حقق طلب الإحاطة الذي تقدم به النائب في مجلس النواب، أيمن محسب، إلى رئيس المجلس بخصوص ما أبدته الممثلة إلهام شاهين من “رغبة” في تمثيل مسرحية “المومس الفاضلة”، على أن تقوم بإخراجها الفنانة سميحة أيوب، ما لا يمكن بسهولة، الإحاطة به من فوائد؛ فقد بيّن بجلاء أن في مصر مجلس نواب، يلاحق الحكومة في أدق تفاصيل أدائها، وأن العلاقة بين البرلمان والحكومة ليست على الدوام علاقة وئام ووفاق ومحبة وقبول وتراضي، في مصر حياة برلمانية حقيقية، هذه أولى الفوائد العامة، أما على صعيد السيرة البرلمانية للنائب، فقد تكشف- بعد البحث الواجب- أنه نائب ناشط للغاية في ممارسة دوره البرلماني، كما سيرد لاحقا، والنائب في طلب الإحاطة كان يستند إلى تفسيره لنص المادة (47) من الدستور: “تلتزم الدولة بالحفاظ على الهوية الثقافية المصرية بروافدها الحضارية المتنوعة”، خارج البرلمان تبين بوضوح- أيضا- أن في مصر صحافة حرة، تمارس دورها الطبيعي، فقد أفردت الصفحات للفنانة كي تعبر بحرية مطلقة عن إصرارها على ممارسة حقها الدستوري، كما بينته الفقرة الأولى من المادة (67) من الدستور: “حرية الإبداع الفنى والأدبى مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك”.
لا يمكن، إذًا، بسهولة الإحاطة بالفرص الذي أتاحها طلب الإحاطة للمعرفة والبحث والنقاش، وهذه محاولة:
**************
كيف بدأت الحكاية؟
حدث في يوم الإثنين، 8 نوفمبر الحالي، أن الممثلة إلهام شاهين كانت تشارك في ندوة تكريم الفنانة سميحة أيوب، ضمن فاعليات الدورة السادسة لمهرجان شرم الشيخ للمسرح الشبابي، التي حملت اسم سميحة أيوب، والتقطت شاهين طرف حديث من أيوب، وبنت عليه “أمنية”، وصاغتها بطريقة دعائية ماهرة، فقد كانت أيوب تتذكر أهم الأدوار التي أدتها على المسرح، فقالت: “المومس الفاضلة”، فعلقت شاهين “تصوروا مسرحية المومس الفاضلة تمثلها إلهام شاهين وتخرجها سميحة أيوب”. حديث ذكريات، وتعليق أماني، في أجواء تكريم “شبابي” واحتفال بماضٍ.
في القاهرة قرأ النائب الدكتور أيمن محسب الخبر، وعلى الفور، حرر طلب الإحاطة، وقدمه.
من هو النائب محسب؟
المعلومات وفيرة، يمكن البدء بسيرته قبل دخوله مجلس النواب، فهو: أيمن محسب سالم فرج، ونقرأ أنه في يوم 2 أغسطس 2020، كان مرشح حزب الوفد لمجلس الشيوخ عن دائرة محافظة الجيزة، وأنه: عضو هيئة جامعة 6 أكتوبر (لم أجد اسمه في موقع الكلية الرسمي ضمن هيئة التدريس، أو الهيئة المعاونة)، وتلقى تعليمه الجامعي وما بعد الجامعي في جامعة السربون فرنسا (IDAI)- جامعة عين شمس- جامعة بورسعيد- جامغة حلوان، ويقوم بتدريس القانون والإدارة بكلية الاقتصاد والإدارة، وهو عضو في نقابتي: المحامين والتجاريين، وهو رئيس مجلس إدارة مجموعة شركات DDA للنشر- الأمن- نقل الأموال- الإعلان، وأخيرا، هو من أبطال مصر والقوات المسلحة في الكاراتيه- حاصل على الحزام الأسود.
