ظهر هشام عشماوي، الضابط السابق الذي أعدمته السلطات المصرية بتهم إرهاب، في مسلسل “الاختيار” الذي عُرض خلال رمضان الماضي، وهو يمسك كتاب “زبدة الفوائد من كتب ابن تيمية” الذي جمعه الأكاديمي السعودي د. محمد بن عبد الرحمن العريفي، وذلك في إشارة واضحة إلى التأثير الكبير الذي تركه تراث ابن تيمية في فكر الجماعات المتطرفة.
كما استشهد أحد المتشددين الذين ظهروا في المسلسل بـ “ابن تيمية“، حين سُئل عن حكم قتل المدنيين الذين قد يصدف وجودهم مع العسكريين خلال العمليات الإرهابية، فأجاب: “إن الأبرياء يُبعثون على نياتهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية”.
ومنذ عدة عقود ظل ابن تيمية، الفقيه الحنبلي، محل جدال فكري وفقهي بين فريقين، يقفان على طرفي نقيض، الفريق الأول يرى أن ابن تيمية هو “الأب الروحي” لجماعات الإرهاب المعاصرة، أما الفريق الثاني فينطر إلى الفقيه باعتباره “شيخ الإسلام”، وأحد أهم علماء أهل السنة والجماعة على مدار التاريخ.
و”ابن تيمية” هو تقى الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام النميري الحراني “661 هـ – 728هـ/1263م – 1328م”، أحد أبرز العلماء المسلمين خلال القرن الثامن الهجري، وهو أول من دعا إلى “الجهاد” ضد التتار حين اجتاحوا البلاد الإسلامية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا تم ربط الفكر الإرهابي بالفقيه ابن تيمية، ولماذا تبنى الرجل فتاوى متشددة في عصره، ومتى بدأت الجماعات المتطرفة استخدام آراء ابن تيمية لتبرير أعمالها الإرهابية؟
ويمكن طرح السؤال بصيغة أخرى: هل “ابن تيمية”.. مُفتَرى عليه أم مُفترِي علينا؟!
الجهاد “فريضة غائبة”؟
يتهم بعض الباحثين ابن تيمية بأنه أول من وضع بذرة الإرهاب عندما أفتى بأن أي طائفة امتنعت عن تطبيق شعيرة من شعائر الله “وجب قتالها”، وقد أحصى المفكر الدكتور محمد حبش 428 فتوى لابن تيمية تجيز قتل المسلم لأخيه تحت عنوان “يُستتاب أو يُقتل”، وتلك هي القاعدة التي طبقها حسن البنا، مؤسس جماعة “الإخوان” الإرهابية، حينما أنشأ “الجهاز الخاص” للجماعة، برئاسة القيادي الإخواني عبد الرحمن السندي، من أجل تنفيذ عمليات اغتيال لمعارضي التنظيم.
الدكتور محمد حبش: 428 فتوى لابن تيمية تجيز قتل المسلم لأخيه تحت عنوان “يُستتاب أو يُقتل”، وتلك هي القاعدة التي طبقها حسن البنا، حينما أنشأ “الجهاز الخاص” للجماعة
وبعد ذلك، ارتبط اسم ابن تيمية بالتطرف حين ظهرت في مصر عام 1958 أول جماعة صغيرة ذات طابع “جهادي” على يد شاب “سلفي” اسمه نبيل البرعي، حيث وجد الشاب على “سور الأزبكية للكتب” أحد مؤلفات ابن تيمية، فاعتبر أنه قد عثر على كنز حقيقي، فالشاب الذي لم يدرس فكر ابن تيمية جيدا، رأى أنه “فقيه جهادي”.
وفي عام 1979 وضع محمد عبد السلام فرج، مفكر جماعة “الجهاد” المصرية في كتابه “الفريضة الغائبة”، التنظير الفقهي الواضح لتلك الفكرة، وأفتى بأن الحكام وحكوماتهم وأنظمتهم “مرتدون كافرون”، لأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، لذلك يجب إعلان “الجهاد” ضدهم، وهو الكتاب الذي اعتنق أفكاره قتلة الرئيس المصري الراحل أنور السادات.
من جانبه، أشار أسامة بن لادن، زعيم تنظيم “القاعدة”، إلى ابن تيمية في بيانه الشهير الصادر عام 1996، والذي أعلن فيه “الجهاد ضد الأمريكان” قائلا: “إن المؤمنين الحقيقيين سيحرضون الأمة ضد أعدائها، تمامًا كما فعل أسلافهم العلماء مثل ابن تيمية”، ومن الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن الدكتور أيمن الظواهري، تلميذ عبد السلام فرج، مارس تأثيرا فكريا كبيرا على “ابن لادن” في هذا الصدد.
