في كتابه “العقل القويم: لماذا ينقسم الناس الطيبون حول السياسة والدين؟”، يطرح الأكاديمي الأمريكي المعروف جوناثان هايت، أستاذ علم النفس الاجتماعي في “كلية ستيرن لإدارة الأعمال” بجامعة نيويورك، عدة تساؤلات مهمة، من شأن الإجابة عليها أن تجيب على الكثير من الأسئلة المُلّحة في عالمنا المعاصر، بشأن قضايا فرضت نفسها على معظم الدول، مثل الانقسامات السياسية والمذهبية، والحروب الأهلية، والتطرف العنيف.
“العقل القويم”: كيف يؤدي الانقسام السياسي والديني إلى العنف؟
من هذه التساؤلات: كيف تتشكل الأخلاق من خلال العاطفة والحدس أكثر من التفكير المنطقي، ولماذا تحمل الجماعات السياسية المختلفة مثل “التقدميين والمحافظين والليبرارتيين (أنصار الليبرالية)” مفاهيم مختلفة عن “الصواب والخطأ”، وكيف يؤدي الانقسام السياسي والديني للعنف؟
ويبدو أن العالم الآن أحوّج من أي وقت مضى إلى مثل هذا الكتاب، حيث يشخّص “هايت” فيه عدداً من أخطر الأمراض التي عاناها – ولازال يعانيها- العالم اليوم، وخاصة عالمنا العربي، جرّاء الخلاف في فهم الدين، أو الاختلاف في مقاربة المواضعات السياسية من وجهات مختلفة، خلال الحقبة المريرة الأخيرة.
يقول الكاتب: «الآن، ومع إمكانية الوصول إلى محركات البحث من الهواتف الخلوية، يمكننا على مدار الساعة استحضار آراء فريق من العلماء لدعم أي استنتاج تقريبا، فمهما كان رأيك في أمور كمسببات الاحتباس الحراري أو شعور بعض الأجنة بالألم في بطون أمهاتهم، ما عليك إلا أن تستخدم (محرك) غوغل، لتجد ما يدعم اعتقادك، إن العلم بات مائدة مفتوحة أمام الجميع، وستعثر حتماً على الحقيقة التي تلائمك!».
الكاتب: الآن، ومع إمكانية الوصول إلى محركات البحث من الهواتف الخلوية، يمكننا على مدار الساعة استحضار آراء فريق من العلماء لدعم أي استنتاج تقريبا
يضيف المؤلف: “إذا ما فكرت أن الحجة الأخلاقية هي شيء ما نقوم به من أجل إدراك الحقيقة، فستكون باضطراد مستاءً وساخطاً إزاء كيف يصبح الناس حمقى، ومنحازين، وغير منطقيين، حينما لا يوافقونك الرأي. ولكن إن فكرت في الحجة الأخلاقية على أنها نوع من القيم اللازمة لتطورنا نحن البشر، بهدف تعزيز أجندتنا الاجتماعية، فستجد أن للأمر نفسه وجوهاً مغايرة”.
ويوضح الكاتب أن واحدة من أقدم الحقائق في علم النفس، هي أن العقل منقسم إلى أجزاء قد تتصارع في بعض الأحيان. فأن تكون إنساناً معناه أن تشعر بالانجذاب نحو اتجاهات مختلفة. وربما يسلك الشخص المؤمن بفكرة ما، سواء كانت ذات طابع إسلامي متطرف، أو ذات توجه يميني عنصري، الطريق السوي في البداية، غير أن سرعان ما ينجرف نحو الجنوح والتطرف، فيتحول إلى شخص قادر على ارتكاب أي فعل عنيف باسم الأفكار التي يعتنقها. وتصبح تلك هي نقطة التحول الفاصلة في حياته إلى الأبد.
الأشخاص الأنانيون والمشاكسون لا يتماسكون، ومن دون تماسك لا يمكن إنجاز أي شيء
ويطرح الكاتب المسألة الأخلاقية من وجهة أخرى، حيث يقول: “عندما تصل قبيلتان من عصر الإنسان البدائي، تعيشان في البلد ذاته، إلى المنافسة. وفي حال كون الظروف الأخرى متساوية، فإن القبيلة التي كانت تتضمن عددا كبيرا من الأعضاء الشجعان والمتعاطفين والأقوياء، الذين لديهم دائما استعداد لتحذير إخوتهم من الخطر، ولمساعدة بعضهم البعض، والدفاع عنهم، ستحقق هذه القبيلة – بالضرورة- نجاحاً أفضل، وتستولي على أرض القبيلة الأخرى، فالأشخاص الأنانيون والمشاكسون لا يتماسكون، ومن دون تماسك لا يمكن إنجاز أي شيء”.
ورداً على السؤال الذي قد يطرحه كثير من الناس في المعترك السياسي، وهو: لماذا لا يستمع الطرف الآخر إلى “صوت العقل”؟، يجيب المؤلف: “نحن لسنا مهيّئين مطلقاً إلى الاستماع لنداء العقل، فحينما تتوجّه إلى الناس بأسئلة تدور حول الأخلاق، وتحسب زمن استجاباتهم لها وتقوم بمسح أدمغتهم، فإنك ستجد أن أنماط استجاباتهم وتنشيط قواهم العقلية تشير إلى أنهم يتوصّلون إلى استنتاجاتٍ سريعةٍ، ثم يستحضرون أسباباً لكي يبرِّروا بواسطتها ما قرّروه سلفاً”!