“سأكتفي من صناعة الأفلام، سأعتزل من أجل القراءة والتدخين”.. كان المخرج البولندي المخضرم كريستوف كيشلوفسكي يضع المشهد الأخير في مسيرته الشاعرية الفلسفية والإخراجية في آن معًا. تاركًا مسيرة حافلة من التساؤلات الوجودية والبحث في ماهية الأشياء وعلاقة البشر، والصور المتحركة، حتى قيل عنه ذات مرة إن كيشلوفسكي حلقة الوصل بين سقراط والسينما.
واحدة من الصور التي تنقَّل كيشلوفسكي بين رموزها، تلك المتعلقة بالحب والخيانة، والنظرة الفلسفية لعلاقة الإنسان بغيره. والسؤال الفلسفي الوجودي: لماذا أحب رغم احتمال الخيانات غير القابلة للحصر؟ ثم يترك مساحة لتساؤلات بدون إجابات. وهكذا كحال أغلب أعماله، يغوص في معانٍ فلسفية، ويترك المشهد مفتوحًا، ذلك أنّ أعماله بمثابة مشهد سينمائي بعقل فلسفي وصورة ساحرة.
لذلك، خصصت الدورة الرابعة عشر من بانوراما الفيلم الأوروبي، المقامة في القاهرة حاليًا، مساحة للمخرج البولندي، ليكون حاضرًا بثلاثيته الشهيرة التي تحاكي العلم الفرنسي، وتقدم معاني (الحرية والمساواة والإخاء)، وذلك من خلال تخصيص عروض خاصة لسينما كريستوف كيشلوفسكي.
وبالإضافة إلى “ثلاثية الألوان” (أزرق، أحمر، أبيض)، يشاهد رواد البانوراما “فيلم قصير عن الحب” و”فيلم قصير عن القتل” و”الحياة المزدوجة لفرونيكا”. ويعرض برنامج البانوراما في هذه الدورة أكثر من 45 فيلمًا، ما بين الأفلام القصيرة والطويلة والتسجيلية.
كريستوف كيشلوفسكيالبانوراما تتيح فرصة للتعرف على الأفلام التي تحكي قضايا وأزمات الإنسان الأوربي المتجاوزة مكانها؛ لتحكي مآسٍ أخرى متعددة عن العالم. وفق ما تقول ماريان خوري المنتجة ومؤسسة فكرة البانوراما.
كيشلوفسكي.. رسول الفلسفة للسينما
وهنا تستحوذ أعمال المخرج البولندي الكبير على الاهتمام الأكبر في الحدث، نظرًا لمكانته كأحد البارعين في تقديم مستوى آخر من الأفلام التي تلقي نظرة إلى الإنسان في ذاته، بحثًا عن الفراغات بداخله، في سياق لا يخلو من اهتمام بصري فائق، يترك المشاهد في حالة من التفكير والتأمل، ثم يثير بداخله أسئلة ذات إجابات غير يقينية.
لا تخلو أعمال كيشلوفيسكي من جوانب عن احتياجات الإنسان وعواطفه، فضلاً عن اضطراباته الأخلاقية والنفسية. ثم يفتح الباب لإعمال العقل عندما يقدم توثيقًا لحياة الناس اليومية، بشكل لا يتنقصه الشاعرية، التي انتهجها في كثير من أعماله.
كما يبدو منفردًا في أعماله عندما يبحث عن ماهية الأشياء، وعلاقة البشر بعضهم البعض، فضلاً عن علاقة الإنسان بخالق. ثم تتبدل الصور في مشاهد درامتيكية ليجد المشاهد نفسه في حالة من التفكير العميق عن الحب، والفراغات بداخله، ويلحظ من خلف الكاميرا معاني عن تقدير الذات، أو الأنانية.
