يكشف «المال الأسود: التاريخ الخفي لأثرياء دعموا صعود اليمين المتطرف» للكاتبة والصحافية الاستقصائية جين ماير، النقاب عن مظاهر الفساد في الواقع السياسي الأمريكي، وكيفية إنفاق «المال السياسي» على الحملات الانتخابية والدعائية، وتحكمه في مقدرات الديمقراطية الأمريكية، كاشفا أيضا عما يحدث «وراء الكواليس» في العمليات الانتخابية بالولايات المتحدة، وكيفية تشكل تحالفات اقتصادية سياسية في الخفاء، تهدف إلى الحفاظ على مصالح قلة من الأثرياء المتنفذين فقط، وكيف أطلق «المال الأسود» اليمين المتطرف من القمقم؟
«المال الأسود».. من أطلق عفريت اليمين الأمريكي؟
أجرت «ماير»، وهي صحافية متخصصة في بحث المواضيع الإشكالية على المستوى المحلي الأمريكي، تعمل مع صحيفة «نيويوركر»، في كتابها الصادر عام 2016 عن دار «دووبلدي» الأمريكية، مئات المقابلات خلال خمس سنوات. وكشفت «ماير» في كتابها عن شبكة من الأمريكيين بالغي الثراء، لهم وجهات نظر تحررية متطرفة، يموّلون «خطة ممنهجة» خطوة بخطوة لإحداث تغيير جذري في النظام السياسي الأمريكي. وفي سرد مقنع، تتبع الكاتبة كيفية إنفاق مليارات الدولارات من قبل الشبكة، لتحويل مقاليد الأمور في الولايات المتحدة إلى اليمين المتطرف، وصولا إلى انتخاب الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، الذي لا يُخفي تبنيه لأفكار اليمين المتطرف، خصوصا فيما يتعلق بملف الهجرة والمهاجرين.
كشفت «ماير» عن شبكة من الأمريكيين بالغي الثراء، لهم وجهات نظر تحررية متطرفة، يموّلون «خطة ممنهجة» لإحداث تغيير جذري في النظام السياسي
ووفق الكتاب، تعتقد هذه الشبكة التي تتكون من أكثر الناس ثراء على هذا الكوكب، أن الضرائب هي شكل من أشكال الاستبداد، وأن الرقابة الحكومية على الأعمال التجارية هي عملية اعتداء على الحريات. وهذا الاعتقاد نشأ عن الدور الحكومي في وجه المصالح الشخصية لهم ومصالح شركاتهم، خاصة أن العديد من هذه الشركات تعمل بشكل يتناقض مع قوانين التلوث الاتحادي، وتخالف القوانين المتعلقة بسلامة العمال، والأوراق المالية، وقوانين الضرائب وغيرها.
اقرأ الكتاب الأول: الإرهاب والتطرف في أوروبا.. الأسباب والمعالجات
الشخصيتان الرئيسيتان في الشبكة، هما الأخوان تشارلز وديفيد كوك، ابنا المهندس الكيميائي ورجل الأعمال الأمريكي فريد سي. كوك (1900-1967) مؤسس شركة «صناعات كوك»، وأحد الأعضاء المؤسسين لجمعية «بيرش جون» اليمينية التي اتسمت بأنها راديكالية معادية للشيوعية.
انطلقت الكاتبة من مرحلة التأسيس تلك لتناقش كل خطوة قام بها ذلك التجمع، برئاسة الأخوين «كوك» وإداراتهما في سبيل الهيمنة على التفكير السياسي في الولايات المتحدة، وبالتالي السيطرة على مفاصل الحكم في البلاد. وهي ترى أن «الأخوين كوك» وحلفاءهما من الطبقة الثرية المتنفذة «خطفوا» الديمقراطية الأمريكية، وذلك باستخدام أموالهم ليس فقط للتنافس مع الخصوم السياسيين، بل لإغراقهم.
