كما هي العادة في منطقتنا، وبمناسبة الانقلاب العسكري الأخير في السودان، استؤنفت بحدة المجادلات، بل المساجلات حول صدق أو زيف النيات والأهداف الأمريكية والأوروبية من الرفض القاطع لهذا الانقلاب، والوساطات والضغوط الغربية القوية على المؤسسة العسكرية السودانية، من أجل العودة إلى أوضاع ما قبل ٢٥ أكتوبر المنصرم بحذافيرها، والالتزام التام باتفاق المرحلة الانتقالية، الممهدة لانتخابات حرة، تأتي بحكومة مدنية بالكامل إلى الحكم .
تمثلت حجج المتشككين في صدق نيات واشنطن والعواصم الكبرى في أوروبا في استعراض تاريخ الولايات المتحدة وشريكاتها الغربيات خاصة بريطانيا وفرنسا في تدبير وتأييد الانقلابات في أنحاء العالم، وفي منطقتنا العربية أو الشرق أوسطية على وجه الخصوص، وفي التحالف أو التفاهم الوثيق قبيل الربيع العربي مع نظم الاستبداد، التي لم تعرف المنطقة سواها منذ خروج الاستعمار التقليدي. وذلك استبقاء للهيمنة القديمة، ولاحتكار ونهب الموارد بطرق جديدة شتى، في مقدمتها مؤسسات التمويل الدولية، كصندوق النقد والبنك الدوليين .
بغض النظر عن عشرات الانقلابات التي وقعت هنا وهناك على مدار التاريخ العربي أو الشرق الأوسطي الحديث بغير إرادة أو مشاركة أمريكية أو أوروبية، بل وكانت مناهضة على طول الخط للغرب بشقيه الأوروبي والأمريكي، فليس في نيتنا، ولا في منهجنا الدفاع عن السياسات الغربية في هذه المنطقة، ولا في العالم، فنحن ممن يدركون أن الدول جميعها ليست جمعيات خيرية، وأن المعيار الأول الحاكم للسياسة الخارجية لأية دولة هو أمنها القومي، ثم مصالحها الاقتصادية، وإنما نبتغي شيئا من الفهم، قبل إصدار الأحكام، واجترار الكليشيهات المحفوظة في تراث العقل السياسي العربي، ولكن قبل ذلك يستحسن أن نرصد منابع ذلك الشك في كل شيء يأتي من شمال المتوسط، أو عبر الأطلنطي .
يأتي التاريخ الاستعماري على رأس تلك المنابع، كما تبرز مأساة منح فلسطين للمشروع الصهيوني بإرادة ومساندة يومية من تلك القوى الاستعمارية إلى صدارة أي جدل حول السياسات الأمريكية بالذات في الإقليم، باعتبار أن الولايات المتحدة هي الداعم الأكبر لإسرائيل منذ اللحظة الأولى، وذلك علي الرغم من أن جميع حكوماتنا ترتبط بعلاقات وثيقة (بعضها استراتيجي) مع واشنطن، وعلى الرغم من أن معظم الحكومات العربية انخرطت في تطبيع دافئ بل وحار مع إسرائيل، أو تسعى إلى مثل هذا التطبيع .
لكن ذلك ليس هو كل أسباب الشك المتولد من الكراهية الراسخة للولايات المتحدة لدى قطاعات واسعة من الشعوب العربية، إذ يوجد أيضا استثمار نظم الحكم للديماجوجية المتبنية لعقيدة أو عقدة كراهية أمريكا في تسفيه ووصم المطالبات الداخلية والدولية بالتحول الديمقراطي، ودولة القانون والمواطنة، وحقوق الإنسان، وهناك أيضا رواسب العداء القديم لأمريكا -بوصفها المعقل الحصين للرأسمالية العالمية وقائدة النظام الرأسمالي- لدى اليسار التقليدي، وبالطبع هناك أيضا بقايا الفكر القومي العربي بمدرستيه الناصرية والبعثية، ذلك الفكر الذي يجعل أحد منطلقاته الرئيسية التناقض الأبدي مع الغرب الاستعماري، ثم يأتي بعد كل ذلك اعتقاد أنصار، أو بالأحرى جماهير الإسلام السياسي بالصراع الأزلي الأبدي مع “الصليبية الغربية”، برغم أن زعماء التنظيمات الإسلامية دخلوا بين الحين والآخر في شهور عسل مع الولايات المتحدة، تارة ضد الشيوعية، وتارة ضد إيديولوجية القومية العربية، إذ يبقى ما في القلب في القلب. وهذا الاعتقاد هو أيضا محل توظيف تعبوي مستمر من جانب زعماء تلك التنظيمات، حتى وهم يعقدون الصفقات مع واشنطن .
الخطأ الكبير في كل تلك الرؤى هو تجميد التاريخ عند لحظات بعينها، والتعامي عن المتغيرات الكبرى في منطقتنا (كالاعتراف بإسرائيل مثلا)، وفي الغرب ككل، والانتقائية في الرصد والتحليل، فلا يصح مثلا أن نقيس حاضر السياسات الأمريكية والأوروبية في الإقليم وفي العالم بمقاييس حقبة الحرب الباردة، والصراع الإيديولوجي الدولي، ولا بمقاييس حقبة حركات التحرر الوطني، وعدم الانحياز في دول العالم الثالث، فعلى سبيل المثال كانت الصين والهند وجل دول إفريقيا مثلا تتبني الرؤية العربية للصراع العربي الإسرائيلي بحذافيرها، فكيف نتوقع من هذه الدول الالتزام بتلك الرؤية بعد أن هجرها أصحابها الأصليون؟. وعلى سبيل المثال أيضا فقد أدى انتهاء الحرب الباردة ومعها الصراع الإيديولوجي إلى انتفاء أو تقليل حاجة الغرب إلى انقلابات عسكرية فاشية الطابع، وقومية الخطاب، لقطع الطريق على التمدد الشيوعي .
