تواجه الولايات المتحدة اختبارًا حاسمًا في الخرطوم، على وقع انقلاب الجيش السوداني في 25 أكتوبر، الذي أوقف خطوات البلاد المتعثرة نحو الاستقرار. لتزيد التساؤلات حول نفوذ الولايات المتحدة التي كانت تدعم الديمقراطية الوليدة في السودان، قبل أن يباغتها العسكريون بانقلابهم.
البرهان والجيش الذي أنقذ السودان
في أعقاب السيطرة على الحكومة، حل اللواء عبد الفتاح البرهان، قائد القوات المسلحة السودانية، المؤسسات المدنية. كما أبقى رئيس الوزراء المخلوع عبد الله حمدوك وغيره من السياسيين البارزين قيد الاحتجاز.
بتبني الموقف المألوف للديكتاتوريين العسكريين السابقين في السودان، سعى البرهان إلى إبراز صورة القوة والاستقرار وأنه دون الجيش ينهار السودان. وكان من بين الأشياء المربكة التي قالها صباح يوم توليه السلطة: «هذا ليس انقلابًا». وهو ادعاء استند فيه لصفته كرئيس للقوات المسلحة السودانية ولمجلس السيادة.
ويبدو أنه يصدق كونه الرئيس الفعلي للدولة، وفقًا لتقليد تدخل ضباط الجيش الوطني لإنقاذ الأمة من الأزمة. هكذا قفز الجيش على الحكم ثلاث مرات في تاريخ السودان البالغ 65 عامًا كدولة مستقلة.
البرهان يرى أنه الوصي الشرعي لعملية الانتقال في السودان، وأن المدنيين قد فشلوا. وهو ما لم ينجح في تمريره للرأي العام السوداني الذي احتج بقوة المظاهرات والإضراب. وتفاعل مع ذلك الاتحاد الإفريقي وعلق عضوية السودان، على أساس «تغيير غير دستوري للحكومة».
يذكر تقرير لمجلة «فورين آفيرز» الأمريكية، أن هناك تفسير أبسط بكثير لاستيلاء البرهان على السلطة. إذ أنه وفقًا للإعلان الدستوري لعام 2019، وهو خارطة الطريق لانتقال السودان إلى الديمقراطية، كان من المقرر أن يتنحى البرهان عن رئاسته لمجلس السيادة في 19 نوفمبر، ويسلمها إلى زعيم مدني.
انقلاب السودان.. لماذا هو محرج لأمريكا؟
على عكس سلفه، جعل الرئيس جو بايدن القرن الأفريقي أولوية. فعين مبعوثًا خاصًا، جيفري فيلتمان، لتطوير وتنفيذ استراتيجية لإحلال السلام في المنطقة المضطربة. كما دعمت بلاده الديمقراطية الوليدة في السودان بمساعدات مالية وضمانات قروض تمكنها من بناء المؤسسات وإصلاح قطاع الأمن.
لكن الانقلاب فاجأ واشنطن. وقد وقع بعد ساعات فقط من لقاء فيلتمان والبرهان في الخرطوم. حينما أكد مبعوث واشنطن التزام بلاده القوي بالاتفاقيات القائمة بين القيادات المدنية والعسكرية.
تكمن مشكلة انقلاب السودان بالنسبة لواشنطن فيما يؤدي إليه من التشكيك بنفوذ الولايات المتحدة في المنطقة غير المستقرة بالفعل. ففي البداية، انسحبت أمريكا من أفغانستان. كما رفض رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الجهود الأمريكية لإنهاء الحرب والأزمة الإنسانية في بلاده. فيما الآن، يهدد قائد الجيش السوداني بإلغاء حكومة ديمقراطية ناشئة أخرى، كانت تدعمها الولايات المتحدة. وهو أمر يرضي روسيا والصين والمستبدين المحتملين في جميع أنحاء العالم ممن يكرهون الحكم المدني. ويظهر مزيدًا من ضعف أجندة بايدن الديمقراطية الهشة في جميع أنحاء العالم.
كيف تعامل حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط؟
من الأمور الحاسمة لنفوذ واشنطن أن يتخذ الحلفاء الرئيسيون في المنطقة نفس موقفها تجاه انقلاب السودان. وهو ما يبدو صعبًا إلى حد ما. إذا كان الحديث عن معارضة الحكم العسكري في منطقة تعج به وتؤيده.
رغم موقف الاتحاد الأفريقي الحازم ضد الانقلاب، فإن العديد من الحكومات تشعر براحة أكبر مع البرهان في مقابل القيادة المدنية. وقد أجرى البرهان زيارة للقاهرة بعد ساعات من لقاء فيلتمان، واستيلائه على الحكم. الأمر الذي لن يزعج بالطبع السعودية والإمارات، المؤيدتين المعتادتين للزعماء العسكريين. حتى وإن كان للجيش علاقات وثيقة مع الجماعات الإسلامية كما في حال السودان، في مقابل ديمقراطيون معادون للإسلاميين، وفق ما يوضحه التقرير الأمريكي.
كذلك، تعاملت إسرائيل مباشرة مع البرهان بشأن مفاوضات إقامة علاقات دبلوماسية مع السودان في عام 2020.
وقد ركزت دبلوماسية فيلتمان على جعل الحلفاء من الشرق الأوسط يتماشون مع الولايات المتحدة في عدم الاعتراف بتحركات أو انقلاب البرهان. وإلى الآن لم تخرج أي دولة عربية لدعم البرهان. وقد أدانت جامعة الدول العربية الانقلاب.
