قبل أسابيع، شهد أحد الكومباوندات الفاخرة بمصر نقاشات افتراضية حادة لمعالجة مشكلات تؤرق قاطنيه. تفجرت جراء سقوط أوراق الأشجار في فصل الخريف، وعدم عثور أحد القاطنين على مكان لركن سياراته الخمسة، وشكوى الجيران من صف عدد منها أمام ممتلكاتهم. فارضةً سؤالاً مهمًا حول الطبقية بين أفراد الفئة «الإيليت» في مصر. والتي لا تعرف نقاشاتها وربما تسخر منها فئة سكان العديد من القرى والمناطق الشعبية، تحت معاناة انقطاعات مياه الشرب وطفح الصرف وانتشار القمامة والكلاب الضالة.
متى ظهرت المجتمعات المغلقة (الكومبوندات)؟
ظهرت المجتمعات المغلقة في البداية كمجتمع للطبقات محدودة ومتوسطة الدخل في الثمانينيات. خصوصًا مدينة الشيخ زايد، التي سُميت تيمنًا بمنحة مالية إماراتية لبناء مدينة تناسب محدودي الدخل ومساعدة الشباب حديث الزواج. قبل أن تتحول بمرور الوقت لسكن الأثرياء والطبقة فوق المتوسطة.
مع نهاية التسعينيات، اكتسبت الكومبوندات منحى آخر بإنشاء قرية «مارينا العلمين» التي تم تأسيسها بالساحل الشمالي، كمجتمع ساحلي متكامل للأغنياء، يقضون فيه شهرًا كل عام. فيستقبلون الزوار الأثرياء من الخارج، لقضاء إجازاتهم، بشرط قدرتهم المالية على الدفع.
توسعت الفكرة مع رغبة قطاع من الأثرياء الانعزال المجتمعي عن الأحياء القديمة الراقية، بعدما أحاطتها العشوائيات. ومنها المهندسين والزمالك وغيرهما، التي اتجه أصحابها بالتعاون مع المطورين العقاريين نحو المدن الجديدة في شرق وغرب القاهرة. تلك المدن التي تم تخطيطها بأقصى درجات الخصوصية والأمان لتمنح مالكيها نوعًا من الفخامة.
اتسعت فكرة الخصوصية والرقمنة كثيرًا لدرجة منع دخول الغرباء إلا بأذن من صاحب العقار المقصود. وأيضًا منع دخول آلات تصوير معهم. بالإضافة إلى تخصيص بوابات بعينها للزائرين بعيدًا عن السكان. مع تحقيق أقصى استفادة من استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة. مثل الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR)، والذكاء الاصطناعي (AI)، وتقنية (بلوك تشين).
في رمضان الماضي، ركزت شركة عقارات شهيرة حملتها الدعائية على العلاقة العاطفية بين كلبي أسرتين تعيشان في الكومبوند ذاته. وهي حملة إعلانية تأتي بعد عام من حملة أخرى لشركة عريقة صبت اهتمامها على وجود صنفين من البشر أحدهما يعيش بالداخل، والآخر مقيم بالخارج.
الطبقية بين قاطني الكومبوندات
في المقابل، تزايدت الطبقية حتى بين قاطني الكومبوندات الفاخرة، فظهر التنمر بين أفراد هذه الطبقة الراقية، في انتقاد كم الخدمات المتاحة. خاصة الخدمات الإلكترونية من بوابات ذكية، وتقنيات تعرف على الوجوه، ونوعيات الجامعات والمدارس وتصنيفاتها ودرجاتها وعراقتها.
أحمد محمود، موظف كبير ببنك خليجي وأحد قاطني الشيخ زايد، يقول إن التنمر يصل في المجتمعات المغلقة إلى تباهي بعض الطلاب بوجود سائق خاص يوصلهم بسيارة خاصة للمدرسة، عكس الطلاب الذين يتم توصيلهم بأتوبيسات المدرسة أو عبر سيارات الأسرة. وهو يضيف أن المجتمعات الراقية أصبحت تتضمن داخلها شرائح مالية حتى بين الطبقة الغنية ذاتها.
وتركز الشركات العقارية في الحملات الدعائية على أفكار الخصوصية وغياب المشكلات. لكنها تُجر كثيًرا لإثارة الطبقية. ذلك بالتأكيد على قيم «مش أي حد يسكن في…»، أو «الناس هنا شبه بعض»، أو المقارنة بينها وبين العشوائيات أو حتى المساكن الراقية على النيل من ناحية الهدوء الذي يتفقره الكورنيش الصاخب بالمراكب الراقصة. أو إظهار تهالك البناء في الأحياء العريقة، بالأسقف التي تسقط منها الرمل على أدمغة قاطنيها، كما لو كانت منازلاً من طوب لبن.
اﺧﺗﻼف وتنوع النمط السكني باﻟوﺣدات السكنية داﺧل المشروعات المغلقة بصورة كبيرة ﻣن ﻓﯾﻼت ﻣﻧﻔﺻﻟﺔ وﻣﺗﺻﻟﺔ وﻋﻣﺎرات سكنية ﻣﺧﺗﻟﻔﺔ اﻟﻣﺳﺎﺣﺎت ﻣن 60 مترًا حتى 250 مترًا وبنتاوس وبنتهاوس وبيتاوس، ﮐﺎن له أﺛر ﻓﻲ اختلاف اﻟﺗﺻﻣﯾمات اﻟﺣﺿرية ﻣن منطقة ﻷﺧرى وزيادة مساحة لطبقية بين قاطنيها.
