استطاع فيلم “ريش” اقتناص 4 جوائز من مهرجان قرطاج السينمائي بتونس، رافعا غلته من الجوائز العالمية لنحو 11. وموجها ردا حاسما على الاتهامات التي طالته خلال مهرجان الجونة السينمائي مؤخرا.
تثير الجوائز، التي نالها العمل الجامع بين الفانتازيا والواقع، جدلا حول أسباب تحفظات العاملين في حظيرة الفن المصري على السينما المستقلة. وانتقادها باستمرار رغم حفظها سمعة مصر في المحافل الفنية على مدار العقود الأخيرة.
تعاني صناعة السينما بمصر عمومًا منذ تخلت الدولة عن الإنتاج، فتراجع حجم الإنتاج من 100 فيلم سنوي بالمتوسط لما لا يقل عن 17 عملاً كثير منها تجاري بحت، لا يملك أدنى المقومات الفنية على مستوى القصة والحبكة والفكرة، ويعتمد على السخرية البدنية أو الأكشن المفكك غير المرتبط بالسياق.
وفق تقارير رسمية، فإن الفترة من عام 1983 إلى 1992 شهدت إنتاج 748 فيلما كان أعلاها عام 1986 بإنتاج 96 عملاً ثم 1989 بإنتاج 91 عملاً بل أن يتراجع الإنتاج في السنوات الثلاث الأولى من التسعينيات إلى مستوى السعبين عملاً، لتهبط مجدا لمستوى بين 15 و20 منذ مطلع الألفية الثانية.
السينما تدفع ثمن انسحاب رأس المال العربي
عانت السينما التجارية من انسحاب رأس المال العربي من الإنتاج سواء بشكل مباشر في أعمال المقاولات أو غير مباشر بالأموال. التي ضخها في شركات إنتاجية محلية والذي تسبب في رفع أجوار الممثلين. وأصبحت الشركات المحلية غير قادرة على الإنتاج فتوقفت مثل “جود نيوز” التي توقفت عن العمل. ليبقي السوق ما يقدم المنتج الضعيف على مستوى الفني فقط، حتى لو حقق أرباحًا ضخمة في شباك التذاكر.
استحدث رأس المال العربي ظاهرة بيع وشراء الأفلام على أساس اسم النجم التي لا تزال سارية حتى الآن. ما يجعل المنتج الجيد الذي يقف وراءه طاقم تمثيلي مغمور غير مطلوب على عكس المنتج الغث. الذي يقف وراءه كبار النجوم الذين انطلقوا بدورهم للدراما التي توفر عائد مالي يتراوح بين 10 و30 مليون جنيه للمسلسل الواحد.
تتسم السينما المستقلة التي بدأت كتيار شبابي منذ عام 2002. بواسطة كاميرات الديجيتال ـ وتحمل اسمها من توفيرها جرعات واسعة من الحرية للعاملين فيها بالإنتاج الغزير. وتخصصت شركات مثل «سمات» في ذلك اللون لتنتج وحدها أكثر من 100 فيلم روائي وتسجيلي قصير حصدت من خلالها نحو 30 جائزة.
ويرجع التأييد منقطع النظير لها من قبل النقاد لتلك النقطة تحديدًا فيرون فيها حلاً لجنوح الأفلام التجارية للربح فقط. دون الاهتمام بالقيمة الفنية للعمل، ما يجعلها تفقد هدفها الأساسي. ويرون فيها ما يحفظ سمعة تواجدهم في المهرجانات الدولية كمحكمين.
تعوض السينما المستقلة بناء السينما المصرية الناقص، منذ سيطرة النزعة التجارية البحتة عليها. وانحسارها في الكوميديا والأكشن أو التجربة السبكية (المنتج أحمد السبكي وعائلته)، المرتكنة على تقديم الربح على الفكرة والرسالة.
يبحث النقاد في المهرجانات الفنية عن أعمال تعبر عن روح المكان القادمة منه، وقدرات الممثلين على عكسها. وبالتالي لا تقبل بوجود أعمال مطاردات السيارات، أو قصة حب مشتعلة في حي راق تحوطه زقزقات الطيور وصوت خرير حمامات السباحة والنافورات، كما هو معتاد.
السينما المستقلة وسد الفراغ
تسد السينما المستقلة هذا الفراغ بانطلاقها بصورة مغايرة عما اعتادته العيون الأجنبية، عن معاناة البشر بالمناطق الفقيرة. ومشكلات المهمشين في الاندماج، ورغبة ذوي الاحتياجات الخاصة الدفينة في الإمساك بعجلة الحياة.
ربما ذلك الوازع الذي دفع الجمهور والنقد الأجانب التصفيق لخمسة دقائق متواصلة لفيلم “يوم الدين” لأبو بكر شوقي، رغم افتقاره لكثير من العناصر الفنية. فما يهمهم هو القصة والصورة، لمريض جذام حفر المرض ملامحه يبحث عن أسرته بصحبة طفل صعيدي ويصادفان في رحلتهما أصنافا من ذوي الاحتياجات َالفقراء. ليصبح العمل رسالة عن المهمشين بجميع صنوفهم.
