في تصعيد جديد من الولايات المتحدة الأمريكية للنزاع المحتدم منذ سنوات مع المحكمة الجنائية الدولية، شنت إدارة الرئيس دونالد ترامب، هجومًا حادًا بفرض عقوبات جديدة ووضع قيود إضافية على تأشيرة دخول موظفي المحكمة لأراضيها، في محاولة ضغط لوقف التحقيق في جرائم حرب محتملة من قبل عناصر الجيش.

وكانت المحكمة الجنائية الدولية قد أذنت بإجراء تحقيق في مزاعم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من قبل القوات الأمريكية ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA) وحركة طالبان في أفغانستان.

عقوبات على أعضاء المحكمة

وكرد فعل على قرار استئنافي للمحكمة في مارس الماضي بالسماح بفتح تحقيق في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في أفغانستان برغم معارضة الإدارة الأمريكية، أصدر “ترامب”، الخميس، أمرًا تنفيذيًا يجيز فرض عقوبات على المشاركين في تحقيق للمحكمة الجنائية الدولية حول ما إذا كانت قوات بلاده قد ارتكبت جرائم حرب في أفغانستان.

يتعلق التحقيق الذي تسعى إليه المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا بتجاوزات ارتكبها جنود أميركيون في أفغانستان حيث تقود الولايات المتحدة منذ 2001 حرب طويلة هناك، بعد أن قُدّمت مزاعم بالتعذيب تستهدف وكالة الاستخبارات المركزية (CIA).

المحمكة الجنائية والتي بلغ عدد الدول الموقعة على قانون إنشائها 121 دولة حتى 1 يوليو 2012 (الذكرى السنوية العاشرة لتأسيس المحكمة) تعرضت لانتقادات من عدد من الدول منها الصين والهند والولايات المتحدة، بالإضافة لروسيا، وهي من الدول التي تمتنع عن التوقيع على ميثاق المحكمة.

أمريكا تحمي جنودها

وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كايلي ماكناني، في بيان، إنه: “كجزء من التزام الرئيس دونالد ترامب الثابت بحماية أعضاء الخدمة الأمريكية والدفاع عن سيادتنا الوطنية، أذن الرئيس بفرض عقوبات اقتصادية على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية المنخرطين بشكل مباشر في أي جهد للتحقيق أو مقاضاة موظفي الولايات المتحدة دون موافقة من الولايات المتحدة “، وأضافت: “أذن الرئيس أيضًا بتوسيع قيود التأشيرة ضد مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية وأفراد أسرهم”.

من جانبه، قال وزير العدل الأمريكي وليام بار، في مؤتمر صحفي، إن وزارة العدل لديها معلومات “جوهرية وذات مصداقية” حول “الفساد المالي وسوء التصرف على أعلى المستويات في مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية”.

وأضاف بار أن الادعاءات التي تلقتها وزارة العدل بشأن المحكمة الجنائية الدولية ربما لعبت دورًا في قرار المحكمة الأخير بالتحقيق في جرائم الحرب في أفغانستان، بما في ذلك المزاعم ضد القوات الأمريكية في المنطقة. وتابع بالقول إن “هذه المعلومات تشكك في نزاهة تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية”.

“بومبيو” يصعد الهجوم

صعد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، من هجومه على الجنائية الدولية بتأكيده على أن المحكمة لا تستطيع محاسبة أي من جنود بلاده على خلفية ارتكابهم جرائم حرب في أفغانستان.

وقال وزير الخارجية الأمريكي، الخميس، إن الولايات المتحدة ليست جزءًا من المحكمة الجنائية الدولية.
بينما اتهم وزير العدل الأمريكي ويليام بار، روسيا بالتلاعب بالمحكمة الجنائية الدولية.

وذكر في تصريحات صحفية: “نشعر بالقلق لأنّ قوى [دولية] تستخدم أيضًا المحكمة الجنائية الدولية خدمةً لمصالحها الخاصة”.

