مساء أمس، اتفق الرئيسان الفرنسي إيمانويل ماكرون، والروسي فلاديمير بوتين. على خفض التصعيد في أزمة المهاجرين عند الحدود بين بيلاروسيا وبولندا. حيث قال بوتين إنه “سوف يبحث المسألة” مع نظيره البيلاروسي ألكسندر لوكانشكو.
ووفق البيان الصادر عن قصر الإليزيه، الاثنين. فإن ماكرون أعرب عن أمله في أن تؤدي هذه المكالمة المطوّلة في الأيام المقبلة إلى نتائج تؤدي لإيقاف تدفق المهاجرين الوافدين من بيلاروسيا إلى الحدود البولندية.
يتجلى المشهد الخطير بسبب المهاجرين العالقين على الحدود. ويبدو كأنه حرب بالوكالة بين روسيا وبيلاروس من جهة، وبين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا والولايات المتحدة من جهة أخرى. وترتفع درجة حرارته بشكل مثير للمخاوف.
استفزاز متبادل
يسعى الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو إلى ابتزاز أوروبا إلى أقصى حد، مكررًا نفس لعبة المهاجرين غير الشرعيين التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ عدة سنوات للضغط على الاتحاد الأوروبي وإغراقه بالمهاجرين غير الشرعيين عبر حدود اليونان.
في الوقت نفسه، يحاول لوكاشينكو أن يفلت من غضب المعارضة بتوجيه الأنظار إلى أزمات أخرى. بينما تتحرك روسيا على أكثر من محور لتحقيق مصالحها الخاصة وإجراء مقاربات ومناورات سياسية. سواء مع لوكاشينكو أو مع أردوغان.
وتكشف المكالمة بين بوتين وماكرون عن حدة التصعيد بين الدب الروسي وجارته أوروبا. حيث تتواتر الأمور بينهما منذ عدة أشهر، استخدم كلا الطرفان فيها وكلاء لتصعيد الأمور.
ففي المكالمة نفسها، أعرب ماكرون لنظيره الروسي عن “قلق فرنسا البالغ”. وعن عزمها الدفاع عن وحدة أراضي أوكرانيا. وذلك ردًا على نشر قوات روسية عند الحدود الأوكرانية. بينما اكتفى بوتين بتكرار موقف بلاده، التي تحمل السلطات الأوكرانية مسؤولية تعثر المفاوضات.
في مقابل الحديث عن أوكرانيا، تحدث بوتين إلى نظيره الفرنسي عن “الطبيعة الاستفزازية للتدريبات الواسعة النطاق التي تجريها الولايات المتحدة وبعض حلفائها في البحر الأسود”. ولفت إلى أن مشاركة سفن عسكرية أمريكية عدة في تدريبات في البحر الأسود الأسبوع الماضي “تحد خطير”، وقد يصعّد التوتر بين روسيا وحلف الأطلسي.
وبين الطرفين، حثّت ألمانيا موسكو على “ضبط النفس”، وذلك في بيان أمس الاثنين. بعد أن اعتبر بوتين التدريبات العسكرية التي تجريها واشنطن والحلف الأطلسي في البحر الأسود بمثابة “استفزاز”. وفق ما أورد الكرملين في بيانه.
لعبة العقوبات
لكن لعبة العقوبات، إذا ما اشتد استخدامها لدى الغرب، لن تطول لوكاشينكو فقط. بل يمكن أن تطال أردوغان -حليف الناتو- بدوره. كما ذكر الصحفي الروسي إيجور سوبوتين، في مقاله بصحيفة “نيزافيسيمايا جازيتا”.
وأشار سوبوتين إلى الأقاويل المترددة حول أن شركات طيران من تركيا والإمارات وسوريا هي المورد الرئيسي للمهاجرين إلى بيلاروس. والتي، كما تؤكد العواصم الغربية، تستخدم تدفق المهاجرين كوسيلة للضغط السياسي على الاتحاد الأوروبي.
وكتب الصحفي الروسي: “يختبرون على مينسك أدوات مختلفة للعقوبات، لكن الضرر لن يقتصر على مينسك. إنما سيصيب أولئك اللاعبين الشرق أوسطيين الذين حافظوا على الحركة الجوية معها”.
وتابع: “على الرغم من كل العقوبات الغربية المفروضة. تحظى تركيا بأكبر قدر من الاهتمام في هذا الصدد. خاصة وأن أنقرة اتُهمت هذا العام بمحاولات مساعدة مينسك على المستوى الدبلوماسي”.
معاناة إنسانية
ويعيش اللاجئون العالقون على الحدود بين بيلاروس وبولندا في أوضاع سيئة وسط طقس غير متحمل في الأيام المُقبلة. حيث يقبع بين ألفين وأربعة آلاف لاجئ -أغلبهم من أكراد العراق- في انتظار العبور إلى أوروبا.
