قبل نحو عشر سنوات، وتحديدًا في مارس 2010، أعلن عدد من كبار العلماء أن الفتاوى التي أصدرها ابن تيمية قبل أكثر من سبعة قرون، والتي اعتمدتها بعض الحركات المسلحة لتعليل العمليات “الجهادية”، تعرضت لقراءات “لا يمكن استخدامها في زمن العولمة الذي تحترم فيه حرية العقيدة وحقوق الإنسان.”
وقال علماء من تركيا وباكستان وإيران والمغرب وموريتانيا والولايات المتحدة والهند والسنغال وإندونيسيا، في بيان صدر عن مؤتمر عُقد وقتها بمدينة “ماردين” جنوب شرقي تركيا، لبحث فتوى ابن تيمية التي اشتهرت باسم “فتوى ماردين”، إن “فتوى العالم الذي عاش في القرنين السابع والثامن الهجريين، لا تبرر العنف وتقسيم العالم إلى دار كفر ودار إسلام”.
وأضاف العلماء، أن “المسلمين سواء كانوا أفرادا أو جماعات ممن أعلنوا الجهاد من تلقاء أنفسهم، وسمحوا لأنفسهم بقتل المسلمين وغير المسلمين بحجة فتوى ماردين قد ارتكبوا خطأ”، مطالبين ببذل مزيد من الجهود لتفسير الفتوى وتوضيح “سياقها التاريخي”.
كان هذا المؤتمر إحدى الفعاليات التي يتم تنظيمها منذ أعوام طويلة، للدفاع عن فكر ابن تيمية، في مواجهة الجماعات المتطرفة وعلى رأسها “داعش”، التي يرى البعض أنها “اختطفت” فقه هذا العالم الكبير، وحملّته فوق ما يحتمل سعيا لإيجاد مرجعية شرعية لما ترتكبه من جرائم إرهابية مروعة.
اقرأ أيضًا: “ابن تيمية”.. مُفتَرى عليه أم مُفترِي علينا؟ (قراءة في فتاوى الإرهاب) (1-2)
وظل تقي الدين ابن تيمية، الفقيه الحنبلي، محل جدال فكري وفقهي متصل، فبينما يرى البعض أن ابن تيمية هو “الأب الروحي” لجماعات الإرهاب المعاصرة، يعتبره البعض الآخر “شيخ الإسلام”، وأحد أهم علماء أهل السنة والجماعة على مدار التاريخ.
الاقتصاد في “التكفير”
اعتمد الفكر التكفيري الذي نظّر له محمد عبد السلام فرج في كتابه “الفريضة الغائبة”، على مغالطة أساسية، وهي الادعاء بأن فتاوى ابن تيمية أجازت تكفير نفر من المسلمين، مثل تارك الصلاة، بدعوى “الخروج عن الملة”، فضلا عن إلقاء تهمة الكفر جزافا هنا وهناك، على المخالفين في الرأي.
وفي ذلك يقول ابن تيمية نفسه في كتابه “منهاج السنة النبوية”: “إن الكفر والفسق أحكام شرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل. فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمناً ومسلماً، والعدل من جعله الله ورسوله عدلاً، والمعصوم الدم من جعله اللهُ ورسولُه معصومَ الدم، والسعيد في الآخرة من أخبر الله ورسوله عنه أنه سعيد في الآخرة، والشقي فيها من أخبر الله ورسوله عنه أنه شقي فيها”.
الدكتور محمد يسري أبو هدور: إن ابن تيمية عاش في القرنين السابع والثامن الهجريين، بينما مصطلح “الإرهاب” باستخداماته المعاصرة، هو مصطلح حديث وعلى ذلك، فإن ربط ابن تيمية بالإرهاب أمر خاطئ ومعيب
ويقول الشيخ حامد العطار، من علماء الأزهر الشريف، “كان ابن تيمية مع مدرسة أهل السنة والجماعة في الاقتصاد في التكفير، لا رَغَبا في شيء ولا رَهَبا من شيء، ولكن لأن هذا هو الدين كما فهمه علماؤنا جميعا إلا ما شذ عنهم”.
كما يجري على نطاق واسع الربط بين ابن تيمية والإرهاب، وهو ما يدحضه الكثير من المتخصصين والأكاديميين، إذ يقول الدكتور محمد يسري أبو هدور، أستاذ التاريخ الإسلامي، إن ابن تيمية عاش في القرنين السابع والثامن الهجريين، بينما مصطلح “الإرهاب” باستخداماته المعاصرة، هو مصطلح حديث يعود للفترة “ما بعد الكولونيالية”، وهو مصطلح حداثي مثله مثل مصطلحات “القومية” أو “الوطنية”. وعلى ذلك، فإن ربط ابن تيمية بالإرهاب أمر خاطئ ومعيب، يتم فيه “تلبيس” الشخصيات التاريخية بأحكام معاصرة.