ولكن بعد أيام من نشر الملصقات الدعائية للدكتور محسب، كمرشح لعضوية مجلس الشيوخ، تحول ليكون عضوا في القائمة الوطنية عن قطاع القاهرة ووسط الدلتا، و”القائمة الوطنية لتحالف الأحزاب من أجل مصر”، كما هو معروف، “تحالف انتخابى لم يحدث من قبل ضم 12 حزباً من تيارات مختلفة، إضافة إلى تنسيقية شباب الأحزاب”، في نوفمبر 2020، نجحت القائمة، وأصبح الدكتور أيمن محسب، مساعد رئيس حزب الوفد لشؤون الإعلام عضوا في مجلس النواب، واختار عضوية لجنتي: القيم والخطة والموازنة.
أما سيرته البرلمانية، قبل “إحاطة المومس الفاضلة”، فغزيرة، فخلال دورات انعقاد البرلمان لم تمر ثلاثة أيام من دون أن يمارس النائب أدواره البرلمانية المختلفة، ويمكن أن نورد، فقط، ما تقدم به خلال الأيام العشرة السابقة على “الإحاطة” محل بحثنا:
- طلب إحاطة يحذر من ألعاب الفيديو: ترسخ للقتل والعنف لدى الأطفال في غياب للرقابة
- طلب إحاطة لعدم تناسب إيرادات قطاع السياحة والآثار مع معالم ومقومات مصر
- طلب إحاطة بسرعة حل مشكلة عدم تفعيل “كارت الفلاح”
- طلب إحاطة باقتراح برغبة لتشكيل غرفة عمليات للرقابة على الأسعار
- اقتراح لتعميم التطبيق الإلكتروني للقاح كورونا بجميع الوزارات والمصالح الحكومية والقطاع الخاص.
ثم أن القضايا “الكبرى” كانت محل نشاط النائب:
قال الدكتور أيمن محسب: إلغاء الطوارئ رسالة للعالم بأن مصر آمنة. والرئيس السيسي نموذج لقائد فريد من نوعه. مصر صمام الأمان فى المنطقة والقضية الليبية تحظى باهتمام خاص للرئيس السيسي.
طوال عام برلماني كامل كان النائب الدكتور محسب يمارس دوره الذي انتخبه الشعب المصري بكامل الحرية والديمقراطية كي يمارسه، وقد بذل النائب، وهو خبير إعلامي، وصاحب شركة متخصصة في ذلك، كل ما يملكه من قدرات، كي يعلم الكافة بدوره هذا، فهل نجح؟
بلا شك، نجح في طلب “الإحاطة” الأخير، بجدارة.
**********
ما هو طلب الإحاطة؟
بحسب الباب السابع من اللائحة الداخلية لمجلس النواب المصري، نعرف أن هناك أربعة وسائل وإجراءات للرقابة البرلمانية، هي: الأسئلة، طلبات الإحاطة والبيانات العاجلة، الاستجوابات، سحب الثقة.
النائب وجد أن مجرد إعلان “النية” يستوجب الذهاب مباشرة إلى الوسيلة والإجراء الثاني، وليس مجرد السؤال: هل تنوي أيٌّ من مؤسسات أو هيئات الحكومة إنتاج المومس الفاضلة، أو التصريح بعرضها، إذا ما كانت الجهة المنتجة لا تتبع الحكومة؟، فكتب طلب الإحاطة وقدمه، وبحسب اللائحة، وفي مادتها (212) فإنه “لكل عضو أن يقدم طلب إحاطة إلى رئيس مجلس الوزراء، أو أحد نوابه، أو أحد الوزراء، أو نوابهم، يحيطه علما بأمر له أهمية عامة ويكون داخلا فى اختصاص من يوجه إليه. ويجب أن يقدم طلب الإحاطة كتابةً إلى رئيس المجلس محددًا به الأمور التى يتضمنها، ومبينًا صفتها العامة، وتقيد طلبات الإحاطة فى سجل خاص بها وفقا لتاريـخ وساعة ورودها”.
أكد النائب أن ذلك تم، وسنعرف فيما بعد أسباب طلبه الإحاطة، لكننا سنكمل مع “اللائحة”، لنتبين ما تقرره بعد التقدم بالطلب، ولنعرف أولاً أنه بحسب تعريفها اللغوي، فإن الإحَاطَةُ بِالموْضُوع، تعني: الإِلْمامُ بِهِ، التَّمَكُّنُ مِنْهُ، العِلْمُ بِهِ، من المؤكد أن النائب لم يطلب الإحاطة بنية إلهام وسميحة، لكن بما ستقرره الحكومة تجاه نيتهما.