ويتكلف اللاجئون، ومعظمهم شباب ذكور تتراوح أعمارهم بين 20 و30 عامًا؛ إضافة إلى عائلات كثيرة مع أطفالهم. ما يقرب من ثلاثة آلاف دولار لقاء الحصول التأشيرة مع بطاقة الطائرة وإقامة ليلتين في فندق بمينسك. وإذا كانت العائلة كبيرة مع خمسة أطفال، فإنهم يدفعون 18 ألف دولار.
أمّا مخيم اللجوء. فيشهد تناثر أكياس النوم التي اشتروها من البلد المضيف. لكنهم يشكون من نقص الماء والطعام. رغم محاولات تقديم المساعدات الإنسانية، والتي تمنعها الحكومة البيلاروسية في كثير من الأحيان.
على الجانب الآخر، يقسو البولنديون مع المهاجرين. فعلى طول المخيم، تجد-كل نصف متر- شخصًا بالزي العسكري يستعد للتعامل مع اختراق الحدود بقسوة.
صورة قاتمة
يصف الدكتور أشرف الصباغ، الخبير في الشأن الروسي، أزمة اللاجئين الحالية بأنها “صورة قاتمة للغاية” تفرز المزيد من التوتر في أرجاء القارة الأوروبية.
ويضيف لـ “مصر360”: المنطق المعكوس هو السائد. بمعنى أن بلاروس تعمل على تجميع المهاجرين غير الشرعيين على أراضيها، ثم تعلن أن لا دخل لها بهم، وأنهم هم الذين ينظمون أنفسهم بأنفسهم، وتدين أوروبا لأنها لا تستقبل هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين.
وكان الغرب قد فرض عقوبات على بيلاروس بسبب نتائج الانتخابات الرئاسية. التي تم انتخاب الرئيس ألكسندر لوكاشينكو فيها لفترة جديدة، حيث يشغل منصبه منذ منتصف تسعينات القرن الماضي. وكذلك بسبب انتهاك الحريات وحقوق الإنسان وقمع المعارضة أيضا.
يُشير الصباغ إلى أنه في حال فرض عقوبات جديدة، كما هدد الاتحاد الأوروبي، فإن الرئيس لوكاشينكو هدد بدوره بقطع إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أراضي بلاده.
وتابع: كان رد فعل روسيا مثيرا للدهشة، لأنها أمسكت بالعصا من المنتصف لتواصل الضغط على أوروبا من جهة، وتنتقم منها بسبب علاقتها بالولايات المتحدة. وتستخدم لوكاشينكو كأداة لهذا الضغط من جهة أخرى، وتعطيه انطباعا بأنها تساعده وتحميه من ضغوط الغرب الذي يريد إسقاط نظامه من جهة ثالثة.
تفادي الاحتكاك
يتشكل المشهد في أوروبا وحولها، وبين روسيا والصين وأفغانستان ومنطقة آسيا والمحيط الهادي وأوكرانيا والبحر الأسود. بشكل أشعر روسيا بالحصار شبه الكامل. ما يجعلها قد تقوم بأي مغامرات غير محسوبة “أو على الأقل تستخدم أطرافا أخرى للقيام بما تريده هي، لتفادي نشوب احتكاكات مباشرة مع الغرب على الأقل في الوقت الراهن”، وفق الصباغ.
وبينما يفرد الدب الروسي ذراعيه نافثًا عن غضبه، تبدو أوروبا وكأنها أصبحت الدمية التي بدأ الجميع يوجه لها اللكمات. يُرجع البعض هذا إلى بسبب طموحات بعض زعمائها، خاصة ألمانيا وفرنسا، لانتهاج شكلًا من أشكال الاستقلال عن الولايات المتحدة. عبر تكوين قوات دفاعية خاصة بها بعيدا عن الناتو، او انتهاج سياسيات شبه مستقلة عن الولايات المتحدة.
ويوضح الصحفي المقيم في روسيا أن موسكو “تلمح جيدًا الضغوط الأمريكية على أوروبا، فتزيد هي الأخرى من ضغوطها. إما باختراع مشاكل وتوظيف أدوات مثل لوكاشينكو لتنفيذها، أو بالتهديد المباشر للدول الأوروبية عن طريق المهاجرين غير الشرعيين، أو بتوجيه صواريخها إليها”.
أمّا الصين، فتتخذ نهجًا مختلفًا نسبيًا، لكنه -مع ذلك- لا يقل خطورة عن نهج كل من الولايات المتحدة وروسيا. غير أن الأخيرة التي تشعر بالحصار وبعدم الجدوى وبالخطر الحقيقي داخليًا وخارجيًا.