ويعتبر الباحثون أن من أخطر فتاوى ابن تيمية، تلك المعروفة باسم “فتوى ماردين”، وهي بلدة جنوب شرق تركيا، التي اعتمد عليها تنظيم «داعش» الإرهابي، حيث شجع ابن تيمية في هذه الفتوى على محاربة المدينة وأهلها، وقسم البلاد إلى «دار إسلام» و«دار كفر»، وأعطى بذلك للمتطرفين فتوى تبيح لهم شن الحرب على أي مدينة وفرض أحكام الشريعة الإسلامية بفهمهم المتطرف.
“فتوى ماردين”: شجع ابن تيمية في هذه الفتوى على محاربة المدينة وأهلها، وقسم البلاد إلى «دار إسلام» و«دار كفر»
يقول الباحث طارق أبو السعد: “لقد عاش ابن تيمية في زمان ومكان مرتبكين ومضطربين، فقد وُلد بعد أعوام قليلة من سقوط بغداد، حاضرة الخلافة، العام 1258 على يد التتار، وكانت وقتها رمزا للإسلام والإيمان والانتصار، سقطت ودخلها التتار منتصرين، هكذا وبكل بساطة وسهولة؛ عندها ضج الناس، وانطلقت تساؤلات مشروعة مثل: لماذا لم ينصرنا الله؟ فكان جواب ابن تيمية حاضرا: بسبب الابتعاد عن الدين، وليس عن أسباب النصر، ثم ترتب على هذا الجواب حل كارثي؛ هو تربية جيل مؤمن بأفكاره، يكون النصر على يديه؛ فأسّس لنفسه مشروعا فكريا يظن أنّه يملك مفاتيح الحق دون غيره”.
وفضلا عن ذلك، فإن لـ ابن تيمية أيضا فتوى أخرى خطيرة تدعى «التترس»، وتنص على أن ما يسمى «المجاهد» الذي ينوى استهداف «الكفار»، إذا وجد في طريقه مسلمين، فإنه يجوز له قتلهم من أجل الوصول إلى هدفه، تطبيقا لمقولة “إن الأبرياء يُبعثون على نياتهم” المشار إليها، وقد استند تنظيم “القاعدة” إلى هذه الفتوى وغيرها من فتاوى ابن تيمية، في تبرير قتل العراقيين بأعداد هائلة من خلال تفجير السيّارات المفخخة والعبوات الناسفة.
“شرعنة” التطرف
في أطروحته “تأويل فكر ابن تيمية لدى جماعات التطرف الديني”، يقول الباحث هاني نسيرة، إن “ابن تيمية لم يكن مرجعا للتيارات السلفية المتطرفة وتنظيماتها المختلفة فحسب، بل كان ملهما لمنظري فكرة “الحاكمية” وأمراء هذه التنظيمات، ينتقون ما يوافقهم منه دون ما يخالفهم، مما يخطئون فيه”.
الباحث هاني نسيرة: ابن تيمية لم يكن مرجعا للتيارات السلفية المتطرفة وتنظيماتها المختلفة فحسب، بل كان ملهما لمنظري فكرة “الحاكمية”
ويوضح نسيرة أن الأمر يتضح في مرحلتين من تاريخ “السلفية الجهادية” وتنظيماتها: مرحلة التأسيسات التي استمرت عقودا ومرحلة المراجعات التي شهدها العقدان الأخيران، رغم أن الأخيرة لم تكن شاملة، وأنتج غلو السلفية الجهادية الأول ممثلا في تنظيمات الجهاد القطرية ثم القاعدة وفروعها والجهادية المعولمة، وفق ما يسميه الباحث “متتابعة الغلو”، جماعات أكثر غلوا شأن تنظيم “داعش”، الذي صار يصارعهم حول ماهية الجهاد الصحيح، ويرمي سلفه “القاعدي” بالبطلان والانحراف.
ويفسر الباحث ذلك بإشكالات في القراءة والفهم والاستدعاء، تمثل مصدر الاشتباه والتناقض في حضور ابن تيمية الجهادي المعاصر، وهي سبب هذا الخلاف الشاسع في الاستدعاء المعاصر لابن تيمية لدى هذه الجماعات المتفقة حينا، والمتناحرة أحيانا أخرى.
من جهة ثانية، يعتبر الكاتب محمد المحمود أن “الفكر التيموي” لن يجد قبولا له عند أحد؛ إلا عند متطرف ديني اعتقدَ التطرف سلفا، ثم ذهب يبحث لتطرفه عن تراث قديم يتشرعن به؛ حتى لا يُرمى بتهمة “الابتداع”، أما الأسوياء، أما الذين يقفون على خط الحياد الديني احتفاظا بالمشترك العام بين المذاهب، أما الأبرياء أصالة بحكم أصالة المبادئ الإنسانية العليا؛ فالنفور من تراث عنفي إقصائي هو المسلك الطبيعي، وبالتالي، هو المتوقع؛ لولا تجاذبات الصراع الأيديولوجي الذي يفترض ـ بالضرورة ـ تزييف كل الأشياء، وليس فقط مواقف وأقوال السابقين.