ماذا سيحدث مع الطلب؟ هناك طريقان، توضحهما اللائحة، الأول: لمكتب المجلس أن يقرر حفظ الطلب، بناء على عدم توفر الشروط المنصوص عليها فى المواد المذكورة مع إخطار العضو كتابةً بذلك. وللعضو الاعتراض على ما قرره مكتب المجلس بطلب كتابي مسبب يقدمه لرئيس المجلس خلال سبعة أيام من تاريخ الإخطار، ويعرض الرئيس اعتراض العضو على اللجنة العامة فى أول اجتماع لها لاتخاذ ما تراه فى شأنه.
الطريق الثاني: يبلغ رئيس المجلس طلب الإحاطة إلى من وُجِّه إليه خلال ثلاثين يوما من تقديمه. ويدرج مكتب المجلس طلبات الإحاطة التى يتم تبليغها في جدول أعمال الجلسة التالية لانقضاء سبعة أيام على إبلاغها بحسب أهمية الأمور التى تتضمنها وخطورتها.
علينا الانتظار شهرًا لنعرف أي طريق سيسلك طلب الإحاطة.
في مبررات طلب الإحاطة ذكر النائب أن “طريقة التناول والمعالجة للمسرحية التي كتبها المفكر الفرنسي جان بول سارتر، قبل أكثر من 75 عامًا، غير مناسبة للمجتمع المصري، بل ومن الممكن أن يطلق عليها (فن إباحي)”.
ليس عنوان المسرحية ما يطلب الإحاطة به، فقد يمكن تعديله، يمكن إسقاط الكلمة الأولى ويكون عنوانها “الفاضلة”، فقط، وهذا إجراء لا غبار عليه، ويدخل ضمن حق المخرج في التعامل مع النص، كما يراه بحسب “رؤيته الإخراجية”، يمكنه أيضا أن يحذف جملا، وليست فقط كلمات، سارتر نفسه قام بذلك، حين عرضت المسرحية في الاتحاد السوفيتي عام 1952، بل أكثر من ذلك فقد وضع نهاية مغايرة لما موجود في نصه. النائب معارض للتناول والمعالجة، ويراها غير مناسبة للمجتمع المصري، فلماذا؟، من المحتمل أنه قرأ النص، فسيرته الذاتية تخبرنا أنه درس في السوربون، فلربما قرأها في نصها الأصلي بالفرنسية، فما الذي وجده فيه واعتبره “غير مناسب للمجتمع المصري”؟
***************
يمكن أن نبحث ونفكر في الآتي: كم مومس في الآداب العربية، والفن العربي؟
هذا طريق طويل، لماذا نبحث عما هو خارج “المومس الفاضلة”، ففيها ما يعين على الإجابة على السؤال الأهم: هل تناسب المسرحية بنصها، وكلماتها، دون حذف كلمة واحدة منها، المجتمع المصري؟
لنبدأ من الإهداء:
إلى ميشيل وزيت ليريس
من هذا، وما علاقته بمصر، والمجتمع المصري؟
يهدي سارتر مسرحيته هذه، التي كتبها ومثلت في باريس للمرة الأولى في عام 1946، إلى ليريس هذا، فمن هو؟
يساعدنا مقال نشره الباحث والكاتب، إبراهيم العريس قبل نحو عام، تحت عنوان: “سن الرجولة” لميشال ليريس: من أفريقيا إلى سيرة الذات المتواصلة، وفي عنوان فرعي نقرأ: عاش في الظل وغيَّرته مصر وحارب طواحين الهواء غاضباً.