اقرأ أيضًا:

“كوشيب” في قبضة “الجنائية الدولية”.. ماذا عن “البشير”؟

 

وأكد مستشار الأمن القومي الأمريكي روبرت اوبراين أنّ هذا “الاستخدام” يهدف بشكل خاص إلى “التشجيع” على إطلاق تحقيقات قضائية دولية بحق عسكريين أمريكيين في أفغانستان، في ملف قضائي أثار غضب الولايات المتحدة.

هاجم ترامب مرارا المحكمة الجنائية الدولية ومقرها لاهاي التي أنشئت لمحاكمة جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية”.

تبعات القرار

يمنح أمر ترامب إذنًا لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بالتشاور مع وزير الخزانة ستيفن منوشين بحظر أصول موظفي المحكمة الجنائية الدولية في الولايات المتحدة الضالعين في التحقيق، ويمكن لـ”بومبيو” تعليق إصدار تأشيرات الدخول إلى بلاده لموظفي المحكمة الجنائية الدولية ومن يعملون لصالحها وعائلاتهم.

ردود أفعال غاضبة

وأثار القرار ردود أفعال غاضبة فى الدوائر السياسية، حيث أبدت هولندا “انزعاجها الشديد ، عن طريق تصريح لوزير خارجيتها ستيف بلوك، بعد ساعات من إصدار الأمر الذي قد يؤدي إلى الحجز على أصول موظفي المحكمة الجنائية الدولية المشاركين في تحقيق بشأن مزاعم ارتكاب جرائم حرب في أفغانستان.

وقال بلوك في تصريحات نشرت على تويتر: “منزعجون للغاية من إجراءات الولايات المتحدة” مضيفًا أن “هولندا تدعم المحكمة الجنائية الدولية بشكل كامل وستستمر في ذلك. المحكمة الجنائية الدولية ضرورية لمواجهة الإفلات من العقاب ودعم سيادة القانون الدولي”.

بينما أعرب وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، الخميس، عن “قلق بلاده البالغ” حيال إجراءات الرئيس دونالد ترامب لمعاقبة مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية الذين يحققون مع جنود أميركيين.

وقال جوزيب بوريل للصحافيين “بالتأكيد هذا أمر مثير للقلق الشديد لأننا نحن، في الاتحاد الأوروبي، ندعم بثبات المحكمة الجنائية الدولية”.

عدم الإفلات من العقاب

فيما أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، عن قلقه من قرار الرئيس الأمريكي،
وقال المتحدث باسمه ستيفان دوجاريك الخميس، في مؤتمر صحفي عقده عبر دائرة تلفزيونية مع الصحفيين بمقر المنظمة الدولية بنيويورك: “أُحطنا علمًا بالأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس الأمريكي، ومن الواضح أن موقفنا المبدئي هو التأكيد على عدم الإفلات من العقاب وضمان تحقيق العدالة”.

اقرأ أيضًا:

“روندو”:”تحقيق”الجنائية الدولية” في “انتهاكات أفغانستان “قد يعيد مصداقيتها”

 

وردًا على أسئلة الصحفيين بشأن ما إذا كانت القيود الأمريكية ستحول دون تطبيق العدالة في القضايا التي تنظرها المحكمة، قال دوجاريك: “هناك اتفاقية بين المحكمة الجنائية الدولية والجمعية العامة للأمم المتحدة، وسوف ننظر في تداعيات العقوبات التي تم إعلانها اليوم على تنفيذ هذه الاتفاقية”.

الهجوم الأمريكي علي المحكمة بدأ منذ تأسيسها ولكن وتيرته تصاعدت بعد قرار المحكمة الجنائية الدولية في عام 2017 بالتحقيق في ارتكاب “جرائم حرب محتملة” في أفغانستان على أيدي أطراف مختلفة، تشمل عسكريين ومسؤولي استخبارات أمريكيين.

وعلي إثر هذا القرار ألغت إدارة ترامب ووزير خارجيته بومبيو تأشيرة دخول المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا، كما تعهد بإلغاء تأشيرات الدخول لأي شخص متورط في تحقيق ضد مواطنين أمريكيين.

