ربما يكون الموقف السعودي الأخير من التطورات الجارية في إثيوبيا، والداعي إلى حوار سياسي بين الأطراف المتصارعة، هو من المرات النادرة التي تفصح فيها دولة خليجية كبرى كالسعودية عن موقف سياسي بشأن إثيوبيا التي احتضنت لفترة طويلة مصالح متنوعة القيمة والأثر. ولكن يبدو أنَّ سقوط أديس أبابا المحتمل أصبح هاجسًا مفزعًا للجميع، ومهددًا لمصالح اقتصادية وجيوسياسية ليس للرياض وحدها، ولكنها تمتد في العالم من شرقة لغربه.
تسعى إيران لاستكمال دائرة الحصار للخليج جنوبًا وغربًا، وذلك بعد محاولة فاشلة سابقة في جيبوتي استطاعت السعودية قبل ذلك تطويقها
أهم المصالح الخليجية المتضررة للسعودية وللخليج كله من الهشاشة الإثيوبية الراهنة، هو إمكانية أن تتحول إثيوبيا لملعب لمصالح إقليمية ضدهم، أهمها تلك القادمة من إيران؛ إذ رشحت تسريبات بحصول أديس أبابا على طائرات درون المسيرة من إيران، وهو تطور متوقع في إطار مسارات الحرب بين الطرفين على المنصة اليمنية، حيث تسعى إيران لاستكمال دائرة الحصار للخليج جنوبًا وغربًا، وذلك بعد محاولة فاشلة سابقة في جيبوتي استطاعت السعودية قبل ذلك تطويقها.
اقرأ أيضًا| حرب التيجراي.. 4 سيناريوهات تؤدي إلى تفكك إثيوبيا
أما الاستثمارات الخليجية في إثيوبيا فهي قاب قوسين أو أدنى من أن تذروها الرياح؛ ذلك أن إثيوبيا قد حازت في الفترة من 2000إلى 2017 فقط على استثمارات خليجية بقيمة 13مليار دولار أمريكي غير متضمنة التمويل الديني أو المساعدات الإنسانية، ولا المشروعات ذات الطابع البحثي والفكري، وذلك في 434 مشروعًا، كانت الاستثمارات السعودية في 233 مشروعا، تلتها الإمارات بـ١٠٤ مشروعًا، بينما كان نصيب قطر 12مشروعًا، والكويت 16مشروعًا. وإذا تمت مقارنة هذا الحجم الاستثماري بحقيقة أنه لم يكن في دول القرن الإفريقي بالتسعينيات إلا مشروع واحد فقط، فقد يتضح حجم القفزة الاستثمارية الخليجية في إثيوبيا.
ويمكن الإشارة إلى أن أهم مشروعات دولة الإمارات مثلاً في إثيوبيا هو في قطاع تصنيع السكر بقيمة 3 مليارات دولار، وهو أكبر استثمار منفرد في هذه الفترة، وبشكل عام وفرت الاستثمارات الخليجية في إثيوبيا ثلاثمائة ألف وظيفة للإثيوبيين، مائة ألف منها وفرها رجل الأعمال السعودي العمودي ذو الأصول الإثيوبية من جهة الأم، وذلك في شركتي Midroc Ethiopia وSudi Star Group.
وإلى جانب هذه الاستثمارات، يمكن رصد أن حجم المساعدات العربية لدول القرن الإفريقي من الصناديق الإنمائية 6.6 مليار دولار، وذلك دون صندوق أبوظبي الذي بدأ نشاطاته في إثيوبيا عام 2012، وساهم في منح إثيوبيا 3 مليارات دولار عام 2018، منها مليار دولار لدعم النظام المصرفي الإثيوبي.
وبطبيعة الحال، حازت إِثيوبيا علي نصيب الأسد، سواء من كعكة الاستثمارات الإماراتية أو من حجم المساعدات، وهو ربما ما يفسر تغريدات آبي أحمد رئيس الوزراء الإِثيوبي في ديسمبر 2019، والتي أعلن فيها عن بالغ شكره لكل من السعودية والإمارات لدعمهما إثيوبيا.