قديما، كانت السينما التقليدية تقدم مضامين شبيهة قبل أن تنزوي، تجدها في فيلم الأرض الذي أحدث هزة وقت عرضه عالميا. بعلاقة الفلاح الفقير بأرضه ومقاومته الأثرياء، أو فيلم “العزيمة” الذي يتمحور عن أنماط متداخلة من الصراع بين المال والعلم.
اختفت تلك النوعية من الأعمال لاعتبارات إنتاجية ورغبة المشاهد في نسيان همومه وليس الانغماس فيها. فعوضت السينما المستقلة النقص، وركزت اهتمامها على الحارة المصرية قبل تغيراتها، وظروف المقيمين فيها ونمط حياتهم اليومي.
تاريخ بالكاميرا
في فيلم “ورد مسموم””، الذي تم ترشيحه لتمثيل مصر في مهرجان اوسكار، تأريخ بالكاميرا لمنطقة المدابغ بمصر القديمة. قبل أن يتم نقلها إلى الروبيكي قرب مدينة بدر، وإحداث نقلة جذرية في المنطقة لإحلال ماكنها القديمة بأخرى عصرية.
تحجج البعض بأن “ريش” فيلم سوداوي يسئ بسمعة مصر، لكن تلك الأعمال بريئة من التهمة فهي ترفع اسمها عاليا في مهرجانات السينما. وتظهر بشكل غير مباشر أهمية سياسة الدولة في استهداف قطاعات بعينها في خطة التنمية العمرانية والبشرية على حد سواء.
يعبر “ريش” بشكل غير مباشر عن أهمية سياسات الدولة في تمكين المرأة المعيلة ودمجها اقتصاديا ومجتمعيا. بالإشارة لبطلته التي ظلت تعاني الإذلال من زوجها وبعد تحوله لدجاجة تصبح مسؤولة عنه وعن أبنائها حتى تعمل خادمة في بيوت الأغنياء.
لا يبتعد عن تلك النقطة كثيرا فيلم (توك توك)، الذي نال جائزة أفضل فيلم روائي قصير في مهرجان “پان أفريكان” بلوس أنجلوس أخيرا. فهو عن فتاة تحاول توفير دخل لعائلتها بعد هجرة زوجها لخارج البلاد بطريقة غير شرعية. وتعمل كسائقة “توك توك” تعاني من سلبيات المجتمع من عنف وتحرش وسيطرة الذكور.
الأمر كذلك مع “ورد مسموم” فالصورة القديمة لمجرى العيون ومنطقة المدابغ. الذي يؤرخ لواقع المنطقة الذي تغير تماما من صرف صناعي وصحي يشق الطرق وحياة بائسة وسط الكيماويات وهجرة غير شرعية للهروب من الواقع. إلى وحدات سكنية مخططة وراقية حاليا ومن يزور المنطقة يمكنه بسهولة معرفة تغيراتها بمجرد رؤية العمل.
عناصر مكتملة
فاز ريش في مهرجان قرطاج بجوائز: “التانيت الذهبي” للفيلم الروائي الطويل، “الطاهر شريعة” للعمل الأوّل. وأفضل سيناريو، وفازت بطلة الفيلم دميانة نصّار، بجائزة أفضل ممثلة، ما يعني انه مكتمل في جميع جوانبه وصالح على المستوى الفني.
تواجه السينما المستقلة إشكالية في احتياجها لجمهور نخبوي يلتقط رسائلها، ولديه الدراية الكاملة بالصناعة وتطورها. وهو ما يفتقره كثيرون حتى بين الفنانين ذاتهم، وأحدهم لم يقرأ عن ريش أو يستكمل مشاهدته. وأبدى في حوار استغرابه من فوز الفيلم بأوسكار رغم أن العمل تم تكريمه في “كان” وعلى مدار التاريخ لم يصل أي عمل مصري للقائمة النهائية للترشيح من الأساس.
وقال محمد حفظي منتج “ريش”، في تصريحات تليفزيونية الاثنين، إن فوز الفيلم بجائزة في أي مهرجان يحلق باسم مصر في الخارج. والفيلم يقدم لغة سينمائية جديدة وفكرة تم تناولها بشكل سينمائي احترافي، ولجنة التحكيم في كل مهرجان “كان” أشادت به.
تتميز السينما المستقلة لانخفاض التكلفة الإنتاجية التي لا تتعدى نصف مليون جنيه. مع جرأة في عرض الفكرة كما هي دون تغييرات من المنتجين. والتعبير عن فئات سنية غير دارجة تجاريا كالشباب دون ال ١٨، وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة.
تستعين تلك الأعمال بممثلين غير معروفين لكنهم في الوقت ذاته يعبرون بصدق عن الفكرة ودون تكلف. ما جعل بعضهم يصل إلى منصات التكريم في جوائز الأفضل.
في العام الماضي، اختارت مصر “عاش يا كابتن” لتمثيلها في الأوسكار. وهو عمل مستقل أيضا عن لاعبة أثقال مراهقة تتدرب بمنزل مدربها بأبسط الإمكانيات وتنافس رغم ذلك على مستوى بطولات هامة.