أثارت تصريحات الإعلامي اللبناني جورج قرداحي حول “الحرب العبثية في اليمن” ردود فعل غاضبة من قبل السعودية ودول الخليج، أسفرت عن سحب سفراء المملكة والإمارات والكويت والبحرين من لبنان، في حين اكتفت قطر بإدانة موقف قرداحي، أما سلطنة عمان فلم تكتف مثل قطر بعدم سحب سفيرها، إنما أعلنت عن أسفها لتأزم العلاقة مع لبنان، ودعت الجميع إلى ضبط النفس، وتجنب التصعيد ومعالجة الخلافات عبر الحوار والتفاهم.
والمؤكد أن قرداحي واحد من أشهر الإعلاميين العرب، ونال برنامجه “من سيربح المليون” شعبية هائلة، وتسابقت الفضائيات الخليجية والعربية على التعاقد معه، بعد أن تمتع بقبول واسع لدي قطاعات مختلفة الأذواق والتوجهات، جعل قيمة أعماله التسويقية والإعلانية من بين الأعلى في العالم العربي.
والحقيقة أن تصريحات الرجل جاءت قبل شهر من اختياره وزيرا للإعلام في حكومة نجيب ميقاتي الجديدة، والتي نالت دعما دوليا وعربيا كبيرا حتى رأت النور، وبعد أن ظل لبنان بلا حكومة بعد أن فشل سعد الحريري في تشكيلها نتيجة خلافات عميقة مع رئيس الجمهورية العماد ميشيل عون.
والمؤكد أن تصريحات قرداحي كان فيها جانبان: الأول هو وصف حرب اليمن بالعبثية، وهو توصيف يقوله كثيرون في كل دول العالم بمن فيهم محبون للسعودية، فهنا وبعيدا عن النوايا نحن أمام تصريح “ضميري” يرفض حربا يسقط فيا كل يوم ضحايا من المدنيين وعجزت السعودية والتحالف العربي عن حسمها عسكريا، ومن الواضح أن لا الحوثيين ولا الحكومة المعترف بها دوليا سيحسمان هذه الحرب بالقوة المسلحة.
أما الجانب الثاني فهو الذي قال فيه إن الحوثيين يدافعون عن أرضهم ولا يخرجون خارجها، وهنا نصبح أمام تصريح سياسي منحاز بامتياز لطرف من أطراف الصراع، كما أنه مجاف للواقع، لأن ميليشيا الحوثي تستهدف السعودية بصواريخها وطائرتها المسيرة ولم تميز في أي يوم بين المدنيين والعسكريين، كما أن خطر هذا النوع من التنظيمات المتطرفة لم يكن في أي مرحلة في قدرتها على احتلال دول أخرى، إنما في تشكيل تهديد مباشر لأمنها القومي من خلال السيطرة على دول مجاورة.
ورغم أن تصريحات قرداحي جاءت قبل أن يصبح مسئولا ووزيرا في الحكومة الجديدة، إلا أن الأوساط المعارضة لحزب الله وخاصة داخل لبنان قالت إن تصريحاته كانت متعمدة للفت أنظار حزب الله له، وحتى يحصل على دعمه ودعم قوى مسيحية أخرى في مواجهة منافسين آخرين سعوا أيضا أن يصبحوا وزراء للإعلام.
ورغم أن مسألة تعمده من عدمه والخوص في النوايا في هذا النوع من الصرعات أمر لا يمكن حسمه، إلا أن الشيء المؤكد أن سحب السفراء الخليجيين الأربعة من لبنان ومطالبة نظرائهم اللبنانيين بمغادرة البلاد خلال 48 ساعة بدا أنه أكبر من قضية تصريحات قرداحي أيا كان الرأي فيها.
يقينا تصريحات أي وزير قبل أن يصبح مسئولا تأخذ بعين الاعتبار في تقييمه، وقد تؤدي بعض المواقف السابقة إلى استبعاده من موقع المسئولية ولكن لا يمكن أن يحاسب مسئول بأثر رجعي، بل وتتحمل دولته بالكامل مسئولية هذه التصريحات وهو أمر غير مسبوق في الأعراف الدولية إلا لو كانت هناك أسباب أخرى أدت إلى هذا الموقف التصعيدي.