وقد تركزت الاستثمارات الخليجية في قطاعي الزراعة والتصنيع، حيث تزامن التركيز الخليجي في التوسع التعاوني مع إثيوبيا، وتعهد رئيس صندوق أبو ظبي للتنمية في يناير 2020 بالتوسع في المساعدات التنموية لإثيوبيا، كما تم عقد مجلس الأعمال الاستشاري الإماراتي الإثيوبي في فبراير 2020، تم الاتفاق على استضافة منتديات اقتصادية، وتأسيس منصة رقمية للتواصل بين البلدين.
اقرأ أيضًا| إثيوبيا ومشكلة البدايات الخاطئة
كما قدم صندوق خليفة 100 مليون دولار لوزارة المالية الإثيوبية لدعم المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، وذلك في مارس 2020.
إسرائيل تعد خاسرًا كبيرًا على المستوى الاستراتيجي، إذا امتد خيط التوترات ليصنع انهيارا لمؤسسة الدولة الإثيوبية، ذلك أن إسرائيل قد استثمرت كثيرًا في إثيوبيا منذ عام 1955 تحت مظلة رؤية استراتيجية لـ بن جوريون، أن تكون إثيوبيا هي مخلب القط في ظهير العرب المعادين لها بعد إنشاء دولة اليهود على أرض فلسطين عام 1948، فيما يعرف باستراتيجية شد الأطراف.
إسرائيل تعد خاسرًا كبيرًا على المستوى الاستراتيجي، إذا امتد خيط التوترات ليصنع انهيارا لمؤسسة الدولة الإثيوبية، ذلك أن إسرائيل قد استثمرت كثيرًا في إثيوبيا منذ عام 1955 تحت مظلة رؤية استراتيجية لـ بن جوريون
هذا التوظيف الإسرائيلي لإثيوبيا ضد العرب تطلب صناعة صورة متضخمة لإثيوبيا وقدراتها في حماية المصالح الغربية في منطقة القرن الإفريقي في الذهنية الغربية، وهو دور تلعبه إسرائيل باقتدار عبر مراكز الفكر والأبحاث الأمريكية، بآليتي منظمة الـ أيباك الصهيونية، وشركات اللوبي اليهودية النشطة في كواليس الكونجرس الأمريكي، وربما هذا ما يفسر اتساع حجم الدعم الغربي لإثيوبيا تاريخيًا رغم فشلها في القيام بأهم المهام الموكلة لها في حماية المصالح الأمريكية في الصومال علي سبيل المثال، حيث جرى هزيمتها هناك من جانب حركة شباب المجاهدين، كما اضطرت لسحب قواتها في بعض بعثات قوات حفظ السلام في منطقة القرن الإفريقي؛ بسبب الضغوط العسكرية عليها من إقليم التيجراي .
ورغم النفي الإسرائيلي لدور لها في إطار دعم القدرات التفاوضية لإثيوبيا في قضية سد النهضة، حرصا ربما على علاقتها مع مصر، فإن الاعتماد الإثيوبي على المناهج التفاوضية الإسرائيلية يعد قرينة منظورة بالعين المجردة.
أما على الصعيد العسكري، فإن العلاقات بين البلدين قديمة، وتبلورت في دعم النظام الإمبراطوري الإثيوبي عبر وجود مستشارين عسكريين إسرائيليين، إلا أنَّ هذا الوجود تطور بوجود بعثة عسكرية دائمة منذ عام 1971 دشنتها زيارة لحاييم بارليف رئيس أركان الجيش الإسرائيلي؛ نظرًا لتصاعد التوتر ضد النظام الإمبراطوري؛ بسبب حركة تحرير إرتيريا، وتعدد المحاولات الانقلابية داخل الجيش الإثيوبي التي نجح أحدها بالفعل علي يد منغستو هيلا مريام عام 1974، حيث حافظت إسرائيل علي دعم القدرات العسكرية الإثيوبية حتي وقتنا هذا، سواء عبر تصنيع إثيوبي لمدرعات إسرائيلية أو دعم السلاح الجوي الإثيوبي في التدريب، فضلاً عن توجه أديس أبابا اعتبارا من عام 2019 لإنشاء سلاحها الجوي رغم عدم امتلاكها سواحل مباشرة على البحر الأحمر.
