تركت التغيرات المناخية آثارًا سلبية وخيمة على أنحاء العالم، ودفعت البشرية للتفكير جديًا في وقف نزيف الخسائر. لكن أكثرها ضررًا تلك المتعلقة بالمأكل والمشرب، وتهدد بـ مجاعات في مناطق نائية.
في مصر أرسلت التغيرات المناخية إنذارات خلال السنوات الماضية، حين وجد الفلاحون أضرارًا بالمحاصيل الزراعية من دون أن يعرفوا ماذا يقصد العالم بالتغير المناخي. لعل أبرز هذه التداعيات في محاصيل الحبوب وأنواع من الخضراوات والفاكهة، كما حدث لموسم المانجو الأخير.
وتقود التغيرات المناخية إلى تغيير في معادلة الأمن الغذائي العالمي، من خلال انخفاض إنتاج المحاصيل والثروة الحيوانية. ومن ثمّ ارتفاع أسعار المواد الغذائية، الناتجة عن زيادة تكاليف الإنتاج. وهو بدوره يقود بالضرورة إلى حدوث تغير في مراكز إنتاج الغذاء على مستوى العالم.
إنذارات وتحذيرات
أمام مؤتمر المناخ في غلاسكو، ألقى رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، بكلمات صادمة أمام قادة العالم. حين قال: “نحن نعلم ما يخبرنا به العلماء وتعلمنا ألا نتجاهلهم (العلماء).. 4 درجات ونقول وداعا لمدن بأكملها، ميامي، الإسكندرية، شانغهاي، جميعها ستغرق تحت المياه وكلما فشلنا أكثر بالتعامل ازداد الأمر سوءا”.
كلمات جونسون لقيت صدى في مصر، هل ستغرق الإسكندرية؟ وبخلاف المياه، ما أضرار حرارة الشمس. وتداعيات أخرى في دلتا النيل، وما موقع الأمن الغذائي لمصر من هذه التطورات؟
محمد غانم، المتحدث باسم وزارة الري المصرية، عقّب على تصريحات جونسون في مداخلة هاتفيه على قناة “صدى البلد”، بأن مصر رصدت فعلاً هذه التغيرات المناخية القوية، والتي لها تأثير على ارتفاع منسوب مياه سطح البحر.
غانم قال إن الحكومة لا تنتظر وقوع المشكلة ثم تتحرك، متابعًا: “في تغيرات مناخية أصبحت شديدة القسوة وشديدة التطرف في مصر والعالم كله.. بالتالي إحنا عارفين إن في تغيرات مناخية قوية بتحصل.. وبالفعل إحنا من المشاريع الي بدأناها قبل سنوات كان مشاريع حماية الشواطئ”.
حدود الخطر
دلتا النيل في مصر مهددة بالغرق تمامًا ومصنفة ضمن ثلاثة مناطق هي الأكثر تعرضًا للخطر. وذلك بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر، ويهدد ذلك 6 ملايين فدان هي مساحة الزمام الزراعي بمحافظات الوجه البحري. كما تعاني الأراضي الزراعية في مصر من زيادة نسب التملح من غزو مياه البحار لليابسة. بسبب الاستخدام المفرط للمياه الجوفية الغير متجددة.
ومصر من الدول التي تأثرت بالتغيرات المناخية بشكل أسرع من المتوقع. وجاءت مبكرة عشر سنوات على الأقل عن توقعات العلماء. وانعكس ذلك علي إنتاجية المحاصيل الزراعية، وهو ما يهدد الأمن الغذائي للبلاد التي تستورد 33 مليون طن من المنتجات الزراعية والغذائية سنويًا.
ونسب نائب رئيس شعبة الخضراوات والفاكهة، حاتم نجيب، أزمات نقص السلع الأخيرة في القطاع إلى التغيرات المناخية. وأكد أن هناك عددًا من المحاصيل، من بينها المانجو والبطاطس تلفت في الأرض بسبب ارتفاع درجات الحرارة عن المعتاد. واعتبر نجيب، في تصريح لـ”مصر 360″، أن الوضع تطور سلبًا خلال العام الجاري، وتم تدارك جانب منه بالسلع الغذائية المصنعة.
وباستثناء شريط ضيق حول نهر النيل مساحته 4% فقط من البلاد، فإن مصر تقع في منطقة جافة من العالم. ولا تتجاوز معدلات المطر 100 ملمتر إلا في مناطق الساحل الشمالي. وظل الطقس بها مستقرًا لآلاف السنين بين فصلين متنوعين بارد شتاءً وحار صيفا.
لكن التغير المناخي في السنوات الأخيرة دفع بالطقس إلى التشوّه. في ظل التقلبات الحادة والمفاجئة، من الأمطار الغزيرة في أوقات غير متوقعة، وسيول جارفة في مناطق جنوب الصعيد والبحر الأحمر وسيناء. ثم موجات شديدة الحرارة لفترات طويلة، لعل أبرزها يوم 22 مايو الماضي حينما سجلت درجة الحرارة نحو 50 درجة مئوية. هي أعلى درجة حرارة على كوكب الأرض في ذلك اليوم.