والمؤكد أن بيان حزب الله الذي أصدره أول أمس ودافع بشراسة عن قرداحي عقب الهجوم الذي تعرض له وقبل قرار سحب السفراء، كان أحد الأسباب وراء سكب الزيت على النار، فبمجرد أن ظهر الحزب كداعم له، أو لغيره فإن الأمر سيثير حتما غضب السعودية خاصة في ظل عدم ممارسة الولايات المتحدة والمجتمع الدولي أي ضغوط لتبريد التوتر مع إيران طالما لازالت تماطل في العودة إلى الاتفاق النووي.
صحيح أن هناك تصريحات أكثر قسوة يقولها مسئولين غريبين ولا تثير نفس ردود الأفعال في الدول الخليجية إلا أن اختطاف تصريحات قرداحي لصالح المحور الإيراني عقدت من القضية ودفعت دول الخليج الأربعة إلى اتخاذ هذا الموقف شديد الحده وربما غير المتوقع.
الوضع في لبنان معقد ولا يمكن تحميل حزب الله فقط مسئولية الانهيار السياسي والاقتصادي الذي تعرفه البلاد وتجاهل دور باقي أمراء الحرب والطوائف، إلا أن ذلك لا يعطيه حق ممارسة “فائض القوة” على باقي المكونات اللبنانية، وتوظيف قوته العسكرية من أجل الهيمنة على القرار السياسي والعسكري داخل البلاد.
يقينا صيغة لبنان لا تحتمل إقصاء حزب الله، لأن هذا سيعني في الوقت الحالي نهاية السلم الأهلي ودخول البلاد في اقتتال مدمر، لكنها تحتمل خلخلة جانب من الحاضنة الشعبية له، فلا يمكن اختزال الشيعة في حزبين لديهما تقريبا نفس المواقف في السياسة الداخلية (حزب الله وحركة أمل)، فالسنة مختلفون سياسيا وأيدلوجيا، وكذلك المسيحيون، وحتى شيعة العراق مختلفون داخل تيارات متنافسة وأحيانا متصارعة، أما في لبنان فإن اختطاف طائفة لصالح حزب هو أمر لا يمكن تصوره أو قبوله.
يبقى السؤال المطروح هل خطوة دول الخليج الأربعة ستساعد القوى المناوئة لحزب الله في أن تحصل على مكاسب سياسية، وأن تحاصر الحزب وتستقطب جانبا من حاضنته الشعبية؟ أم إنها ستدفع لبنان إلى الوقوع فريسة هيمنة الحلف الإيراني؟ يقينا تركيبة لبنان الاجتماعية والسياسية هي أقرب للنموذج الخليجي والغربي وبعيدة عن النموذج الإيراني، ومع ذلك فإن حضور مشروع حزب الله يرجع في جانب رئيسي منه لضعف أداء العالم العربي في مجمله وليس أساسا قوة المشروع الإيراني.
يقينا “الصديق الأمريكي” مشغول بملفات أخرى أكثر إلحاحا بالنسبة له من الملف اللبناني، وستجعل الاستعانة به غير منجدة في الوقت الحالي خاصة في حال وقع مع إيران على اتفاق نووي، فإن ذلك سيعني تسامحه مع نفوذها طالما لم يهدد إسرائيل، وتصبح أهمية الدور العربي والخليجي حاسمة في لبنان لأنها ستكون مباراة نفوذ بين طرف عربي يمتلك أوراق كثيرة لكنه عطل أو أهدر بعضها وطرف إيراني وظف ورقته (حزب الله والمقاومة التي كانت) بشكل متماسك.
توازنات لبنان هشة، والخلافات السياسية والانقسام الطائفي لازال يحكم صيغته، ولكن يبقى على الجميع مسئولية الحفاظ على سلم البلد الأهلي وعدم اتخاذ أي خطوة من شأنها تقويضه.