بات تعبير تريند (Trend) يستخدم على نطاق واسع في أعقاب «هوجة» تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي عن خبر أو حدث أو واقعة قديمة (يتم إحيائها). بعضها مصطنع وبعضها الآخر حقيقي، وبعضها الثالث مبالغ فيه، لكنها جميعًا تصبح «تريند».
صحيح، هناك مواقع صحفية تجري أيضًا وراء «التريند»، بنسج قصص وهمية أو وضع عناوين مثيرة، لا علاقة لها بمضمون الموضوع، لتضمن متابعة أوسع لموقعها (Traffic) أو تشارك بهمه في «تريند زائف».
والمؤكد أن ظاهرة «التريند» عالمية، وقد يكون ورائها أجهزة دول، أو تنظيمات أو جماعات ضغط، ولوبيهات السلطة والمال. لكنها ستبقي مستفحلة في البلاد التي لا تناقش قضاياها ومشاكلها الحقيقية، فيخلق نقاش وهمي في الهوامش لا يحمل أي مضمون ويتحول إلى «تريند» يشغل الناس.
وقد بدا لافتًا مؤخرًا تعليق الكثيرين على القضايا الزائفة التي تنهال عليهم. وبدا أن هناك «وعي ما» بدأ يتشكل بأن هناك شيئًا غير طبيعي. وهو يحول مشاكل بلادهم في السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة إلى «تريندات» في قضايا هامشية على مواقع التواصل الاجتماعي.
فما أن انتهى مهرجان الجونة السينمائي، الذي تحدث فيه البعض عن كل شيء إلا السينما. وكانت ملابس الفنانات المصنوعة لعمل «تريند» أهم من أي مضمون فني. بل كانت وسيله لشهرة بعضهن، حتى دخلنا في «الشريط الأثري» للقس زكريا بطرس، وهو الأكثر خطورة. حاولت أن توظفه جماعات التحريض والتطرف ولم تنجح، وتواكب معه مهاجمة بعض النواب جنبًا إلى جنب مع مواقع إخوانية لأحد الفنانات لاستعداها لتمثيل القصة المترجمة للفيلسوف الفرنسي الشهير «جان بول سارتر» «المومس الفاضلة» في عمل مسرحي. وهي التي سبق ونشرت في مصر في ستينيات القرن الماضي كعمل أدبي وفلسفي رفيع يتحدث عن العنصرية.
على مدار سنوات ظهرت «تريندات» كثيرة، كان أبطالها خناقات الفنانين، والمطلقات، وقصص رئيس نادي الزمالك السابق، ومعارك الرياضة، والتحفيل المتبادل بين الأهلي والزمالك وسيدة القطار والمطار. وهي أمور اعتبرها كثيرون اشتغالات للرأي العام.
والحقيقة، أن السؤال الذي يطرح نفسه هل كل «التريندات» مصنعة أو سابقة التجهيز؟ أم أنها ظاهرة طبيعية تعكس واقع مأزوم وتربة مجتمعية تجعل من الكلام الفارغ حديث المدينة؟
المؤكد أن هناك جانب مصنع من هذه «التريندات». ولكن المؤكد أيضًا أن الواقع المجتمعي غير القادر على مناقشة قضاياه الحقيقية، سيضطر بحكم الغريزة أو الفطرة الإنسانية أن يناقش ما هو مسموح امامه، ولن يجد في كثير من الأحيان إلا ما هو شكلي وهامشي، أو ما يمثل فرصة لكي يصرخ وبعبر عن آلامه بالرفض أو الاحتجاج.
يقينا، هناك فرق بين «التريند» المصنوع، و«التريند» الحقيقي؛ فالأول يختلق واقعة غير موجودة أو يستدعيها من الماضي ليوظفها. أما الثاني فهو يوظف أو يستثمر في واقعة حقيقية لأغراض سياسية أو لتحيزات اجتماعية. الأول بالقطع عمل غير مشروع ومجرم في كل البلاد الديمقراطية وأي دولة قانون، والثاني غير مدان قانونًا طالما لم يختلق الواقعة أو يألفها.