ردت “بنسودا” على هذا القرار وقالت آنذاك: “إن المحكمة لديها معلومات كافية لإثبات أن القوات الأمريكية ارتكبت أعمال تعذيب وانتهاكات واغتصاب وعنف جنسي في أفغانستان خلال عامي 2003 و2004”.

وقالت المدعية العامة في طلبها الصادر في نوفمبر 2017، إن هناك جرائم أخرى ارتُكبت في مرافق احتجاز سرية لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في بولندا ورومانيا وليتوانيا ( جميعها دول أعضاء المحكمة الجنائية الدولية).

أمل في العدالة

وخلص تقرير أصدرته منظمة هيومن رايتس ووتش، مؤخرًا إلى أن القوات الأفغانية المدعومة من وكالة الاستخبارات المركزية ارتكبت إعدامات بإجراءات موجزة وانتهاكات خطيرة أخرى من دون عقاب في أفغانستان بين أواخر 2017 ومنتصف 2019 والتي قد تندرج أيضًا ضمن اختصاص المحكمة.

اقرأ أيضًا:

تحقيق الجنائية الدولية في جرائم الحرب ضروري لضمان السلام في أفغانستان

 

في 6 مارس الماضي، قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش”، إن قرار “المحكمة الجنائية الدولية” بالموافقة على إجراء تحقيق في أفغانستان يمنح ضحايا الأعمال الوحشية أملًا في العدالة مستقبلًا.

ونص القرار الصارد عن المحكمة في 5 مارس الماضي، وافق قضاة غرفة الاستئناف في المحكمة بالإجماع على طلب المدعية العامة للمحكمة بالتحقيق في الجرائم المزعومة التي ارتكبتها “طالبان”، و”قوات الأمن الوطني” الأفغاني، والجيش الأمريكي وموظفو “وكالة الاستخبارات المركزية” الأمريكية.

وقالت بارام-بريت سينج، المديرة المشاركة لقسم العدالة الدولية في هيومن رايتس ووتش: ” قرار المحكمة الجنائية الدولية بالسماح بالتحقيق في الفظائع المزعومة في أفغانستان رغم الضغوط الأمريكية وغيرها يجدد التأكيد على الدور الأساسي للمحكمة تجاه الضحايا عندما تُغلَق جميع أبواب العدالة الأخرى. يوجّه الحكم رسالة إلى منتهكي الحقوق الحاليين والمحتملين، بصرف النظر عن نفوذهم، بأن العدالة ستطالهم يومًا ما.

اقرأ أيضًا:

البشير أمام “الجنائية الدولية”.. أن تأتي متأخرة خير من “الإفلات”

نطاق التحقيق

عانت أفغانستان من نزاع مسلح لأكثر من أربعة عقود، وربما قد يكون لدى الضحايا والمنظمات غير الحكومية التي تعمل معهم توقّعات مبالغ فيها بخصوص عدد القضايا التي يمكن للمحكمة البت فيها. قد يشجع عدم وضوح ولاية المحكمة الجهود المتعمدة لتشويه أو تسييس دورها الذي يمكن أن يضعف رغبة الضحايا والشهود في مشاركة المعلومات مع المحققين.

للتخفيف من هذه المخاطر، قالت هيومن رايتس ووتش، إن على المحكمة الجنائية الدولية الشروع في خطوات لشرح طبيعة التحقيق ونطاقه، بما في ذلك حدوده، تشير المنظمة الدولية إلى أن تحقيق المحكمة يواجه تحديات عديدة، تُبرز البيئة الأمنية المشحونة والمشهد السياسي الصعب للعدالة في أفغانستان الحاجة إلى تحقيق المحكمة الجنائية الدولية والصعوبات التي قد تواجهها المحكمة في جمع الأدلة.

وتضيف: تفتقر المحكمة الجنائية الدولية إلى قوة شرطة، لذا يتعيّن عليها الاعتماد في هذه القضية على الدول الأعضاء فيها، لا سيما أفغانستان، للتعاون مع المحكمة في تحقيقاتها واعتقالاتها ومحاكماتها”.