تشير الكاتبة إلى أنه عندما أثبتت الأفكار التحررية التي كانا يناديان بها، أنها لا تحظى بشعبية لدى الناخبين بشكل قطعي، اختار الأخوان «كوك» وحلفاؤهما مساراً آخر، حيث جمّعوا مواردهم الهائلة، التي يمكنهم من خلالها تمويل مجموعة متشابكة من المنظمات التي يمكن أن تعمل بشكل متناسق للتأثير والسيطرة في نهاية المطاف على المؤسسات الأكاديمية، ومراكز الأبحاث، والمحاكم، المجالس الحكومية، بما في ذلك الكونغرس، بمجلسيه الشيوخ والنواب.
يكشف الكتاب كيف أطلق «المال الأسود» اليمين المتطرف من القمقم
تقول الكاتبة في هذا الصدد، إنه «مع المال السياسي، لا توجد وسيلة سهلة لتحديد أين تنتهي الأيديولوجية؟ وأين تبدأ المصلحة الذاتية ومسألة الفساد؟».
تشير الكاتبة إن اجتماعات هذا التجمع اليميني كانت سرية للغاية، ما يصعب من محاولة التعرف على أسماء المشاركين، باستثناء مرة واحدة. المشاركون في مؤتمرات التجمع اليميني، التي كانت تلتئم مرتين سنوياً، كان عليهم الالتزام بالسرية التامة والخضوع لتعليمات أجهزة الأمن المناط بها حماية سرية الاجتماعات. ومن ذلك، على سبيل المثال، مصادرة أجهزة «الجوال» الخاصة ومنعهم من التواصل عبر الفضاء الافتراضي مع أي كان بخصوص الاجتماع.
اقرأ الكتاب الثاني: «حقول الدم: الدين وتاريخ العنف».. هل اخترعت أوروبا الإرهاب؟
وتوضح «ماير» أن كافة المشاركين في الاجتماع، كانوا من أصحاب المليارات الذين يتبرعون بالأموال طائلة لمختلف مؤسسات ما يسمى «المجتمع المدني»، ومن ذلك مؤسسات البحث المسماة (thinktank)، ما يؤدي إلى السيطرة عليها في نهاية المطاف.
في سرد مقنع، تتبع الكاتبة كيفية إنفاق مليارات الدولارات من قبل الشبكة، لتحويل مقاليد الأمور في الولايات المتحدة إلى اليمين المتطرف
ترى الكاتبة أن الانعطاف السياسي نحو اليمين الذي تعيشه واشنطن منذ سنوات لم ينتج من فراغ، وإنما هو نتاج طبيعي لجهد طويل ومنظم قام به أصحاب المليارات الذين يسعون لفرض عقيدتهم «الليبرتالية» على البلاد، أي التحرر التام من تدخل الحكومة في الاقتصاد، مدعومين بعناصر من اليمين الأمريكي المتطرف، حيث قدموا مئات الملايين من الدولارات لدعم اليمين في مختلف الانتخابات التي جرت، وفق مقولة إن «الثروة تولد السلطة، والسلطة تولد الثروة».
تسلط «ماير» الضوء العديد من القضايا المهمة في التاريخ الأمريكي الحديث، التي كان الهدف هو ضمان الحفاظ على مصالح هؤلاء الأثرياء و«إسكات الخصوم». وتتوقف عند حملة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أنفق 66 مليون دولار من ثروته ليتم انتخابه، وحظي بدعم واسع من الجماعات اليمينية المتشددة، التي رأت فيه شخصية «المخلص» بالمعنى الديني، والذي من شأنه يخلص البلاد من كل ما يشوب «العنصر الأمريكي» من نقاء مزعوم.
ـــــــــــــــــــــــ
الكتاب: Dark Money: the hidden history of the billionairs behind the rise of the radical
«المال الأسود: التاريخ الخفي لأثرياء دعموا صعود اليمين المتطرف».
المؤلف: جان ماير
الناشر: Doubleday | Knopf Doubleday
البلد: U.S
تاريخ النشر: يناير 2016