نشرت كتابات كثيرة من عدة زوايا عن الفيلسوف الكبير الراحل حسن حنفي (1935 – 2021). وهو مفكر مصريّ، وأستاذ جامعي. يُعدّ واحدًا من منظّري تيار اليسار الإسلاميّ وتيار علم الاستغراب. إلا أن أحد أهم هذه الكتابات كان للدكتور القس عيد صلاح راعي الكنيسة الإنجيلية في عين شمس. وذلك في دراسة غير منشورة، كشفت أن الدكتور حسن قدم تفسيرًا للإنجيل في كتابه «ظاهريات التأويل: محاولة في تفسير وجوديّ للعهد الجديد».
الكتاب يضم 566 صفحة من القطع المتوسط، وقد صدر في القاهرة عن مكتبة مدبولي عام 2013. وحسب رأى القس عيد فإن الدكتور حسن يعتبر –بهذا الكتاب– أول مُفَسِّر مصريّ مسلم -في تاريخ العلاقة الإسلاميّة المسيحيّة- يقترب من نصّ الإنجيل قراءةً وتفسيرًا. في الوقت الذي لم يتعرَّض كاتب مصريّ أو عربيّ مسيحيّ آخر ليفسر العهد الجديد كله. وذلك بخلاف المحاولات التي قام بها رجال الدين المسيحي، من أمثلة الأب بولس الفغالي، والأب متى المسكين، والأب تادرس يعقوب ملطي، والقسّ إبراهيم سعيد، والقسّ غبريال غبريال رزق الله. وكلهم قدموا مجهودات واضحة، لكنها غير مكتملة.
التصنيف هنا لكونه مسلمًا ليس من قبيل التمييز الدينيّ، أو التصنيف المذهبيّ. بل من قبيل التميز والتفرد الذي قام به مختلفًا عن التيار السائد.
نظرة حسن حنفي النقدية
في إهدائه للكتاب، يقول حنفي «من أجل نظرة نقديّة للنصّ الدينيّ». ويقول أيضًا في تصديره للكتاب إن ظاهرة التأويل هي الجزء الثاني من الرسالة التكميلية من «ظاهريات التأويل»، التي تمت مناقشتها في السربون في 18 يونيو 1966. وهو تطبيق للمنهج الظاهر يأتي في نص العهد الجديد. كما تم تطبيقه من قبل في مناهج التأويل. وهو «محاولة لإعادة بناء أصول الفقه».
وقد أعيدت كتابته بعد ما يقرب من خمسة وثلاثين عامًا من كتاب «من النصّ إلى الواقع». وذلك في جزأين: الأول «تكوين النصّ»، والثاني «بنية النصّ». وتمثل أيضًا ظاهريات التأويل تطبيقًا لنظرية الوعي الثلاثي: الوعي التاريخيّ، والوعي النظريّ، والوعي العمليّ، التي تم اكتشافها في مناهج التأويل.
تقييم «ظاهريات تأويل» حسن حنفي
عن التفسير وتقيمه له، يقول القس عيد إن حسن حنفي يبني تفسيره على العلاقة بين ظاهريات التأويل ومناهج التأويل. ويمثل الموضوعان كما يقول: طريقتين لتناول الفلسفة الحضاريّة. ففي مناهج التأويل، استعيرت لغة الفلسفة الأوروبيّة من أجل التعبير من خلالها عن مضمون حضارة أخرى. وفي ظاهريات التأويل أُستعير مخطط علم من هذه الحضارة من أجل عرض علم مواز في الحضارة الأوروبيّة. ويبني تفسيره لهذه العلاقة -في مقدمة طويلة- على ثلاثة أبعاد: الحضارية، والأكاديميّة، العمليّة.
على سبيل المثال يذكر د. حنفي أنَّ العلاقة الحضاريّة تبنى على اللغة، والغرض، وقضايا النقد التاريخيّ، وقضايا الفهم النظريّ، وقضايا أنماط السلوك. ثم يفرد أبواب خاصة لتفسير الأبعاد الثلاثة: التاريخيّة، والنظريّة، والعمليّة. ويقترب من النصّ الديني ويفسره في ضوء النظرية التي تبناها. وظاهريات التأويل في فكر حسن حنفي تُبنى على تحليل النصّ باعتباره خبرة معاشة وتجربة مشتركة.