يظهر الشعور الروسي في التصريحات الحادة والساخنة تجاه التحركات الأوروبية. وأخرى متناقضة وغير منطقية. مع اعتماد سياسات تنكأ جراح الأوروبيين وتضغط عليهم، باستخدام تركيا تارة وباستخدام لوكاشينكو تارة أخرى أو باستخدام إيران تارة ثالثة. أو باستخدام بعض دول الخليج وشمال أفريقيا التي ساءت علاقاتها بالولايات المتحدة وأوروبا بسبب ملفات حقوق الإنسان.
حرب نوعية
يتزامن التوتر بين أوروبا وروسيا مع التواجد الأطلسي في البحر الأسود. حيث أجرت الولايات المتحدة مناورات متتالية، تكاد تكون متواصلة، مع حلفائها الأوروبيين من دول الناتو المطلة على البحر، مثل رومانيا وتركيا وأوكرانيا. الأمر الذي يسبب إزعاجا لموسكو وانتهاكا لأمنها، وتهديد الصورة التي تريد أن ترسخها في العالم من أجل بيع أسلحتها أو عقد أي اتفاقيات اقتصادية.
يشكل التواجد الغربي كذلك تهديدًا للدعاية البوتينية، التي تؤكد تواجدها عبر التحالف مع أنظمة متعددة، مثل لوكاشينكو، وبشار الأسد. في وقت تتسبب فيه مناورات البحر الأسود في إرهاق ميزانية روسيا، التي تضع قواتها طوال الوقت على أهبة الاستعداد. بل وتستنفد الكثير من الموارد.
وتشير التقديرات إلى أن تفجير أزمة اللاجئين ربما جاء بإيعاز من روسيا نفسها. التي بدأت ما يُشبه “حربًا نوعية” حقيقية ضد أوروبا على جبهتين في وقت واحد. إشعال أزمة المهاجرين غير الشرعيين على الحدود بين بيلاروس وبين بولندا، وإمداد مناطق شرق أوكرانيا بالمزيد من الدعم والمساعدات تمهيدًا لفصلها عن أوكرانيا. ومنع أوكرانيا نفسها من الانضمام لحلف الناتو.
ويلفت الصباغ إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقّع مرسومًا بزيادة الدعم والمساعدات لمدن شرق أوكرانيا. وذلك في نفس توقيت أزمة المهاجرين غير الشرعيين التي فجرتها بلاروس على حدود الاتحاد الأوروبي.
حصار روسيا
يوضح الخبير في الشأن الروسي أن القيادة الروسية الحالية تشعر بأنها محاصرة لأسباب كثيرة. على رأسها خروج القوات الأمريكية والأطلسية من أفغانستان وترك كل دولة في المنطقة تحافظ على أمن نفسها.
يقول: روسيا تشعر بالخطر وبالتهديد، سواء من طالبان أو من داعش والقاعدة. إضافة إلى مخاوفها من التواجد الأمريكي في صور مختلفة في منطقة آسيا الوسطى، وحول أفغانستان، وفيها أيضا إلى الآن. وكذلك إقامة تحالف “أوكوس” بين الولايات المتحدة واستراليا وبريطانيا في شرق آسيا والمحيط الهادي. وإقامة تحالف رباعي آخر يضم الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية واستراليا أيضا.
وأوضح أن كل ذلك قد يكون موجه إلى الصين “ولكنه أيضا يشكل خطرًا على طموحات روسيا وعلى نفوذها في شرق وجنوب آسيا والمحيط الهادي. خاصة وأنها تطرح نفسها الآن كقوة عظمى يمكنها أن تقدم الدعم لبعض الدول والأنظمة المختلفة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي”.
وبيّن الصباغ أن روسيا تشعر بالخطر، وتحاول استقطاب الصين من جهة، واستعداء تركيا -عضو حلف الناتو- ضد أوروبا والولايات المتحدة من جهة أخرى. مع تهديد أوروبا تارة بقطع إمدادات الغاز لسبب أو لآخر. أو بوضع صواريخ أسرع من الصوت على حدودها وتوجيهها إلى دول معينة من جهة ثالثة.
في الوقت نفسه، تتدهور العلاقات سريعًا بين موسكو وواشنطن، وبين موسكو وبروكسل أيضا. كما أن الغرب عمومًا يواصل فرض عقوباته على روسيا بسبب تدخلها في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم. بجانب نشاطاتها في شمال أفريقيا ومنطقة الخليج وبعض مناطق شرق وجنوب آسيا. الأمر الذي ينهكها بشكل ملموس ويسبب لها مشاكل داخلية اقتصادية واجتماعية، ومن ثم سياسية.