياء في المشهد بحملها ودفعها واﻹمساك بها إلخ. الواقع الافتراضي، الذي يعتمد كثيرا على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، يذهب إلى أبعد ما يمكن تحقيقه اليوم لخلق واقع يمكن للشخص أن ينغمس فيه إلى حد يصبح معه من السهل ألا يدرك الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال المصنوع رقميا. وحتى اليوم فإن أغلب استخداماته العملية تتعلق بألعاب الكمبيوتر، ونماذج المحاكاة في برامج التدريب وغيرها. الجديد، هو أن تكنولوجيات الواقع الافتراضي تدخل اليوم إلى عالم مواقع التواصل الاجتماعي من بوابته اﻷكبر “فيسبوك“، لتحوله إلى عالم افتراضي حقا، وبالمعنى الدقيق لهذا المصطلح.
ما كشف عنه مارك زوكربرج الرئيس التنفيذي لشركة “فيسبوك” (سابقا، ميتا حاليا)، مؤخرا، هو كما عبر بنفسه عن ذلك بداية “عصر جديد من التواصل.” ليس اﻷمر مجرد تعديل لاسم علامة تجارية، بالرغم من أن ذلك في حد ذاته أمر ذو أهمية كبيرة، عندما يتعلق بعلامة لها حجم “فيسبوك“، ولكنه بالفعل انتقال بأدوات التواصل بين الناس إلى مرحلة جديدة لتخطو خطوة لا تقل في اتساعها وأثرها عن الخطوة التي تمثلت في ظهور مواقع التواصل الاجتماعي وبقية تطبيقات الإنترنت التفاعلي ﻷول مرة. ويكفي القول إننا لا نزال بعيدين عن فهم آثار الخطوة السابقة على مختلف نواحي حياة اﻷفراد والمجتمعات، لندرك إلى أي حد يصعب أن يكون لدينا صورة واضحة عما يمكننا توقعه من الصورة الجديدة. يصدق ذلك علينا جميعا كبشر نعيش، ونتعايش، على هذا الكوكب الذي تنكمش مساحته يوميا بمعدل متسارع، ولكنه بالنسبة لنا هنا في مصر واﻵن في هذه اللحظة من تاريخ مجتمعنا، قد تكون له أبعاد أكثر تعقيدا، وهو ما يعنيني في السطور التالية.
لمجتمعنا، وسلطاته الحاكمة، طريقة أصبحت تقليدية ومتوارثة في تعامله مع الجديد التكنولوجي، الذي أصبح من المعتاد أن يقتحم علينا حياتنا قادما من الخارج دون أن نسهم بأي قدر حقيقي في خلقه، ودون أن نكون مستعدين بأي شكل منهجي للتعامل معه ومع آثاره. هذه الطريقة أولا تنحصر في رد الفعل، وتتميز ثانيا بقدر كبير من الارتجال والعشوائية، وثالثا تتصف بالتناقض الشديد بين التبني السريع للمنتج التكنولوجي الوافد، وبين خطاب رافض له ومنزعج من آثاره، التي عادة ما يشكل المجتمع صورة ساذجة وغير واقعية لها. التناقض الذي أشير إليه هو في حد ذاته امتداد لما يكاد يكون جزءا من ثقافتنا الحالية، وهو ببساطة تعبير عن مجتمع، يقول ما لا يفعله، ويفعل ما لا يحب الحديث عنه أو قوله أو الاعتراف به طيلة الوقت. ومن ثم فأفراد مجتمعنا في غالبيته يقبلون على ممارسة ما سيرفضونه علانية بكل قوة، بشكل أصبح كأنه طقس يحترمه الجميع ويحرصون على تكراره. والمثير للاهتمام أن السلطات الحاكمة بدورها تمارس تناقضا مشابها لذلك، ولكن ﻷن ما تفعله يعتبر رغم أنف الجميع سياسات رسمية، وما تقوله هو عمليا تشريعات وقوانين وقرارات تنفيذية، فاﻷمر يكون أكثر تعقيدا، وآثاره أبعد وأعمق من أن يمكن ﻷحد تجاهله.
ردود اﻷفعال المجتمعية ومن جانب مؤسسات الدولة تجاه ظواهر مثل موقع تبادل الفيديوهات القصيرة تيك توك، التي تحولت إلى ملاحقات قانونية انتهت إلى أحكام بالسجن على مجموعة من الفتيات، بسبب أفعال لا يمكن تخيل أن تكون قد ألحقت أي ضرر حقيقي بأي شخص، هي نموذج واضح لتخبط تعاملنا كمجتمع وتعامل مؤسساتنا مع اﻵثار الاجتماعية للموجة السابقة من تطور أدوات التواصل الاجتماعي، وهي تطرح شكوكا جديرة بالتوقف أمامها حول مدى ما يمكن أن يبلغه تخبطنا في التعامل مع موجة جديدة لهذا التطور، تحمل تحديات أكبر في الحجم وأعمق في اﻷثر. النمط العام لردود أفعال مجتمعنا وسلطاته هو إدراك العجز عن وقف انتشار تبني التكنولوجيات الجديدة الوافدة، مع اﻹصرار على محاولة وقف آثار بعينها لهذا الانتشار، أو على اﻷقل إظهار جدية هذه المحاولة من خلال إجراءات عبثية في قسوتها يتحمل تبعاتها من يمثلون الحلقة اﻷضعف في المجتمع. وفي حين ينصب الاهتمام على مواجهة اﻵثار التي يوليها المجتمع اﻷولوية في الاهتمام ﻷسباب تقليدية متوارثة، دون أي مراجعة لكونها بالفعل تلحق أي ضرر بمجتمع حديث في القرن الحادي والعشرين، يغيب بشكل شبه تام الاهتمام باﻵثار الضارة فعليا باﻷفراد والمجتمع ككل. وبعبارة أوضح، يتجه الاهتمام إلى ممارسة الدور اﻷبوي الذي يرى من يمارسه أنه رقيب على أخلاق أفراد المجتمع وعلى سلوكياتهم الشخصية، في حين يغيب الدور المتمثل في حماية أفراد المجتمع من تعدي اﻵخرين عليهم.
