بعدما وجد الليبيون أنفسهم مندفعين بسياسة الأمر الواقع نحو انتخابات مقررة نهاية العام، وسط غموض يحيط بكافة الملفات الشائكة. فإن “مؤتمر باريس” المزمع عقده في 12 نوفمبر الجاري بات فرصة أخيرة أمام اللاعبين الدوليين والإقليميين لبلورة مقاربة موحدة للأزمة.
رافق الأزمة الليبية منذ بدايتها خلاف دولي وإقليمي لا يقل حدة عن خلافات الليبيين أنفسهم إزاء مقاربات الحل. لكن النقطتين الأساسيتين حاليًا أمام المجتمع الدولي تتمثل في القدرة على صياغة موقف موحد حيال ملفي الانتخابات وإخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب.
التوقعات لا تشي بتفاؤل إزاء ملف المقاتلين الأجانب، خاصة أن تركيا وهي أحد أكثر المعنيين بهذا الملف لاتنوي حضور الفاعلية. وهو ما يطرح تساؤلات عديدة بشأن: هل القوى الدولية ذاهبة للتنافس في الملف الليبي أم تمتلكها نية حقيقية للمساعدة على حل الملف؟
الخلطة الفرنسية لمؤتمر باريس غامضة، ما يثير تساؤلاً آخر مفاده: ما الفرق بين مؤتمر باريس المفترض ومؤتمر برلين المنقضي؟. الجديد، وفق التصورات المطروحة، ثمة تنافسًا واضحًا يتخذ من ليبيا ملعبًا. لكن يبقى أحد أهداف المبارزين التي تمنح ورقة السيادة في هذا البلد هو القدرة على مساعدة الليبيين للعبور إلى الاستقرار.
سواء جاء الحل من برلين ألمانيا أو باريس فرنسا، فإنه لن يمر دون المتواجدين على الأرض فعليًا. وهما تركيا وروسيا على وجه التحديد، باعتبارهما أكثر المنخرطين عسكريًا في ليبيا. أما موسكو فستشارك بوفد يرأسه وزير الخارجية، لكن أنقرة أعلنت أنها لن تشارك.
منتدى الحلفاء ضد تركيا
“لا يمكننا حضور مؤتمر في باريس تشارك فيه اليونان وإسرائيل والإدارة القبرصية اليونانية”. بهذا التصريح لخّص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان السبب المباشر وراء رفض الحضور. وهو سطر يحتوي على أربعة أسباب: “في باريس”، فتركيا لن تعطي منافستها ورقة مجانية بشأن الملف الليبي. “اليونان” و”إسرائيل” و”قبرص” ثلاثة أسباب أخرى تضعهم أنقرة موضع التعذر وإن كانت أسبابا غير جوهرية.
وبالتالي يصبح مؤتمر باريس تجميعًا لكل الحلفاء ضد تركيا على طاولة واحدة. في محاولة فرنسية لتسديد لكمة إلى أنقرة في واحدة من أكثر ملفاتها حساسية. وهو ما يمكن أن يسفر عن موقف قوي ضد تركيا، وليس بالضرورة لصالح ليبيا.
لكن ثمة أسباب أخرى غير مباشرة، أبرزها أن تركيا لن تسحب قواتها أو مقاتليها من ليبيا قبل تأمين مصالحها. وهو ما يعني أن تلك الخطوة لن تحدث قبل اكتمال كافة الاستحقاقات الانتخابية، المتوقع انتهائها النصف الثاني من العام المقبل.
إجهاض مهمة فرنسا
واحدة من الرسائل التي أرادت تركيا إيصالها من رفضها المشاركة في مؤتمر باريس، هي إجهاض مهمة فرنسا. تلك الساعية لتأمين موقف دولي يقضي بإلزامية إخراج القوات الأجنبية قبل إجراء الانتخابات.
اقرأ أيضًا| القوات الأجنبية في ليبيا.. إشكاليات الترحيل وإعادة الدمج
ورغم اتفاق اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 حول خطة انسحاب منتظم ومتزامن للمرتزقة والقوات الأجنبية بإشراف دولي. لكن أحدًا من الأطراف الدولية لم يستجب للخطة، لكي يجرى تهيئة البلاد لعقد انتخابات غير فوضوية.
لذلك تركيا تبدو مصرَّة على بقاء قواتها إلى ما بعد إجراء الانتخابات. وهي النقطة المقلقة لفرنسا باعتبارها داعمة للأجسام الليبية في المنطقة الشرقية، المنافسة للأطراف المحلية في غرب البلاد المدعومين من تركيا.