هل الطبقية محفورة في مصر؟
ربما كان تنمر بعض ساكني المجتمعات المغلقة نابعًا من أسباب نفسية داخلهم في المقام الأول. وكان لهذه الأسباب عامل في اختيارهم للمكان الذي يقيمون به. وذلك ظاهرًا في دراسة نُشرت حديثًا عن أحد الكومباوندات السكنية التي أبدى القاطنون فيها عدم رضاهم عن «ضياع التميز والهيبة واحترام الآخرين»، بعد بناء مجتمعات مغلقة في أماكن أخرى تتضمن المزايا ذاتها التي يملكونها.
تفتقر الأحياء المصرية باستمرار للقيم الكوزومبوليتانية (تجمع جميع البشر في مجتمع واحد)، والتي اتسمت بها على مدار عقود بوجود جميع الشرائح المجتمعية في مكان واحد. وقد عززت هذه القيم من الاندماج المجتمعي والأفكار الواحدة، لصالح ما داخل الكومباوند وما خارجه.
يقول البعض إن الطبقية محفورة في مصر منذ عقود قبل ظهور فكرة الكومبوند ذاتها. وذلك في أحياء مثل الزمالك التي عارض قطنوها أي مشروع يعزز من فرص الوصول لمنطقتهم حتى لو كانت مفتوحة وليست مغلقة. بداية من مناهضة مشروع مترو الأنفاق، ثم رفض مشروع عين القاهرة السياحي الذي يرتكز على بناء مشروع عجلة دوارة بحديقة المسلة للغرض السياحي والترفيهي. وكان السبب الرئيسي الخوف من زيادة الزحام في الشوارع والتأثير على البنية التحتية.
يعتبر البعض انتشار المجمعات السكنية المشتركة المغلقة ظاهرة لمجتمعات ما بعد الحداثة، وتعبيرًا عن ثقافة العولمة الليبرالية الجديدة التي تقدس حرية الأفراد ورفضهم للشكل التقليدي للمدن. فموافقة السكان على الحياة داخل الأسوار تعني الموافقة ضمنيًا على الترتيبات التي تنظم الخدمات داخله دون الحاجة للدولة. ومنها جمع المخلفات وصيانة الطرق وإنارتها وغيرها. أي أن هذه المجمعات هي الاختيار الحر للسكان على دفع وتملك البيئة التي يسكنون فيها. وهم يعرفون جيدًا المكاسب من وراء ذلك.
في المؤتمرات العقارية التي تم عقدها أخيرًا، أكد مطورون عقاريون أن المشروعات المطروحة من قبل المطورين العقاريين لا تناسب فئات محدودة الدخل. وهي النسبة الأكبر من عدد السكان، وتمثل حوالى 60%. ويؤكد المطورون العقاريون أن الفئة المتوسطة وفوق المتوسطة مظلومة في العثور على وحدات تتماشي مع ظروفهم.
فجوة مجتمعية
سعت الحكومة لتقريب الفجوة المجتمعية المتنامية، عبر تحويل المناطق المطورة والجديدة إلى ما يشبه الكمبوند. ذلك بتسوير الأحياء السكنية بالكامل، وتوفير بعض الخدمات مثل الحدائق ونافورات المياه وأماكن للتمشية والتعليم والترفيه داخلها. حتى لو كانت محدودة العدد مقارنة بالسكن فوق المتوسط.
في مشروعات السكن البديل، ركزت الحكومة على توافر الخدمات والمرافق الأساسية من المرافق والبنية التحتية (مياه الشرب – الصرف الصحي الملائم – الكهرباء والإنارة – الاتصالات – الغاز الطبيعي). كما اتجهت لتخصيص مناطق للنقل الجماعي (العام والخاص)، لربط هذه المناطق بالأخرى المحيطة. وارتفعت بسقف تلك الخدمات أعلى في السكن المتوسط بمشروعات دار مصر التي تتضمن حراسة وأمن.
يقول محمد عادل، موظف يقطن بفيصل، إن تنامي الكومبوندات بمصر، سواء في المناطق العشوائية التي يتم تطويرها، أو المجتمعات الفاخرة، قللت من قيمة بعض الأحياء التي تضم الطبقة المتوسطة، مثل فيصل والهرم وشبرا، وفتحت مجالاً لتصنيفهم في درجات أقل.
يشكو عادل من الحالة النفسية التي تنتابه حينما يرى العروض العقارية. وهو يتحدث عن أسعار المتر، وطريقة حديث رؤساء الشركات عن الخصومات التي يقدمونها، وتصل إلى 2.5 مليون جنيه. ويتساءل: «حينما يكون الخصم 2.5 مليون جنيه.. ما قيمة الوحدة ذاتها؟».
كانت تلك الصورة دافعًا وراء ظهور إعلانات مضادة لحملات الشركات العقارية الضخمة. وقد حملت الأخيرة هذه قدرًا من السخرية على الخدمات المُقدمة في الكومبوندات، أو تغير نمط البناء في الأحياء ذاتها، باقتطاع أجزاء منها، وتحويلها لمجتمع مغلق ضيق، لا يتضمن أي خدمات سوى سور واحد فقط يضم القاطنين فيه.