يقول د. حنفي: تقدم الأبعاد الثلاثة للحقيقة القسّمة الثلاثيّة إلى صورة ومضمون وموضوعيّة. إذ تنتمي الحقيقة كصحة تاريخيّة لنصّ إلى الصورة. كما تنتمي الحقيقة كتطابق بين معنى النصّ ودلالة خبرة في الحياة اليوميّة إلى المضمون. وتنتمي الحقيقة كتحقيق فعلي لمعنى النصّ كنظام مثالي للعالم إلى الموضوعيّة. وهي قسمة ثلاثيّة لها قيمتها لقسمة الشعور إلى أبعاده الثلاثة. فلكل تاريخيّ أو نظريّ أو عمليّ صورته ومضمونه وموضوعيته.
تفرد تفسير حسن حنفي
تفرد هذا التفسير يكمن في أنَّه مبني على نظرية تبناها د. حسن حنفي في تفسيره للنصّ الدينيّ، برؤية مختلفة عن كافة المفاهيم التفسيريّة، التي تبناها المسيحيّون عبر تاريخهم لتفسير للكتاب المقدَّس. إذ يأتي التفسير في سياق القرينة العربيّة بأدوات وفكر التفكير الحداثي. ويٌحسَبُ للدكتور حسن حنفي الاقتراب من النصّ الدينيّ المسيحيّ، وتفسيره وفق أسَّس ومبادئ قد وضعها في مشروعه التفسيريّ. وهو أول مُفَسِّر مسلم يقترب من النصّ الدينيّ المسيحيّ. وذلك في مشروع يجب أن يدرس ويبني عليه.
هنا، يوضح القس عيد حقيقة أن هناك محاولات سابقة في كتب التراث، ولا سيما في كتب الرد على النصّارى، تناولت بعض النصّوص من الكتاب المقدَّس. لكن لم تقدم صورة تفسيرية مكتملة: مثل ما ظهر في مشروع حسن حنفي في هذا الكتاب المشار إليه.
إن المقدَّمات التي كتبها وتصدرت الكتاب لشرح نظريته في التفسير، والتعليقات التي في الحواشي، ومتن الكتاب، مع المراجع التي رجع لها، تبين أننا أمام شخص موسوعيّ له معرفة غنية وثرية، وأنَّ سلاح العلم والمعرفة يحصن تابعيه ويميزهم، وفق القس عيد.
نماذج للتفسير
من أمثلة تفسير الكتاب المقدس لدى حنفي، عرض القس عيد لنموذجين، هما: شرحه لرسالة يهوذا. ثم رؤيته لأمثال المسيح. وهو لم يتتبع تفسير الإنجيلية بطريقة منظمة شارحة النص، ويكتب عليه الشرح. لكن غلب على شرحه النظرة الموضوعية. وقد توسع في المقدمات كثيرًا.
النموذج الأول: رسالة يهوذا
يتناول رسالة يهوذا بنظرة شاملة، فيقول: الرسالة ملحمة خطابيّة ضد ما يُسَمِّيه المؤلف «العلماء المزيفين» أي الغنوصيين. وهو نصّ مثل غيره من النصّوص في نفس الموضوع منذ ظهور الغنوصيّة واعتباراها هرطقة. ويستدعي المؤلف وعظ الحواريين، ما يدل على الوعي الجماعيّ أو بلغة حديثة على الوعظ الجماهيري. وتستمر اللغة العقائديّة بنفس المصطلحات الفنيّة. (ص 276).
وبلغة إحصائيّة، يعلق المؤلف على رسالة يهوذا في الهوامش، فيعلق: اُستعمل لفظ «يسوع المسيح» ست مرات، ولفظ «الرب» أربع مرات، ولفظ «الله» ثلاث مرات، ولفظ «آب» و«الروح القدس» كل منهما مرة واحدة. كما ذكرت الألفاظ الخياليّة مثل «الملائكة»، رئيس الملائكة «ميخائيل» و«الشيطان» كل منها مرة واحدة (يهوذا 1، 4- 6، 9، 19- 20، 25) (هامش 7، ص 276).
النموذج الثاني: نظرة لأمثال المسيح
أما النموذج الثاني، ففي تفسيره لأمثال المسيح، يأتي على ذلك في سياق الحديث عن علاقة النصّ المقدَّس بالكيان الإنسانيّ. ويقول: النصّ المقدَّس، لغة وصورة، يحيل إلى الكائن الإنسانيّ. والمعنى المفهوم من النصّ ابتداءً من المبادئ اللغويّة هو وصف وجود للكائن الإنسانيّ أو بتعبير أفضل التحليل الوجوديّ. فبعد الفهم يبدأ التأويل. (ص 502). ثم يدخل مباشرة في تأويل الأمثال تحت عنوان فرعي أسماه «باذر الحَب».