أدوات أمريكا وكروت البرهان
تمتلك الولايات المتحدة أدوات قوية تحت تصرفها للضغط من أجل عكس مسار الانقلاب في السودان. وأكبر هذه الأدوات حاجة السودان الماسة إلى المال. قد يلجأ البرهان إلى دول الخليج للحصول على دعم مؤقت. لكن المبالغ اللازمة لإنقاذ الاقتصاد أكبر بكثير مما يستعد السعوديون والإماراتيون لتقديمه.
وبالفعل، قررت إدارة بايدن إيقاف 700 مليون دولار من المساعدات ردًا على الانقلاب. وبإمكانها كذلك استخدام حزمة إنقاذ مالي أكبر بكثير كرافعة مالية.
على سبيل المثال، ستتطلب إعادة جدولة ديون السودان البالغة 70 مليار دولار تعاون الولايات المتحدة، التي تمتلك مع حلفائها الأوروبيين حصة مسيطرة في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
على الجانب الآخر، وبعد انقطاعه عن المانحين الغربيين، يمكن للبرهان أن يدعم نظامه في مبيعات الذهب، وأرباح الشركات المملوكة للجيش. إلى جانب الصفقات مع روسيا لتوفير المرتزقة. لكن يمكن للولايات المتحدة أن ترد على ذلك بفرض عقوبات مالية. خاصة إذا استندت إدارة بايدن إلى قانون ماغنتسكي العالمي.
ووفق هذا القانون، يمكن لواشنطن إغلاق أنشطة السودان بسرعة. كما يمكنها تسريع خطط الكشف عن التدفقات غير المشروعة للمعادن، التي يتم نقلها إلى خارج البلاد عبر مطار الخرطوم الدولي. وقد تم تقديم مشروع قانون من الحزبين إلى الكونجرس، الذي دعا أعضاؤه وزير الخارجية الأمريكية، إلى «تحديد قادة الانقلاب على الفور، والمتواطئين معهم، والعوامل التمكينية للنظر في فرض عقوبات مستهدفة».
شعبية حمدوك بعد الانقلاب
لم يقدم البرهان حلاً موثوقًا لأي من التحديات الملحة العديدة في السودان. بما في ذلك استقرار الاقتصاد، واستكمال الجهود لإدخال أكبر مجموعتين من المتمردين إلى اتفاق جوبا للسلام العام الماضي. فضلاً عن تلبية المطالب الشعبية بانتقال أسرع إلى الديمقراطية.
بعد الانقلاب، اكتسب عبدالله حمدوك -رئيس الوزراء المحتجز من قبل الجيش- تأييدًا جديدًا كان قد فقده في وقت سابق بسبب إجراءاته التقشفية القاسية وتفضيله لبناء توافق في الآراء انحرف إلى التردد. وقد زادت شعبيته منذ الانقلاب. لرفضه التراجع عن دعوته لاستعادة صيغة الحكم قبل 25 أكتوبر. وتطالب الاحتجاجات الحالية ضد العسكريين في البلاد بعودة حمدوك.
إذا نجحت قوى الحرية والتغيير وأنصارها المدنييون في إعادة حمدوك إلى السلطة، فإنه سيحثونه على اتخاذ خطوات جذرية لتفكيك سلطة الجيش. يأمل الديمقراطيون في أن ينجح سيناريو العام 2019، حينما انهار البرهان تحت الضغط المشترك لمظاهرات الشوارع والضغط الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
البرهان ومجلس السيادة الجديد.. كيف تخرج الديمقراطية من أزمتها؟
قبل أيام، انهارت صيغة تسوية واعدة لإعادة حمدوك على رأس حكومة مدنية جديدة في السودان. وكان ذلك بسبب تعنت البرهان، الذي رفض التخلي عن السيطرة على الأصول الاستراتيجية للاقتصاد، وإعادة اللجنة المدنية التي كانت تفكك الرأسمالية الفاسدة للنظام السابق.
بينما أمس، أعلن قائد الجيش تشكيل مجلس سيادة جديد، أدى اليمين الدستورية رئيسًا له. الأمر الذي أشعل الاحتجاجات مجددًا في الخرطوم ومناطق أخرى. وسط دعوات لتنظيم مظاهرات جديدة يوم السبت. بينما حذر المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، من أن التطورات الأخيرة «مقلقة للغاية».
من الواضح أن البرهان ليس مستعدًا للتخلي عن السلطة. لكنه أيضًا ليس مستعدًا لمدى العداء الشعبي لاستيلائه على السلطة.
ينصح تقرير «فورين آفيرز» الولايات المتحدة بالتحرك سريعًا لتقديم الدعم للحركة الديمقراطية المحاصرة في السودان. وذلك باستخدام أداتها الرئيسية للضغط على البرهان -التمويل- حيث يمكن لواشنطن بدعم من حلفائها في الشرق الأوسط وأوروبا، أن تضع العسكريين في السودان بموقف صعب. هذا إلى جانب ضرورة بناء جبهة دبلوماسية دولية موحدة لدعم معارضة الاتحاد الأفريقي المبدئية للتغيير غير الدستوري للحكومة في السودان. ودعم مطالب الشعب السوداني بالحكم المدني.
ويقول التقرير إن الولايات المتحدة مطالبة بإعادة البرهان إلى طاولة المفاوضات. لأنه بدون مثل هذه المشاركة، يخاطر السودان بفقدان كل التقدم الذي أحرزه. وبالإضافة إلى مستقبل السودان، فإن مصداقية التزام الولايات المتحدة بالديمقراطية باتت على المحك.