القطاع الزراعي يحصد تأثير التغيرات المناخية
وتأثرت الزراعة المصرية بموجات الطقس المتقلبة وغير المتوقعة، وفقًا لبيانات مركز البحوث الزراعية لعام 2021. حيث انخفض إنتاج الزيتون بنسبة تتراوح بين 60 إلى 80% في الموسم الأخير ليبلغ بين 100 و200 ألف طن. وذلك بدلاً من 690 ألف طن كانت متوقعة، لتفقد مصر موقعها كأكبر مصدر للزيتون والزيت في العالم.
كذلك تأثر موسم المانجو هذا العام بانخفاض الإنتاج بنسبة 25% بسبب ارتفاع درجات الحرارة في شهري فبراير ومارس. وهو ما أثّر على إنتاجية الفدان لتتراجع من خمسة أطنان في العام الماضي إلى 4 فقط هذا العام.
كما تراجعت إنتاجية البطاطس بنسبة من 30 إلى 40% للفدان، والقمح بنسبة بين 40 و 50%. وذلك بسبب موجات الحرارة غير المتوقعة والتي تتسبب في عدم دخول النباتات مرحلة الازهار والتي تحتاج إلى نسبة من البرودة لتزهر. فقط المحاصيل الصيفية مثل القطن والأرز والذرة لم تتأثر لارتباطها بالطقس الحار.
ويرى نقيب الفلاحين، حسين أبو صدام أن الكثير من المزارعين هذا العام تعرضوا لخسارة كبير. ورغم تأكيده على وجود خلل ناتج عن التغيرات المناخية، إلا أن البعض في تقديره استغل موجة الاهتمام الكبيرة والزخم حول هذا الأمر لجني مزيد من المكاسب برفع الأسعار لسلع لم تتأثر بتغير حالة الجو المفاجئة.
وساهم ارتفاع درجات الحرارة في تكاثر الحشرات بأعداد هددت الكثير من المحاصيل، مثل نطاط الأوراق والذبابة البيضاء والمن. وهي حشرات ناقلة للفيروسات سببت مشكلات كبيرة لمحصول البطاطس والطماطم والقطن في العام الماضي. وكذلك انتشار مرض الصدأ الأصفر للقمح في الموسم الماضي،
ماذا فعلت الحكومة لمواجهة التغيرات المناخية؟
تعمل الحكومة في اتجاهات مختلفة لمواجهة تأثيرات التغير المناخي. بدأت بتكثيف التوعية للمزارعين عن مواعيد بداية المواسم الزراعية، والتي يجب أن تتغير وفقا لتوقعات الطقس. ولم تعد ثابتة مثلما كان متعارف عليها.
كما وضعت خطة شملت تبطين الترع والقنوات لوقف تسرب المياه وفقد كميات منها. ويخطط المشروع لتبطين نحو 20 ألف كيلومتر من الترع وهو ما يعد الأكبر في العالم.
كما بدأت الحكومة قبل سنوات مشروع رفع كفاءة الري في الأراضي الزراعية باستخدام الري بالتنقيط والرش. وهو ما ساهم في توفير المياه لنحو 50% من مدخلات الإنتاج الزراعي في الأراضي المطورة.
وأحد أهم المشروعات للمواجهة أيضًا هو “إعادة استخدام المياه” والذي وصلت فيه مصر إلى مراحل متقدمة. و33% من المياه يعاد استخدامها وتشمل مياه الصرف الزراعي والصحي. كما تم توصيل جزء كبير منها لسيناء. ويستهدف المشروع الوصول بتلك النسبة إلى 40% بعد الانتهاء من مشروع إعادة استخدام المياه بالمنطقة الغربية. والذي ستستخدم لري مناطق الدلتا الجديدة.
كما تعمل مراكز البحوث الزراعية المصرية منذ سنوات على استنباط سلالات جديدة من المحاصيل تحتمل درجات الحرارة العالية ونقص المياه. ونجحت في جعل إنتاجية الأرز المصري للفدان الأعلى في العالم والتي بلغت 10 أطنان في الهكتار.
“الدلتا الجديدة” بارقة الأمل
تعمل الحكومة منذ سنوات على تطوير مساحات زارعية بديلة لتلك التي تتعرض لتدهور مستمر بسبب التملح وارتفاع مستوى مياه البحر. ويعد مشروع “الدلتا الجديدة” في المنطقة الغربية واحدًا من أهم المساحات التي يتم العمل على تطويرها مؤخرا. يستهدف تنمية 2.2 مليون فدان صالحة للزراعة بالمنطقة، تعتمد على أساليب الري الحديث وإعادة استخدام وتدوير المياه. واستخدام سلالات مقاومة للجفاف والحرارة من المحاصيل الزراعية، وتطوير منظومة للتصنيع الغذائي.
ويعتبر نقيب الفلاحين حسين أبو صدام هذا المشروع نافذة جديدة تساهم في رفع القيمة المضافة للمنتجات بدلاً من توريدها كخامات. وهو ما يساعد على المساهمة في تعويض نقص إنتاجية المناطق الزراعية القديمة. وتعديل وضع التصدير لأسواق العالم، بهدف خلق موازنة مع ما تستورده مصر من المنتجات الزراعية والغذائية.