من مقال العريس سناخذ فقرة أولى تعريفية، ثم الجزء المتعلق بمصر:
أمران على الأقل اشتهر بهما الكاتب الفرنسي ميشال ليريس في الأوساط النخبوية في بلاده: اهتمامه الكبير بالقارة الأفريقية التي وضع عنها كتابات عديدة لعل أبرزها نصه الاتهامي (للكولونيالية) “أفريقيا الشبح” من ناحية، وصداقته مع الرسام البريطاني فرانسيس بيكون التي دفعته إلى وضع أكثر من دراسة عنه كما دفعت بيكون إلى “تخليده” في لوحة مُدهشة، لكنَّ هناك بالطبع أموراً عديدة أخرى في مسار ليريس وحياته قد تكون جديرة بشُهرة لا تقل عما أمنته له أفريقيا وأمنها له بيكون. ومن هذا كونه من مؤسسي السوريالية، وأيضاً كتاباته الذاتية التي لم تتوقف أبداً، علماً بأنه حتى كتابه “الأنثروبولوجي” “أفريقيا الشبح” يمكن اعتباره أيضاً من نوع الكتابة الذاتية.
ويذكر “العريس” أن “سفرته (ليريس) إلى مصر (كانت) أواسط عام 1927 هي التي جعلته يلتقي للمرة الأولى مع الوضـع الاستعماري الذي سيثير حفيظته منذ تلك اللحظة، فتجده في رسالة يبعث بها إلى زوجته يوم 9 أيار (مايو) 1927، يعبر عن كراهيته العميقة للذهنية الكولونيالية، الكراهية التي تولدت لديه منذ رأى “الأوروبيين الكولونياليين مثل أغبياء كئيبين وضوارٍ معيبة، لهم جميعاً، وإن بأشكال مختلفة، ذهنيات ضباط صف”.
لا يكتب أحد عن ليريس، كتابة تدعي الإحاطة بالمفاصل الأساسية في حياته إلا ويذكر تأثير زيارته لمصر على مجمل نتاجه الفني والمعرفي، وعلى حياته الشخصية، ذلك أنه وقف في مصر على التأثير المدمر للاحتلال البريطاني، خاصة تأثير ضباط الجيش الصغار، القصار القيمة والقامة.
سارتر يهدي “المومس الفاضلة” للشخص الذي جعلته زيارته لمصر “يحس بقرف هائل من الثقافة الكولونيالية الأوروبية”، ما قد يخبرنا من صفحة الإهداء أن المسرحية، هي الأخرى، بدورها، تعبير عن ذلك الشعور وقد حل بأمريكا عام 1931.
ولأننا وقفنا على تفصيلة علاقة ليريس ببيكون، وشاهدنا “البورتريه” الذي رسمه له، فلربما أفادنا ذكر أن بيكون نفسه زار مصر، ونقرأ من موضوع صحفي منشور في “اليوم السابع”، للمصادفة (يوم الأحد)، تحت عنوان: “ماذا قال الفنان فرانسيس بيكون عن مصر؟.. الفن المصرى هو أعظم شيء حدث حتى الآن”، حيث إن “الفنان البريطانى فرانسيس بيكون (زار) القاهرة في ربيع عام 1951، حيث شاهد تمثال أبو الهول بالجيزة وهو ما يظهر واضحًا في أعماله حيث يتجلى تمثال أبو الهول في عدد من لوحات فرانسيس بيكون في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي.
وأشار إلى ذلك خبير الفنون حسام رشوان، الذى كتب على صفحته الخاصة على موقع التواصل الاجتماعى فيس بوك، لقد كتب الكاتب والفيلسوف الفرنسى جيل دولوز في كتابه منطق الإحساس”Logique de la Sensation”: “على مر السنين، هناك العديد من الأشياء التي تجعل من بيكون مصريًا منها غرامه بالحقول والأرض ويقدم بيكون لمصر اعتزازه دائما بأبو الهول، ويعلن حبه للنحت المصري، وقد يكون بيكون أقرب إلى مصر”.
أيُّ قارئ لمسرحية “المومس الفاضلة” قد يظن أن اعتراض النائب الدكتور أيمن محسب، ليس متعلقا بالعنوان، أو ببعض الكلمات، ولكن مما قد يرد لذهن المشاهد من مماهاة، وربما مطابقة مع بعض الشخصيات والأحداث في المسرحية!