التنافس التركي الفرنسي
انطلاقًا مما سبق، فإن الرفض التركي يحمل أبعادًا أكثر عمقًا، تتعلق بالعلاقة بين تركيا وفرنسا المتوترة، خاصة في المسألة الليبية. ويتبادلان الاتهامات بشأن الأوضاع في ليبيا، إذ صرحت أنقرة بمسؤولية فرنسا عن المشهد الفوضوي نتيجة دعم قوات المشير خليفة حفتر. وذلك ردًا على اتهام الرئيس الفرنسي لأنقرة بكونها متورطة في لعبة خطيرة نتيجة أنشطتها المستمرة من حيث توريد المتمردين، وانتهاك حظر الأسلحة المفروض على ليبيا.
وانخرط الطرفان في الملف الليبي في جبهتين متضادين، حيث تدعم فرنسا القوات المتمركزة في شرق ليبيا بقيادة المشير حفتر، بينما تدعم تركيا الأطراف في غرب ليبيا. فيما تدرك باريس أولوية الوصول مع تركيا نحو تسوية ملائمة لإجبارها على إخراج المسلحين من أجل دعم الاستقرار في ليبيا.
إلى جانب الخلاف حول الأزمة الليبية، هناك رصيد كافٍ من التوتر بين فرنسا وتركيا، الذي بدوره يقف حجر عثر أمام أي تسوية للملفات بينهما. إذ انتقلت المناوشات مؤخرًا بين عضوي الناتو إلى المجال البحري. حين استهدفت تركيا الفرقاطة الفرنسية “كوربيه”، وردت فرنسا بتعليق مشاركتها في عملية حارس البحر. وكذلك اختلاف مواقف البلدين إزاء الجماعات الدينية المتطرفة.
شرعنة الوجود العسكري
وبينما تحاول تركيا الهروب من المواجهة الدولية بشأن إشكالية المرتزقة. فهي في الوقت نفسه لا ترغب في إعطاء فرنسا مساحة للقيام بدور بارز في الملف الليبي. وبهذا المعنى تدرك أنقرة أن غيابها عن المؤتمر يمثل على أقل تقدير عدم اعتراف بنتائجه.
وتروج تركيا لشرعية تواجد قواتها في ليبيا بمزاعم تقديم التدريبات والاستشارات العسكرية بموجب اتفاقية تعاون أمني وعسكري وقعتها مع رئيس حكومة الوفاق السابقة فائز السراج، بمقتضاها يستند إلى عدم قانونية خضوع المسلحين الأتراك إلى مقررات مؤتمر برلين 1 و2، وكذلك الأمر بالنسبة لقرارات مجلس الأمن الخاص بوقف إطلاق النار وإخراج المقاتلين الأجانب من ليبيا.
وقال أردوغان في السابق إن بلاده ستبحث سحب قواتها من ليبيا إذا خرجت القوات الأجنبية الأخرى أولاً. لكن عادت المراوغة التركية من جانب وزارة الخارجية التي تحفظت على بنود مؤتمر برلين 2.
اقرأ أيضًا| “الحرب بالوكالة”.. السيناريو السوري يتكرر في ليبيا
وصرح المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية “تانجو بيلجيتش”: “لا يمكن المساواة بين القوات التركية الموجودة في ليبيا باتفاق مع سلطاتها من جهة، والمرتزقة الذين ينادي المجتمع الدولي بإخراجهم من جهة أخرى”.
ورصد تقرير أممي انتهاك تركيا قرار حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا. حيث تزود قواتها بالأسلحة المتقدمة لإطالة أمد الصراع. كما استصدر أردوغان قرارا من البرلمان في ديسمبر 2020 ينص على تمديد مهام القوات التركية في ليبيا لمدة 18 شهرا.
وجلبت تركيا منذ 2019 عددًا من المرتزقة يصل إلى 25 ألف مقاتل من جنسيات مختلفة. من بينهم 18 ألف سوري، مسلحين بكافة المعدات من طائرات مقاتلة ودبابات وطائرات مسيرة وأنظمة المدفعية المضادة للطائرات. كما قدمت لهم التدريبات اللازمة، لإنفاذ مخططها في ليبيا.