إلى جانب غياب الاهتمام بالمضار الحقيقية التي قد تنتج عن استغلال بعض جوانب التطور التكنولوجي لوسائل التواصل، تغيب أيضا المحاولات الجادة والمنهجية أولا لفهم التطورات التكنولوجية ودراسة آثارها المتوقعة على حياة الأفراد وتعاملاتهم اليومية في المجالات المختلفة، وبناء على ذلك وضع استراتيجية واضحة لتنظيم تبني هذه التكنولوجيات بشكل يعظم الاستفادة من جوانبها الإيجابية مع تجنيب الأفراد للمضار المتوقعة لها. النتيجة هي أن استفادتنا دائما أدنى مما هو ممكن وتتيحه هذه التكنولوجيات بالفعل، أولا لغياب هذه الاستراتيجية، مما يؤدي إلى قصور استعدادنا للاستفادة منها. المثال الأوضح الذي يلاحظه جميع مستخدمو الإنترنت في مصر هو استمرار تخلف خدمتها من حيث السرعات المتاحة، وارتفاع الأسعار بشكل غير منطقي، وعدم ثبات مستوى الخدمة، واستمرار تقييدها بحدود عليا للاستهلاك، على عكس ما هو سار في الغالبية العظمى من دول العالم. وثانيا، ثمة أيضا السياسات والممارسات التي تعامل تكنولوجيات الاتصالات على أنها شر نقبله على مضض مع محاولة تحجيمه باستمرار، وهذه تضيف إلى القيود التي تحد من الاستفادة من هذه التكنولوجيات.
ثمة فجوة أولية تفصل بين الدول ذات الاقتصاديات المتقدمة وبين سواها في قدرتها على استثمار التطور التكنولوجي في الاتصالات لصالح مزيد من النمو لاقتصادها ولحيوية مجتمعاتها أيضا. في مواجهة هذه الفجوة المتزايدة بالفعل ليس لدولة كمصر أو لمجتمعها رفاهية التلكؤ ومقاومة التطور، فنحن بذلك نضيف إلى هذه الفجوة أضعافا مضاعفة. ومع كل قفزة جديدة كالتي تعد بها مشروعات مثل ميتافرس ثمة دائما مجال لتوسيع الفجوة أكثر فأكثر، ومع التحديات الكبرى التي يقبل عليها عالمنا في العقود القادمة والتي يهدد بعضها حياة مليارات البشر ويهدد مصير دول كثيرة، فنجاح وفشل الدول والمجتمعات يعتمد بشكل مباشر على قدرتها على تطويع كل تطور تكنولوجي لمنحها فرصة أكبر في مواجهة هذه التحديات.
مخاطر المستقبل لا تتعلق بحروب الأجيال من الثالث إلى (حسنا ضع هنا آخر ما توصلت إليه خيالات محبي نظريات المؤامرة). وموارد الدول وأراضيها نفسها أقرب إلى أن تبتلعها مياه البحر أو تحترق بنيران موجات الجفاف والتصحر من أن يستولي عليها الغزاة الطامعون. وأسلحة المستقبل الأكثر فعالية ليست الأكثر قدرة على التدمير بل الأقدر على حماية البشر وحياتهم وسلامتهم، والتكنولوجيا المتطورة هي الأهم في ترسانة هذه الأسلحة. من يرى في ميتافرس إمكانيات الترفيه والتسلية أو مخاطر تدمير التقاليد والأخلاق الحميدة ولا شيء أبعد أو أهم من ذلك هو في الحقيقة من يصر على العيش في واقع افتراضي لا يمت إلى الحقيقة بصلة، ذلك الواقع الافتراضي ستجتمع فيه فقط الكائنات المهددة بالانقراض التي تسابق مصيرها بممارسة طقسية شديدة الجلال والثقة للانتحار الجماعي. هذا هو المصير الذي علينا أن نفر منه ونقاوم الانزلاق إليه بأن نتدارك ما فاتنا ونصلح علاقتنا بالتطور ونفتح عقولنا وقلوبنا لنعتنق المستقبل حتى لا نستسلم لنعاس طويل لا نفيق منه في أحضان ماض افتراضي واحتضار غير افتراضي.