فإذ تبدأ المسرحية- مثل كل مسرحية- بذكر شخصياتها، فقد يظن القارئ من الصفحة الثانية، أن النائب معترض على احتمال أن يجد المشاهد (في حال إن نجح كل من إلهام شاهين وسميحة أيوب من تنفيذ أمنيتهما) مماهاة بين عضو مجلس الشيوخ الأمريكي وأعضاء المجلسين (النواب والشيوخ) في مصر، ثم قد يجد في إحدى الجملة الافتتاحية التي تقولها “ليزي” (المومس) مماهاة مع سلك القضاء والشرطة في مصر، فهي تقول: إني أتمخط القضاة والشرطة من أنفي!
ولذلك فيمكن أن يكون توضيح أن المسرحية قائمة على واقعة فعلية جرت في الولايات المتحدة الأمريكية، في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، حين كان الفصل والتمييز العنصري ضد “الزنوج” لا زال في صورته القبيحة الممقوتة، كما يمكن أن يكون توضيح أن مسرحية سارتر قد وجدت رواجًا جديدًا في السنوات الخمس الأخيرة، تأثرا بالاحتجاجات الواسعة عبر العالم، منذ تفجرت وقائع تمييز عنصري في الولايات المتحدة، وبلغت ذروتها مع حادثة جورج فلويد، الرجلٌ أمريكي من أصل أفريقي الذي قتله رجال الشرطة في أثناء اعتقاله في مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا في 25 مايو 2020. التوضيحان قد يكونا كافيين لإزالة أي التباس عن المماهاة والمطابقة، وحتى عن الإسقاط الفني والسياسي والاجتماعي.
**********
يطلق سارتر اسمًا على كل شخصية من شخصيات المسرحية، لكنه لا يسمي الشخص محور الأحداث إلا بـ”الزنجي”، الموضوع الرئيسي هو التمييز العنصري، لكن هذا الفعل المدان من قبل سارتر يكشف عن واقع اجتماعي وسياسي، حيث الشرطة والقضاء والصحافة والبرلمان ورجال المال جميعا يرتكبون نفس الجريمة، لكنها لا تظهر بكل وضوح إلا حين تصطدم بـ”ليزي”، المومس التي تتمسك بقول الحقيقة مهما كانت التهديدات أو الإغراءات.
يهرع إليها “الزنجي” طالبا شهادتها، فهو مطارد، ومتهم بأنه اغتصبها، أو حاول ذلك في أثناء ركوبهم في قطار، ويرجوها:
قولي إني لم أفعل شيئا يا سيدتي. قولي ذلك للقاضي. قوليه للمشتغلين بالجريدة فربما طبعوه. قوليه يا سيدتي، قوليه! قوليه!
وتجيبه ليزي: لو أجبروني على الإدلاء بشهادتي فأنا أعدك بأن أقول لهم الحقيقة.
نعرف بعد ذلك أن هذا الزنجي كان برفقة آخر، وأن شبابا “بيضًا” صعدوا إلى القطار، وأنه أحدهم حاول اغتصاب ليزي أو تحرش بها، وأنه جرت مشاجرة بين البيض والزنجيين، وأن أحد البيض أطلق النار على أحد الزنجيين فأرداه قتيلاً، فقبض عليه، وجرى إعادة رواية الوقائع على هذا النحو: حاول الزنجيان اغتصاب سيدة بيضاء، ودافع عنها البيض، وتعدى الزنجيان عليهم، ودافع البيض عن أنفسهم، فقتل زنجيا، وفر الآخر، وهو يُطارد كمغتصب لسيدة بيضاء، وقال القاضي: فلتشهد السيدة بذلك كتابة، فيطلق سراح الأبيض، وتأتي للشهادة أمام المحكمة فينال البراءة.
غاية التعقيد الدرامي بالنسبة لسارتر تكمن في الجزء المركزي من فلسفته، فهو فيلسوف الوجودية، صاحب “الوجود والعدم”، حيث إن سؤال الإنسان الأساسي هو: “أنا صانع وجودي”، الاختيار هو مهمة الإنسان الرئيسية في الحياة، دون أن تتوقف قيمة اختياره على قبول أو رفض المجتمع حوله لخياراته تلك، الإنسان ملزم فقط تجاه نفسه، وعليه كي يصنع وجوده “الفعلي” أن يتحمل تبعات اختياره، هذا.