صراع الغاز في المتوسط
جزء من الانخراط التركي في الملف الليبي يتعلق بملف الغاز في البحر المتوسط. حيث صعدت استكشافات الطاقة شرق المتوسط المقدرة بحوالي 122 تريليون قدم مكعب خلال الفترة الأخيرة من وتيرة المنافسة الإقليمية في المنطقة. خاصة بعد تدشين منتدى غاز شرق المتوسط باستبعاد تركيا. والذي وجدته أنقرة ضربة مباشرة تجاه مصالحها، مما دفعها للرد في نوفمبر 2019، من خلال توقيع اتفاقيتي ترسيم الحدود البحرية والتنقيب عن الغاز والنفط في المياه الليبية. بالإضافة إلى إقامة منطقة اقتصادية خالصة تمتد من الساحل الجنوبي لتركيا إلى الساحل الشمالي الشرقي لليبيا. وسارعت في إصدار العديد من التراخيص لشركات التنقيب في شرق البحر المتوسط.
في هذه الأثناء، كذلك الشراكة الاستراتيجية بين باريس وأثينا من خلال صفقة 18 طائرة مقاتلة من طراز “رافال”. ومؤخرًا اتفاقية 3 فرقاطات فرنسية، ما وصفته تركيا بـ”انتهاج اليونان سياسة تسلح وعزل تركيا بدلاً من التعاون. وهو ما رأته “يسيء لها وللاتحاد الأوروبي ويهدد الاستقرار والسلام الإقليميين”.
كما تمثل عضوية قبرص في منتدى شرق المتوسط مع اليونان ومصر وإسرائيل من جهة. واستبعاد تركيا من جهة أخرى أسباب كافية بالنسبة لتركيا لتكثيف تصرفاتها العدائية تجاه قبرص. بالإضافة إلى الدعم الأوروبي الذي تحظى به قبرص الرافض لأي مقترحات تركية من شأنها تقليص حقوق القبارصة، وآخرها محادثات جنيف الأخيرة تحت مظلة الأمم المتحدة. وبالتالي؛ وجود قبرص واليونان في المؤتمر لا يمثل مصدر أمان لتركيا، سواء حيال سياستها بليبيا أو نهجها في المتوسط.
الحضور الإسرائيلي
يمثل الحضور الإسرائيلي في الملف الليبي، واحدًا من الأسباب المقلقة لتركيا، بالنظر إلى المتغيرات الإقليمية الأخيرة. ومنها اتفاقية أبراهام التي تستهدف تطبيع العلاقات العسكرية والاقتصادية بين إسرائيل ودول الخليج. والتي اعتبرتها تركيا بمثابة اتفاقية عزل وتطويق لنفوذها في الشرق الأوسط. وبالتالي رضخت تركيا نحو تغيير استراتيجيتها التصعيدية تجاه دول المقاطعة الخليجية في محاولة لإنهاء الخلاف.
كما أن تضارب المصالح فيما يخص شرق المتوسط، يعتبر من أهم ملفات الخلاف بين تركيا وإسرائيل. ويعتبر خط الغاز إيست ميد الممتد من إسرائيل إلى المياه اليونانية القبرصية، ثم عبر جزيرة كريت اليونانية، إلى أراضي اليونان، وصولا إلى أوروبا ضربة مباشرة نحو أهداف تركيا بأن تصبح مركزاً إقليمياً للطاقة.
ما مصير المؤتمر؟
السؤال الآخر المطروح: هل غياب تركيا يعني فشل المؤتمر، الذي يضع على رأس أولوياته ملف المرتزقة. هنا الإجابة تنتظر إمكانية نجاح فرصة في تأمين موقف دولي موحد ضد أنقرة، وهو ما يبدو مستبعدًا في ظل خلاف فرنسي أمريكي. لاسيما أن واشنطن تمتلك ورقة قانونها المستحدث لفرض عقوبات على الأطراف الداعمة للحرب.
اقرأ أيضًا| “برلين 2” والتواجد العسكري التركي في ليبيا.. هل تنجح مناورات أردغان؟
لكن يبقى المؤتمر فرصة لصياغة موقف فرنسي واضح إزاء الملف الليبي. وبهذا المعنى تنظر باريس إلى مؤتمرها على أنه حدث غير ضار، إن لم ينجح فلن يهز السياسة الخارجية لفرنسا. بيد أنه يمكن أن يحدد شكل المنافسة الانتخابية في الداخل، عبر تأمين مواقف داعمة لبعض المرشحين، المحسوبين مناطقيًا.
ولا يخلو الملف الليبي من منافسة دولية وإقليمية واضحة، لكن السياقات التاريخية تشير إلى أن أية فاعلية سياسية بشأن ليبيا تستضيفها دول مستفيدة من الملف يكون مصيرها الفشل، على غرار اجتماعات روما، إذا ما قورنت باجتماعات برلين، باعتبار أن ألمانيا أقل انخراطًا في الأزمة من سياق المنفعة، ذلك أن إيطاليا وفرنسا أكثر الأوروبيين اهتماما بالملف.