باذر الحَب
وتطبيقًا لذلك في تناوله لمثل الزارع الوارد في (متى 13: 18- 23؛ مرقس 4: 4: 13- 20؛ لوقا 8: 2- 5) قد شرح ما أسماه بمثل «باذر الحب». إذ يتم فهم معنى النصّ في القلب، أي الشعور. القول هو البذر في الشعور على مستويات مختلفة من العمق. مجرد السماع دون انتباه هو البذر على مستوى الطريق. والسمع مع الانتباه دون التزام الفعلي هو البذر بلا جذور. والعمل إذن هو جذر القول، والسمع مع الانتباه مع الالتزام المهموم بالحياة الدنيا. هو البذر الذي يعطي الفواكه بالشوك. الالتزام هو طريق كسب الخلود. وأخيرًا السمع مع الانتباه مع الالتزام المطلق هو البذر في الأرض الطيبة. ويؤدي المعنى الحي للنصّ في الشعور إلى بنية خاصة للكيان الإنسانيّ التي تتأكد ماهيته في فلسفة البذر والكمون والطفرة والتطور والنضج. وإذا كان البذر مخبأ في البداية فإنه ينكشف منذ ظهوره بالفعل. (ص 504).
ويربط د. حنفي في تناوله وتفسيره بصورة عامه لمثل باذر الحَب بما ورد في أمثال أخرى. فيقول: أحيانًا لا ينتهي المخبأ إلى النضج أو الظهور، ويظل كجوهرة ثمينة (أمثال الكنز والجوهرة الثمينة متى 13: 44- 46). وهناك أيضًا البذر الذي ينبت تلقائيًا أي القول الذي يعمل بقوته الحركية الداخلية (مثل الحب الذي ينبت دون وضع اليد عليه (مرقص 4: 19- 26). ويخاطر البذر الجيد بالاختلاط بالحَب الردئ مما يتطلب التصفية والاختبار (مثل الشليم في حقل القمح (متى 13: 24؛ شرح مثل الشليم متى 13: 37- 43؛ مثل الشبكة متى 13: 47- 50؛ سيد المنزل الطيب متى 13: 51.). وتتشابه كل مجموعة مع الأخرى من نفس التنوع (حيث توجد الجيفة تجتمع النسور (متى 22: 28؛ لوقا 17: 37).
ماهية الإنسان في باذر الحَب
وينتهي البذر إلى النضج (مثل حبة الخردل متى 13: 31- 32؛ لوقا 13: 18- 19؛ مثل الخميرة (متى 13: 33؛ لوقا 13: 20). ولا يظل سالبًا. ماهية البذر هي الإنتاج (مثل المناجم والموهبين (متى 25: 14؛ لوقا 19: 12- 27). والبذر دون انتاج لا فائدة منه (شجرة التين الملعون متى 21: 19؛ مرقس 11: 14). والنضج في حاجة إلى زمان وتترك شجرة التين الخصبة عامًا كي تطرح الفواكه بدلاً من نزعها (مثل شجرة التين التي لا تطرح تترك لمدة عام (لوقا 13: 6- 9). ويستحيل زرع البذر في وعي شيء (احترسوا من خمير الفريسيين والصدوقيين (متى 16: 6- 11؛ مرقص 8: 15؛ لوقا 12: 1). والحصاد صورة كنز ليس في الأرض بل في الروح (مثل الغني الذي أنتجت أرضه الكثير لوقا 12: 16- 21). ويفترض البذر الباذر، والعنب زارع العنب، والحقل والراعي والخادم السيد. (ص 504- 505).
ويواصل شرحه بالقول: تفترض فلسفة البذر الجهد والعمل (مثل الدائن القاسي (متى 27: 23- 25). وتكشف عن ماهية الإنسان كفاعل وعامل. وإذا كان البذار في الأرض الطيبة هي الصورة العيانية للقول في الشعور الطيب، فإن الخادم السيد هما الصورة العيانية لعلاقة الإنسان بالله. فالإنسان موجود أيضًا في الحقل أما الله. إنه عن حق راعي الوجود. (ص 504- 505). (ما بين القوسين في هذه الفقرة هو من الهوامش وضعت بنفس المسميات التي وضعها دكتور حسن حنفي لشرح ما رود بها في المتن).