لذا، سنجد في مجتمعاتنا «تريندات» كثيرة أبطالها من الواقع. فالصور التي انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن تكدس الفصول الدراسية، لم تكن مختلقة، وإنما كانت حقيقية وعملت «تريند» هائل. كما أن تصوير ما جرى في مستشفى الحسينية في محافظة الشرقية في مطلع هذا العام من نقص أوكسجين أدى إلى وفاة مرضى، وصورة الفتاة التي شعرت بقله الحيلة والعجز عن مواجهة الفيروس القاتل فانزوت في أحد جوانب غرفة العناية المركزة في مشهد إنساني مؤثر عمل «تريند» على مواقع التواصل الاجتماعي غير مسبوق، ولكنه حقيقي.
صحيح أن في البلاد المتقدمة هناك قوانين تنظم المجال العام سواء كان سياسيًا أو إعلاميًا، بحيث لا يمكن مناقشة شائعة أو كذبة على أنها حقيقة، وإلهاء الناس بها، فطالما كذبت فأنت بالقطع ستحاسب وفق قواعد أي دولة قانون. ولكن إذا وظفت حدثًا حقيقيًا أو بالغت في خطأ سقط فيه خصومك أو منافسيك من أجل البحث عن «تريند» فأنت تمارس عملاً غير مجرم قانونًا، حتى لو كان غير مقبول أخلاقيًا.
إن المجتمعات الصحية التي تعرف نقاشًا عامًا حول قضاياها الحقيقة يكون فيها «التريند» تعبيرًا عن قضية حقيقية، سواء عن خناقة بين مشروعين سياسيين كبار: يسار أو يمين، أو حول سياسات مطبقة في الصحة والتعليم في مواجهة سياسات أخرى رافضة لها، أو قضية فساد صادمة وغير متوقعة، ولكنها حقيقية وغير مختلقة. كل ذلك يصنع تريند حقيقي وغير زائف.
صحيح هناك شخصيات لديها قدرة على «صناعة تريند». فالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كان لديه القدرة على قول التصريح وعكسه، وموهبة الاشتباك الإعلامي مع حلفائه وخصومه، والإتيان بتصرفات غريبة وغير متوقعة، وهي كلها تعكس جانب حقيقي في شخصيته.
أما في مرحلة ما قبل «التريند الفيسبوكي»، صنع زعماء وقادة وسياسيين كبار «تريندات» في الصحافة ووسائل الإعلام، نتيجة سياسات حقيقية كانت محل جدل وخلاف عالمي كبير.
يقينا زعيم مثل عبد الناصر ورئيس مثل السادات صنعا بتوجهاتهما المختلفة «تريندات» عصرهما. فعبد الناصر كان بطل تحرر وطني، وكان حديث الدنيا والعالم منذ الخمسينيات وحتى وفاته عام 1970. بينما السادات قاد حرب أكتوبر، ووقع على اتفاقية سلام مع إسرائيل، كانت حديث العالم شرقًا وغربًا، وركبت وقتها «تريند» الصحافة الكبرى في العالم أجمع.
تاريخ العالم فيه أحداث كثيرة وأبطال في الفن والفكر والسياسة صنعوا بمعيار زمنهم «تريندات» مؤثرة. وكل من بقى اسمه حاضرًا في التاريخ هو الذي صنع «تريند حقيقي» وغير زائف.
علينا أن ندافع عن الحقيقة أي كان مكانها وزمانها، سواء صنعت «تريند» أم لا، وعن الخبر الحقيقي لا المختلق، والصورة الحقيقية لا «الفوتو شوب»، والرقم كرقم ليس فيه وجه نظر، فطالما حقيقي يصبح توظيفه كتريند مقدور عليه، وتصويبه أو ترشيده وارد، فالمهم ألا يكون «تريند زائف» أو مختلق.