ليزي والزنجي وفي الخلفية ابن السيناتور
تظل ليزي رافضة لعروض المال الذي يقدمها “زبونها” الذي يرفض التصريح لها باسمه، لكنه يخبرها أنه ابن كلارك، فتسأله: أي كلارك، فيجيبها: عضو الكونجرس، ثم يكشف لها أن المتهم “الأبيض” هو ابن عمته، ويعرض عليها خمسمائة دولار، فترفض، ثم يأتي شرطيان (جون وجيمس) لحجرتها، وما زال زبونها موجودا.
ولنقرأ ما كتبه سارتر، وكيف تتحدث ليزي (المومس) مع الشرطيين:
ليزي: (تتكلم بعظمة وجفاء) بأي حق توجه إليَّ هذه الأسئلة؟ لماذا أنت هنا؟
ليزي مومس، “تبيع” المتعة للزبائن مقابل نقود، يقدرونها، بأنفسهم، كيف تخاطب رجال الشرطة، رجال القانون، رجال الدولة، هكذا!
بل تزيد:
ليزي: هل أنتما واثقان من أن من حقكما دخول بيوت الناس دون استئذان؟ ألا تخشيان أن أسبب لكما مشكلات؟
عجيب!، غريب!
بغي، البغاء، جنحة (هكذا كتب سارتر، وربما هو كذلك في نظر القانون الإميركي)، بغي وتخاطب جون وجيمس هكذا!
فلنكمل مع سارتر:
(تتغير ليزي من لحظة دخول الشرطة. تصير أكثر حزمًا وابتذالًا)
جون: وافق القاضي على إطلاق سراح توماس إذا حصل على شهادتك مكتوبة، وكتبنا الشهادة وما عليك إلا أن توقعيها، وغدا سيستجوبونك رسميًا. تعرفين القراءة؟
ليزي: تزوير من الأول إلى الآخر.
ليزي: لن أوقع.
فريد: ستسجنين ثمانية عشر شهرًا.
ليزي: أنا أفضل السجن، لكني لن أكذب.
************
يضع، سارتر، ليزي في هذا الموقف الوجودي، موقف يرى أن كل إنسان يواجهه، موقف الاختيار، وتقرير مصيره، وتحقيق وجوده “الفعلي”.
لكن “الجِراب” لا زال يحتوي الكثير.
حين يفشل الإغراء بالمال، والتهديد بالسجن، فماذا يتبقى؟
تتبقى الخبرة، الإقناع بكلام “كبير للغاية”، ويأتي السيناتور، ذات نفسه:
السيناتور: عندها كل الحق. دخلتم بيتها دون وجه حق. دون أن يكون لكم أدنى حق. تعاملونها بقسوة وتريدون أن تضطروها إلى الكلام بما يخالف ضميرها. ليست هذه هي الأخلاق الأمريكية. هل اغتصبك الزنجي يا طفلتي؟
ليزي: كلا.
متمسكة ليزي بموقفها، لكن عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، لديه ما لا يملكه غيره:
السيناتور: تصوري أن الأمة الأمريكية ظهرت أمامك فجأة، ماذا ستقول لك؟
…………..
السيناتور: إذن ستقول لك الأمة الأمريكية الكثير. يجب عليك أن تختاري..
ليزي: من كل قلبي. آه آسفة! كنت أحسب أنك أنت الذي يتكلم.
السيناتور: نعم أنا الذي أتكلم، ولكن باسم الأمة الأمريكية: ستقول لك الأمة الأمريكية. “ليزي: هذا الزنجي الذي تحمينه، ما نفعه؟
السيناتور يلقي خطاب الأمة
قد يُخيّل لقارئ ما، أو مشاهد ما (في حال أن نجح كل من إلهام شاهين وسميحة أيوب من تنفيذ أمنيتهما) أن يرى في ما سبق “إسقاطًا” ما، فيترجم في ذهنه مثل هذه الحوارات على هذا النحو:
النائب الدكتور: قيم المصريين تتحدث، تظهر أمامكم وتتحدث: ما نفع حرية الإبداع والتعبير، عليك أن تختار بين (47) وبين (67).
لكنك أنت الذي يتكلم.
