حتى وقت قريب كنت أظنني بخير، فأنا أضحك وأمارس عاداتي اليومية بشكل طبيعي، أتحدث مع أصدقائي ونلتقي فأجدني كالمعتاد متحمسة للقاء ومستمتعة بالحديث.. أثير ضحكاتهم وألقي دعاباتي ومشاكساتي، لا شيء تغير حقا.. وحين أنفرد بنفسي أتحول تماما ينتابني الوجوم والحزن، لم تعد تستهويني القراءة ولا مشاهدة الأفلام ولا حتى ملجئي الأخير/ سماع الأغاني والمزيكا، تبدأ الأفكار السلبية تهاجمني والأحساس بالذنب لأمور تافهة فعلتها أو لم أفعلها.. مع كل هذا كنت أجدني أيضا “بخير” فلم ألحظ تراكم هذه الأفكار ولم أربط بينها وبين الأرق ليلا وزيادة عدد ساعات النوم نهارا، فأنا لا أزال أضحك وانطلق وأتحدث.. إذن أنا بخير حقا.. أو هكذا ظننت.
(1)
يُعرّف الاكتئاب المبتسم “smiling depression” بالاكتئاب اللا نمطي، ورغم أنه غير معترف به في الدليل التشخيصي الإحصائي للاضطرابات العقلية “DSM”، لكن صنفه الدليل على أنه اكتئاب لا نمطي، وأوضحت منظمة الصحة العالمية أن أعراضه تشبه الاكتئاب النمطي..
وقد يكون من الصعب للغاية تحديد المرضى المصابين بـ”الاكتئاب المبتسم”، حيث يظهرون وكأنهم لا يعانون من أي سبب للحزن، فلديهم وظائف ومنازل وربما أطفال وشركاء، ويبتسمون حين تحييهم فضلا عن أنهم يتمكنون من إجراء محادثات ممتعة مع الآخرين.
وباختصار، فإن الذين يعانون من “الاكتئاب المبتسم” يضعون قناعا للعالم الخارجي يظهر أنهم يعيشون حياة طبيعية ونشطة على الدوام، بينما يشعرون في الداخل باليأس والحزن.
وتشمل أعراض هذا النوع من الاكتئاب: إفراط الطعام، والشعور بالثقل في الذراعين والساقين، والتعرض للأذى بسهولة من خلال النقد أو الرفض، والشعور بالاكتئاب بشكل أكبر في المساء، فضلا عن الشعور بالحاجة إلى النوم لفترة أطول من المعتاد.
( 2)
ما أجمل النوم، نعمة لكل شخص حزين متوتر قلق.
صارت متعتي حين أنام، لم تزدد ساعات نومي كثيرا، ولكن صار وقت النوم هو أكثر وقت مفضل عندي في اليوم، حين أغلق عيناي تكف الأسئلة ويذهب التوتر، لا مزيد من الأسئلة حول سبب حزني ولا عن متى سيتبدد فقد طالت المدة ولم ينته بعد فترة قصيرة كما تعودت عليه وكما اعتادني، يصير الحزن والوجوم ضيوف ثقيلة تجلس كثيرا في صالون روحي وعلى شرفات عيني.. تجلس بملابس البيت في كل مكان وتقضي معي الأيام دون أي أشارة لحزم حقائبها أو تلويح الوداع، فأهرب منهم ومن الأسئلة ومن العبء والدائرة التي لا تنتهي إلى النوم، فحين أنام أكون على طبيعتي.. لا شيء يزور عقلي من أسئلة ولا روحي من حزن، فقط أنا هنا نائمة خالصة بدون كل هذا، صافية أنعم بلحظات سكينة وهدنة بلا شائبة ولا مرض ولا عقل..
يمر يومي بشكل روتيني: المشاوير والمحادثات وقضاء الاحتياجات وشغل البيت والرسائل والضحكات وسؤالي عن مريض ومباركتي لخطبة صديق، ينقضي الوقت في كل هذا ثقيلا أتوق فيه لعزلتي على سريري، وينقضي أيضا سريعا لأنني لا أنغمس فيه.. هي فقط حركات ميكانيكية بلا روح ولا إخلاص لأنجز واجبات اليوم وأفر للنوم سعيدة بالخلاص.