ثلاثية الإنسان المذهلة
“لو كنت نبيًا بدون الحب سأكون كالعدم، الحب صبور، الحب رقيق، الحب يتحمل كل شيء، ويعرف كل شيء”. تلك كانت الكلمات التي تنقلها الأوركسترا في آخر أفلامه الفلسفية الشاعرية. المتأمِّلة في العالم أكثر من كونها مفسرة له أو منظِّرة عليه، الفيلم الأول في الثلاثية: الأزرق. وربما تحمل المعنى ذاته أو الألفاظ ذاتها التي جاءت في الإصحاح الثالث عشر من رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كرونثوس.
قبل أن نحاول استحضار كل هذا الحب الذي يحمله المخرج البولندي الذي مات بعد استخدام تلك الكلمات بعامين فقط. ربما سنحتاج إلى معرفة الطريق الوعرة التي سلكها؛ لإظهار كل هذا الحب الزائد عن حاجة العالم المادي الكبير الذي عاشته بولندا وقتها، ولا زال يعيشه العالم. إذ اختار أن يحكيه في إطار قصصي لا يربطها الحب قدر ما تربطها الخيانة. الصفة التي اعتقد أن تقف في مواجهة الحب أكثر من الكره الصريح.
كثير من الفلسفة قليل من التفسير
كان يمكن أن تتناسى بطلة “الأزرق” توترها وحيرتها بعد موت الزوج والابنة إذا تناست فقط قليلًا من الحب. وكان يمكن أن تبقى البطلة الثانية بالأبيض الخالص والاكتفاء به دون غيره باستجداء القليل من الحب. وكان يمكن أن تستمر فتاة “الأحمر” في حياتها بدون سلك حياة جديدة لولا الحب الذي يتملّكها تمامًا. كل هذا الحب لا تظهره سوى خيانات متتالية تتكشف واحدة تلو الآخرى للبطلات الثلاث. وذلك من خلال التعرف على وجود عشيقة للزوج المتوفي في الأولى. والتصريح بوجود عشاق مختلفون لتعويض الضعف الجنسي الذي يعيشه الزوج في الثانية. وأخيرًا معرفة التلاعب الذي يقوم به البطل وخيانته للفتاة الهادئة التي تحبه دون غيره في الثالثة.
ثلاثة أبطال تبدأ الكادرات الأولى لقصصهم على الطريق، دون فواصل أو تمهيد للحكاية يجد المشاهد نفسه متورطًا مع الكاميرا والحكاية والأبطال، الجميع أمام تأملات فنية لمخرج يلقي أفكاره الأخيرة قبيل احتضاره.
ثلاثة أبطال تبدأ الكادرات الأولى لقصصهم على الطريق، دون فواصل أو تمهيد للحكاية. يجد المشاهد نفسه متورطًا مع الكاميرا والحكاية والأبطال. الجميع أمام تأملات فنية لمخرج يلقي أفكاره الأخيرة قبيل احتضاره.
حرية مشروطة ومتوهمة عاشتها الأرملة التي حاولت التخلص من حياتها بعد موت حبيبها. والمشاركة المنافقة التي توهمها مواطن بولندي مهاجر أحب فرنسية في فرنسا. ثم المساواة المتخيلة التي حاولت بطلة بالأحمر تحقيقها. كل تلك الخيانات والأوهام لم يحكمها سوى الحب، المحرك الأول للعالم برغم كل شيء وبصرف النظر.
تقنية الصورة ومصير السينما
عبر مجموعة من الأفلام يحاول المخرج إظهار خصائص أسلوبية محددة تعاود الظهور وتقوم مقام توقيعه. وهنا يُرى شخص بلغ من العمر أرذله يحاول أن يلقي بزجاجة فارغة في صندوق قمامة. والمشهد نفسه في الأفلام الثلاثة؛ الأولى غير عابئة بالمشهد مغلقة عينيها. الثاني يضحك للانتصار ونجاح محاولة العجوز إلقاء الزجاجة من مكانه، والأخيرة تذهب بطاقة الحب كاملة تأخذ الزجاجة من العجوز وتلقيها. وربما هو المشهد الوحيد الأكثر مباشرة ووضوحًا لمعرفة شخصيات الأبطال وردود أفعالهم، التي ستصدمهم أمام الحب الذي يحملونه وربما كتوقيع صريح للمخرج نيابة عن أبطاله.