: نعم، لكن باسم 47 “تلتزم الدولة بالحفاظ على الهوية الثقافية المصرية بروافدها الحضارية المتنوعة”
: وماذا عن 67: “حرية الإبداع الفنى والأدبى مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك”.
: عليك أن تختار بينهما. 67 هذه ما نفعها، أنظر إلى الأخرى.
لنكمل مع سارتر، فلم يبقى إلا القليل:
السيناتور: ليزي: هذا الزنجي الذي تحمينه، ما نفعه؟
…………
السيناتور: أما ابني الآخر “توماس”.. سليل إحدى أسراتنا العريقة..
السيناتور: أتظنين أن مدينة بأسرها يمكن أن تخطئ. مدينة بأكملها، بقساوستها وأطبائها ومحامييها وفنانيها، وعمدتها ووكلائه وجمعياتها الخيرية.
***********
يقنع السناتور ليزي فتوقع على شهادة تفيد أن الزنجيين كانا يحاولان اغتصابها، وأن توماس، كان يدافع عن شرفها، وتطارد الشرطة الزنجي الثاني (الذي كانت ليزي قد وعدته بالشهادة الحق)، ويعود ابن السناتور، إلى ليزي، وينهي المسرحية على هذا النحو:
سأسكنك في بيت على التل، على الضفة الأخرى من النهر، بيت جميل له حديقة، وستتنزهين في الحديقة، ولكني لن أصرح لك بالخروج، فأنا غيور، وسأحضر لرؤيتك ثلاث مرات في الأسبوع، عندما يحل الظلام، أيام الثلاثاء والخميس وعطلة الأسبوع. وسيكون لك خدم من الزنوج ومال أكثر مما كنت تحلمين به. ولكن يجب أن تلبي كل نزواتي، وما أكثرها!
(تنسى نفسها بين ذراعيه لبعض الوقت).
هل صحيح أني أمتعتك؟ اجيبي. صحيح؟
ليزي: (بإعياء) نعم صحيح.
فريد: (يربت على وجنتيها).
آه، كل شيء الآن عاد إلى مكانه السليم.
(صمت).
سأقول لك الآن اسمي، اسمي فريد.
(ستار)
**********
قد يكون القارئ قد توصل في نهاية هذه الكلمات إلى أن الدكتور النائب أيمن محسب محق، فمسرحية جان بول سارتر لا تناسب المجتمع المصري، فكيف لهذا المجتمع بروافده الحضارة المتنوعة، أن يقبل رؤية ذلك الفيلسوف الفرنسي، وأية رؤية هذه، ليزي تلك، من وجهة نظره كانت في لحظة اختيار فاختارت، هل هي مناسبة كنموذج، بغي، أيحق الحديث عن البغايا؟
لكن هل قصد سارتر البغي فقط، ألا نرى سواها مدانا؟
سارتر يقترح أن ليزي فشلت في تحقيق وجودها “الفعلي” حين استجابت لكلام “الأمة، المدينة، والدة توماس، منطق أيهما أنفع، أيهما أفيد، أيهما نبقي، وبماذا نتمسك، القيم، أم الحرية، الهوية، أم التنوع، وهو بذلك يقول إنها وهي تبيع “المتعة” وتتمسك بقول “الحقيقة” كانت فاضلة حقا، لكنها حين قبلت خطاب السلطة والقوة والمال، أصبحت مومسا؛ لأنها باعت “الحقيقة”، وباعت قبلها “موقفها واختيارها الوجودي”.
وهذا تعرفه ليزي، أخيرا، وقالته في النهاية: عندما يفشلون في فرض سيطرتهم على الناس بالقوة يلجؤون إلى القول الجميل والكلام المعسول.
لكنها تستسلم.
أما لماذا استسلمت؟، فهذا يطول شرحه، وهو في الغالب خارج عن طلب الإحاطة، وكما ورد في البداية: لا يمكن- بسهولة- الإحاطة بطلب الإحاطة.
لكني، أخيرا، أجازف فأقول: لا فضيلة تعلو على قول الحقيقة، ولن يمكن قولها في غياب الحرية، كامل الحرية، وحسبي أن محسب، وكذلك إلهام، قد كسبا الكثير في الأسبوع الماضي، فليرضيا بما جرى، ولننتظر.