الفقيه “ابن عصره”
من جهة أخرى، يرى المدافعون عن ابن تيمية أنه “ابن عصره”، وأن الفتاوى التي اجتهد فيها هي نتاج ذلك العصر، حيث يرى المستشرق ريتشارد دي تشيلفان، أن تشدد ابن تيمية لا يجب أن ينفصل عن عصره، الذي شهد تراجعا كبيرا للمذاهب السلفية، مما وضعها في حالة تشدد أمام انتشار المذاهب الصوفية، الأمر الذي شعر معه ابن تيمية بقرب ضياع تراث السلف، وجعله يتشدد في مواجهة المجتمع، معتقدا أن هذا هو السبيل لاسترداد عنفوان الأمة الإسلامية في ذلك الزمان.
من جانبه، يقول الدكتور محمد عبد العاطي، أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، إن “كل ما جاء على لسان ابن تيمية يجب أن يوضع في إطاره الفكري الديني، وهنا يجب أن نفرق بين الفكر والدين ومن المغالطات الجمع بين الاثنين في بوتقة واحدة، إذ أن الدين نص مقدس أما الفكر وهو نتاج عقلي فيؤخذ ويرد عليه دون حرج. ويجب الربط بين الرأي في أية اشكالية دينية والزمن الذي قيلت فيه، فلكل زمان اشكالياته وأزماته التي تتطلب أراء فقهية تتناسب مع الوضع العام”.
الدكتور محمد عبد العاطي: كل ما جاء على لسان ابن تيمية يجب أن يوضع في إطاره الفكري الديني، وهنا يجب أن نفرق بين الفكر والدين ومن المغالطات الجمع بين الاثنين في بوتقة واحدة، إذ أن الدين نص مقدس أما الفكر وهو نتاج عقلي
ويشير المدافعون عن الفقيه الحنبلي إلى أن ما لحق به من اتهامات عائد إلى فترات زمنية تلت وفاته، وقع فيها “توظيف خاطئ” لأفكاره وفتاويه من قبل بعض المتشددين، فضلا عن معاصري الفقيه من أعدائه، الذين أخرجوا تلك الأفكار من سياقها، وأقحموها على سياقات أخرى لا علاقة لها بها مطلقا.
وإلى ذلك، يقول أبو حفص البزار (ت – 749هـ): “ولم يزل المبتدعون أهل الأهواء، وآكلوا الدنيا بالدين، متعاضدين، متناصرين في عدوانه، باذلين وسعهم بالسعي في الفتك به، متخرصين عليه الكذب الصراح، مختلقين عليه، وناسبين إليه ما لم يقله ولم ينقله، ولم يوجد له به خط، ولا وجد له فيه تصنيف ولا فتوى، ولا سمع منه في مجلس”.
من جانبها، تؤكد “دار الإفتاء” المصرية أنه “وقع اختلال في الفهم من بعض المتشددين حيث تعلقوا بفتوى ابن تيمية لأهل ماردين، دون الرجوع إلى أهل العلم والاختصاص، ليبينوا فحوى هذه الفتوى ومعناها والسياق الذي قيلت فيه، والذي أدى إلى هذا الاختلال هو عدم الوقوف فضلا عن الدربة والاستخدام للمنهج العلمي في كيفية توثيق النصوص وفهمها لدى علماء المسلمين”.
“دار الإفتاء” المصرية: وقع اختلال في الفهم من بعض المتشددين حيث تعلقوا بفتوى ابن تيمية لأهل ماردين، دون الرجوع إلى أهل العلم والاختصاص، ليبينوا فحوى هذه الفتوى ومعناها والسياق الذي قيلت فيه
وأشارت الدار إلى أن غياب التوثيق في فتاوى ابن تيمية أدى إلى تحريفها بشكل أهدر كثيرا من دماء المسلمين وغيرهم، بل وأضر بمقاصد الشريعة وأهدافها، وتسبب في تشويه صورة الإسلام والمسلمين، ووصمهما بالتطرف والعنف والإرهاب وبخاصة وأن ترجمة الفتوى إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية قد اعتمدت النص المُصَحَّف.
وتابعت الدار، أنه “لا يجوز أن تكون فتوى ماردين لابن تيمية سندًا لاستباحة دماء الناس وأموالهم، واستباحة دم شخص معين أو ماله من وظيفة المفتي والقاضي، وتقوم السلطات المختصة بتنفيذ ذلك الحكم، ولا يترك بحال لآحاد الناس أو لجماعة من الجماعات وإلا اختل ميزان العدل والشرع”.
وهذه هي النقطة الأساسية في علاقة الفقيه بجماعات التطرف، حيث يعود “توظيف ابن تيمية” إلى مشكلات القراءة المتطرفة لتراثه، وعدم إدراك اختلاف التراتب والأوليات والتصورات الحاكمة لمواجهة أزمتين إسلاميتين مختلفتين؛ أولاهما في عصر ابن تيمية والأخرى في عصر هذه الجماعات، فبينما كان عصر ابن تيمية تتسيده الأزمة الكلامية والعقدية وحروب التتار والصليبيين، كانت قضية الشريعة والإمامة والحاكمية هي المتسيدة لدى هذه الجماعات.