المفارقة هنا أن الدعم العسكري الإسرائيلي لإثيوبيا قد صنفها في المؤشرات ثالث أكبر قوة عسكرية في إفريقيا عام 2019، رغم إنفاقها العسكري الذي يشكل أقل من 1% من ميزانيها العامة بقيمة نصف مليار دولار تقريبا، وهزيمة الجيش الفيدرالي الإثيوبي مؤخرا في كل من إقليم التيجراي ومناطق الفشقة علي يد القوات المسلحة السودانية. وربما تكون هذه المفارقة هي الكاشفة أن الصورة المصنوعة لإثيوبيا في الذهنية الغربية هي صورة ملفقة إلى حد كبير، وقائمة على انحيازات إيديولوجية أكثر من مفردات واقعية.
المصالح الصينية تبدو ماثلة بامتياز، ففضلاً عن استثمارات الشركات الصينية في الإنشاءات الهندسية لسد النهضة الذي أصبح مصيره على المحك فإن إثيوبيا من أهم دول القرن الإفريقي التي استثمرت فيها الصين استراتيجيا
وقد يكون الغرب بشكل عام وواشنطن على وجه الخصوص قد اكتشفت مؤخرًا أن طبيعة المشكلات الهيكلية في بنية مؤسسة الدولة الإثيوبية، تبدو معوقًا لم ينجح أحد في إصلاحه تاريخيًا، رغم المحاولات الإسرائيلية المستميتة لتحقيق هذا الهدف.
أما علي صعيد الشرق، فإن المصالح الصينية تبدو ماثلة بامتياز، ففضلاً عن استثمارات الشركات الصينية في الإنشاءات الهندسية لسد النهضة الذي أصبح مصيره على المحك فإن إثيوبيا من أهم دول القرن الإفريقي التي استثمرت فيها الصين استراتيجيًا لاعتبارات متعلقة بالتنافس الصيني الأمريكي في إطار النظام الدولي.
اقرأ أيضًا| رحلات “الأغذية الجافة”.. الكشف عن صفقات سلاح بين إثيوبيا وإريتريا لإبادة تيجراي
وطبقا للتقديرات الاستراتيجية الصينية، فإن أهمية إثيوبيا تكمن في أنها دولة المقر للاتحاد الإفريقي، وربما هذا ما يفسر أن أول قمة صينية إفريقية كانت في إثيوبيا، أما الاعتبار الثاني فهو بسبب جوارها الحدودي المباشر لأهم دول البحر الأحمر وهي السودان وإرتيريا وجيبوتي.
المؤشرات الاقتصادية في علاقات أديس أبابا وبكين دالة على الأهمية المركزية لإثيوبيا في السياسات الصينية، فبكين هي المدين الأول لأديس أبابا، إذ تجاوز حجم القروض الصينية لإثيوبيا 18مليار دولار، وهي الديون المهددة حاليًا، فضلاً عن إنشائها طريقًا بين إثيوبيا وجيبوتي بطول 750 كيلو متر وباستثمارات تفوق 3.4 مليار دولار، وهو الطريق المقطوع حاليًا بسبب الحرب الأهلية الإثيوبية.
في هذا السياق، ربما يكون من المهم الإشارة إلى أن هناك 500 شركة صينية تعمل حاليا في إِثيوبيا باستثمارات تفوق الواحد ونصف بليون دولار، تتركز في 86 مشروعَا خصوصَا في قطاع تكنولوجيا الاتصالات.
في ضوء هذا المشهد يبدو أنّ حجم المصالح المتضررة من حالة الدولة الإثيوبية الراهنة، والشكوك بشأن مستقبلها كبيرة، خصوصًا في ضوء تمترس أطراف الصراع كلٌ في موضعه، ورفض كل محاولات المجتمعين الدولي والإقليمي للوصول لمحطة حوار سياسي يُجنّب الجميع وأولهم إِثيوبيا خسائر مروعة.