نأتي الآن إلى لب موضوعنا وهو لماذا يهتم الغرب حاليا -بقدر كبير من المصداقية- بالديمقراطية أو الحكم الرشيد وحقوق الإنسان في منطقتنا؟ طبعا الإجابة الإجمالية أن هذا النمط من الحكم يحقق مصلحة مؤكدة للدول الغربية سواء الولايات المتحدة، أو الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، فما هي تفاصيل تلك المصلحة؟
لندع جانبا التهديدات الإرهابية من المتطرفين الإسلاميين للمصالح الغربية في العالم وفي داخل دول الغرب، كما تكرر كثيرا، وبلغ ذروته في هجمات ١١ سبتمبر على نيويورك وواشنطن، واستمر بعدها، ولندع جانبا مشكلة الهجرة غير الشرعية واللجوء الجماعي من منطقتنا إلى الغرب الأوروبي والأمريكي من حيث هي مشكلة إيواء وإعالة واندماج، وحين نقول لندع جانبا هذه المشكلات فذلك لا يعني أنها غير مهمة، فهي بالقطع بالغة الأهمية، ولكن لأن هناك ما هو أهم من تلك الزوايا في منظور الحكومات والنخب السياسية الأورو-أمريكية لتلك المشكلات المتولدة أصلا من سوء الحكم، وانعدام التنمية القادرة على إعالة السكان، فضلا عن الاضطهاد والاقصاء السياسيين، واحتكار الثروات والموارد، هذا “الأهم” هو أن كثافة الوجود العربي والإسلامي في مجتمعات الغرب، ونزوع بعض أولئك العرب والمسلمين إلى التطرف والإرهاب أو على الأقل إلى الانعزال كان هو السبب المباشر والرئيسي للصعود الجديد والمخيف لأفكار وتنظيمات اليمين القومي الفاشي، ولعقيدة التفوق والنقاء العرقي للبيض في الديمقراطيات الغربية، وهي تنظيمات معادية بطبيعتها للديمقراطية وللتعدد الثقافي، والتنوع العرقي .
بدأت هذه الظاهرة أولا في فرنسا في ثمانينيات القرن الماضي على يد ولسان جان ماري لوبان، وها هي ذي تتضخم إلى حد التخوف من حصول ابنته وخليفته في الانتخابات الرئاسية القادمة علي كتلة أصوات تكرس الانقسام ما بين الفاشية والديمقراطية في فرنسا، بل إن الظاهرة بلغت حد ضبط تنظيم فاشي انقلابي كان يخطط للاستيلاء علي مقرات حكومية فرنسية مؤخرا، وكما نعلم فقد امتدت الظاهرة إلى ألمانيا معقل النازية القديمة، وأدي تدفق ملايين اللاجئين السوريين من الحرب الأهلية هناك على ألمانيا إلى إحداث حالة زخم مخيفة للنازيين الجدد هناك، كما امتدت الظاهرة إلى كل من المجر وبولندا وسلوفاكيا. والبقية قد تأتي، ثم بلغ المد الفاشي المروج لتفوق العرب الأبيض ومعاداة مسلمي الداخل ومنع دخول المسلمين والمهاجرين من أمريكا اللاتينية ذروته في الغرب بانتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة عام ٢٠١٦. وبالرغم من خسارته للانتخابات الرئاسية الأخيرة فهناك أساس للمخاوف من إعادة انتخابه، بكل تهديداته للديمقراطية الأمريكية ذاتها .
يقول البعض إن العولمة بما أدت إليه من انتقال صناعات كثيرة إلى خارج أمريكا ومن ثم زيادة أعداد العاطلين والفقراء كانت من أسباب انتخاب ترامب، ونقول حسنا فليكن ذلك كذلك، ولكنه لا ينفي أن فوبيا الإسلام والمسلمين كانت سببا أهم .
لقد كان الخوف من الشيوعية في العقود الأولى من القرن العشرين هو السبب الأول لظهور الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية وللحرب الأهلية الإسبانية ومن ثم لقمع الشعوب وللحرب العالمية الثانية والهولوكوست بكل مآسيها التي تجل عن الحصر وعن النسيان، وهؤلاء قوم يتعلمون من التاريخ ويحرصون على عدم تكرار أخطاء الماضي، ويخشون على الديمقراطية في بلادهم، ولذا يعملون على وقاية مجتمعاتهم ونظمهم السياسية. ومستوى معيشتهم بتجفيف منابع الخطر القادم إليهم من منطقتنا، والذي يتهددهم بموجة جديدة من الفاشية القومية تكتسح كل مكتسبات ما بعد الحرب العالمية الثانية في الغرب وفي العالم، ولن يتأتى ذلك وفقا لحساباتهم إلا بتحسين ظروف الحياة في هذه المنطقة العربية الإسلامية، التي لا تصدر إليهم مهاجرين غير شرعيين ولاجئين فقط، ولكنها تصدر إليهم أيضا أو إلى المسلمين والعرب عندهم أفكارًا خطيرة، ودعايات مسمومة، وكراهية متأججة، ووفقا لتلك الحسابات أيضا يرون أن بناء دولة قانون ومواطنة وتكافؤ فرص ومشاركة بلا إقصاء وحكم رشيد في دولا هو أقصر وأسلم طريق للوقاية من كل تلك الشرور، التي تتوالد وتتكاثر داخل مجتمعاتهم ردا على تلك الصادرات غير المرحب بها.