الأفلام تصبح فقط أعمالاً فنية بالمونتاج. لكن السينما في أفضل لحظاتها تجعلنا غير معتادين على المونتاج واستخداماته المتداخلة في صناعة العمل الفلسفي التعبيري. كأفلام اختار كيشلوفيسكي صناعتها. كل شيء يعتمد على الصورة بحيث يتلاقى العالم الفانتازي للماضي مع العالم الحالي.
أدرك المخرج أن تقنية الصورة ستحدد مصير السينما “حيث يلعب الضوء والظلمة والسينما الدور ذاته للإيقاع والأنغام في الموسيقى”. هكذا قال إيزنر في المجلد الكبير “تاريخ للموسيقى السينمائية”، تلك التي جاءت في الثلاثية لتشبه مصباح صغير تضعه وراء الشاشة لتدفئتها.
رحلة كيشلوفسكي.. مسيرة حالمة لمخرج فذ
ثمة دعابة فلسفية قديمة تقول إن أحد أساتذة الفلسفة كان يلقي محاضرة في الدفاع عن “الإنانة”. وهي باختصار نظرية تعني أنه لا يوجد سوى عقل واحد فقط، وكل ما يبدو لنا على أنه حقيقة خارجية وإناس آخرين هو علم يأخذ مكانه في العقل وليس حقيقة.
السؤال الفلسفي الوجودي: لماذا أحب رغم احتمال الخيانات غير القابلة للحصر؟ يبقى مستعصيًا على الإجابة. يكفينا التعامل معه من بعيد مثلما تعامل الفلاسفة مع نظرية الإنانة، تأمله من بعيد مثلما فعل كيشلوفسكي
أقنعت المحاضرة الطلاب لدرجة أنه بمجرد الانتهاء منها توجه بعضهم في حماس يشدّوا على يد أستاذهم ويبدون إعجابهم به. فقال واحد: أنا متفق مع كل كلمة. وقال الآخر: وأنا كذلك. فقال الأستاذ: أنا ممتن جدًا، إذ من النادر أن يصادف المرء فرصة الالتقاء بمن يعتقدون في الإنانة. وهو رد بمثابة دعابة عبقرية؛ يصلح كمضاد للنظرية المُعجَب بها ذاتها. والتي لا تعتقد سوى وجود عقل واحد بين الجميع؛ فإما أن يكون الأستاذ فقط هو الموجود والطلبة وهم في خياله؛ وهنا تنتفي مساهمات إعجابهم بذكائه.
وإمّا أن يوجدوا ويصبح الإعجاب موجَّهًا للعدم، ومن ذلك يعلم معظم دارسو الفلسفة أن هناك بعض القضايا غير قابلة للدفاع عنها وإبداء الإعجاب بها أو تدميرها كليًا. هي معضلة أبدية ستظل كذلك، وربما هي معضلة الحب ذاتها. تأمل خيانات الحب لدي كيشلوفسكي لم تؤكد سوى الحب مرة أخرى، تنتج ذاتها فلسفيًا رغم محاذير نبذها.
لدى تلك النقطة، فإن السؤال الفلسفي الوجودي: لماذا أحب رغم احتمال الخيانات غير القابلة للحصر؟ يبقى مستعصيًا على الإجابة. يكفينا التعامل معه من بعيد مثلما تعامل الفلاسفة مع نظرية الإنانة، تأمله من بعيد مثلما فعل كيشلوفسكي. الموافقة عليه تعني المخاطرة ورفضه يعني الوقوع في شباكه بشكلٍ ما، كلاهما غير قابل للدفاع عنه وإبداء الإعجاب به أو تدميره كليًا. تبقى الحيرة رغم المتعة التي حققها الفيلم كأي عمل فني مخلص لا ينظّر فقط، يتأمل ويتساءل ويترك الإجابات لكل مشاهد يقرر وحده.