(3)
منذ عشرة أيام انتحر طالبان في غرفة بفندق بالإسكندرية، وبغض التفكير عن طريقة انتحارهما وإعدادهما لكل تفصيلة والتخطيط حتى يتما الانتحار بلا أي تدخل، فقد قال أحد زملاء الضحايا لجريدة الوطن: “عمر وعلي كانوا معانا لمدة سنة أو أكتر في ثانوي في مدرسة داخلي اللي هي مدارس المتفوقين للعلوم والتكنولوجيا ببرج العرب، بنتعامل معاهم عادي وهما متدينين جدا وتفكيرهم مش تفكير انتحار، وكنا لسه بنتعامل معاهم وعلى طول مبتسمين وهما اللي بيلطفوا الجو دايما”.
(4)
بدأت أوقات الأنعزال تزيد، بلى.. أضحك وأتحدث هاتفيا أو في رسائل وأرسل الدعابات وال”ميمز” للأصدقاء وأشارك منشورات ساخرة وأعلق بهزر وخفة على منشورات الآخرين، وانشر صورا لأطباق مأكولات أعددتها ولابنتي ولكلابي، ولكنني لم أعد أريد لقاء أحد، أحببت البقاء في المنزل وانشغلت بتفاصيل التنظيف والمطبخ ودراسة ابنتي، وحين يسألني صديق “كيف حالك؟ عاملة إيه؟” أخبره أنه كله تمام و”أني كويسة” في حين أنه صديق مقرب ومن الممكن أن أخبره أنني بدأتُ أشعر أنني عالقة في شيء ما، وكان من الممكن أن أفضفض معه، لكنني آثرت الاحتفاظ بالأمر حتى أفهم ما بي، وحتي لا أنشر طاقتي السلبية لأحبائي، فما ذنبهم؟ خاصة وأنهم عهدوني خفيفة وضاحكة وساخرة حتى في وقت شكواي كنت أحول أي مصيبة تحدث لي إلى موقف ساخر أتهكم فيه على تصرفي أو على ما حدث معي، ولكنني الآن لم أعد أستطع أن أسخر وأخفف من وطأة الثقل الذي يدفعني للداخل بعيدا عنهم.. لا بأس بالمكالمات والبوستات والتعليقات لكن لا أريد تجمعات قد تُفضي إلى فضفضة سوداء تبوظ القعدة و”تشيلهم همي”.
(5)
يُرجع الباحثون أسباب إخفاء مريض الاكتئاب لمرضه لعدة أسباب، منها: الاعتقاد أن الاكتئاب علامة من علامات الضعف، وأن ذلك قد يجعله عرضة للاستغلال من الآخرين، كذلك الشعور بالذنب لأنهم لديهم حياة جيدة فلماذا يجب عليهم أن سشعروا بالسوء؟، السعي للكمال والمثالية يدفعه لإخفاء أي ألم أو مشكلة، الخوف من إرهاق الآخرين أو تحميلهم عبئا.. وأيضا أعتقادهم بأنهم لا يعانون على الإطلاق من الاكتئاب فهم حقا بخير.
تقول منظمة الصحة العالمية في بيان صادر عنها عام 2017: ” إن أكثر من 300 مليون شخص يعيشون الآن حالة اكتئاب، أي بزيادة تجاوزت نسبتها 18% في الفترة الواقعة بين عامي 2005 و 2015. ويحول انعدام الدعم المُقدّم إلى الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية جنباً إلى جنب مع خوفهم من الوصم دون حصول الكثيرين منهم على ما يلزمهم من علاج لكي يحيوا حياة صحية ومنتجة”.
(6)
في النهاية ومع ثقل الأسئلة واشتداد الحزن، والتعب من الادعاء بأن كل شيء تمام ورائع، في النهاية قررت اللجوء لطبيب والرضوخ للعلاج، لم أخبر صديقا بذلك، فما الداعي؟ ما الذي سيؤثر في شفائي؟ هل سأجد دعما أو سؤالا؟ الكل عنده مشاكله وأعباؤه وصراعاته النفسية والعقلية.. لماذا أثقل قلب أحد؟ أو لماذا أبحث عن مساعدة ولا تأتيني فأغضب منهم؟ هذا جيد.. لن أقول أو أطلب أو أحكي.. مرضت وحدي وعانيت وشفى وحدي وسأشفى وحدي.. المهم أنني اعترفت بضعفي ولجأت لمختص وأحاول فلا مزيد من المقاوحة.. ولا مزيد من اللقاءات والابتسامات.