محاولة حسن حنفي تفتح الباب لفهم الآخر
ويقيم القس عيد صلاح تفسير الدكتور حسن للإنجيل. فيقول: هي تجربة فريدة من نوعها ومتميزة قام بها دكتور حسن. ناصحًا بدراستها والاقتراب منها والبناء عليها. وهي تجربة شاهدة على التعدّدية والتنوع. كما أنها محاولة لفهم النصّ الدينيّ لدى الآخر المختلف، وهي جيدة طالما تقف على أسَّس علمية. ففي هذه المساحة يمكن لمسيحيّ الاقتراب من النصّ الديني القرآني ليحاول تفسيره وفق الأسّس والمبادئ التفسيريّة. ما يعطي ثراءً للمعرفة، ورؤية أوسع للآخر، وفهم أعمق للمعنى. بما تنتفي معه مساحة الجهل والتخوف من الآخر، ويزيد ويدعم من الوحدة واللحمة الوطنيّة، إذ أن الإنسان عدو لما يجهل.
في تجربة مقابلة، يذكر القس عيد «التفسير المسيحيّ للقرآن من القرن الثامن حتى القرن الثاني عشر» الذي كتبه الآب بولس الخوري وصدر في بيروت عن دار النشر البولسيّة، عام 2002. ويأتي هذا الكتاب ضمن هذه السلسلة «المسيحيّة والإسلام في الحوار والتعاون». وهي سلسلة حواريّة أسَّسها ويُشرف عليها البروفسّور عادل تيودور خوري. ويأتي وصف هذا الكتاب المشار إليه في المجادلات اللاهوتيّة التي جرت بين المسيحيين والمسلمين من القرن الثامن حتى القرن الثاني عشر. وقد حاول كل من الطرفين استخراج البرهان على صحة معتقده من كتاب الطرف الآخر.
فكما سعى المجادلون المسيحيّون العرب إلى استخراج الدليل على يسوع المسيح من كتاب اليهود، سعوا أيضًا إلى استخراج الدليل على صحة الدين المسيحيّ من القرآن. أي على صحة الوحي المسيحيّ وصحة اعتقادهم بتثليث الإله الواحد وبتجسّد كلمة الله. تلك هي المواضيع الثلاثة الرئيسيّة التي حاول التفسير المسيحيّ للقرآن التدليل عليها.
هي تجربة غير مكتملة لتفسير القرآن، مثلها مثل ما ورد في التفسير الإسلاميّ لبعض نصّوص الكتاب المقدَّس، كما وردت في كتب الرد على النصارى. وقد حان الوقت للخروج من زمن المجادلات الفكريّة والرؤى الدفاعيّة (ظاهرة كتب الرد على النصارى في الفكر الإسلاميّ وكتب البرهان والإيضاح من الجانب المسيحيّ) إلى محاولة فهم الآخر. وبخاصة النصّوص الدينيّة المؤسِّسة للإيمان والعقيدة، والتي منها يكون الحياة السلوك، الفكر والعمل.
الفلسفة التي يجب أن تنعش التفكير الديني
يبين نموذج حسن حنفي وأساتذته وتلاميذه ومن يسير على دربه لنا أنَّ الفلسفة تنعش التفكير الدينيّ. فيستفيد الدين من الفلسفة كثيرًا. وقد استوعب كل من علم الكلام واللاهوت الفلسفة واستفاد منها. فلا توجد خصومة بين علم اللاهوت وعلم الكلام والفلسفة أو أي نوع من العلوم المعرفيّة، ولا ينبغي افتعال خصومة، وفق القس عيد.
وفي الختام، يؤكد القس عيد أن كتاب «ظاهريات التأويل محاولة في تفسير وجودي للعهد الجديد» يحتاج إلى دراسة. فهو تجربة جديرة بالدراسة وتستحق الإشادة، ومع ذلك يرى أن الدكتور حسن حنفي لم يتتبع فيها تفسير النصّ بنسق واضح، كما هو متبع في التفسير الكلمة للنصّوص الدينيّة. لكنه فسَّر النصّوص على حسب الموضوعات. وحاول تطبيق نظريّة الإسناد، والتواتر، والآحاد، المتبعة في علم الحديث على نصّوص الإنجيل، ففرَّق بين الصحابي (تلاميذ المسيح والتابعين تلاميذ التلاميذ). وهذا يقود إلى الشك في نسبة النصّوص لأصحابها. وبالتالي إلى مصداقيتها. وهو أمر استقر عليه البحث في هذا المجال بالنظر إلى الكتاب المقدّس كوحدة واحدة ونصّ مؤتمن يُشَكِّل فكر ووعي الكنيسة والإيمان المسيحيّ.