يقنع الأثرياء أنفسهم بأنهم اكتسبوا ثروتهم من خلال الجدارة، متجاهلين المزايا -مثل التعليم والميراث والطبقة- التي ربما ساعدت في تأمينها. يبدأ الفقراء في إلقاء اللوم على أنفسهم بسبب إخفاقاتهم، حتى عندما لا يستطيعون فعل شيء يذكر لتغيير ظروفهم.
جورج مونبيوت، كاتب وناشط سياسي بريطاني.
قبل البداية:
إن أى ذكر لاسم “الولايات المتحدة” فى المقال، لا يعنى بالطبع شعب الولايات المتحدة، ولا يعنى حتى، حكومة الولايات المتحدة، لأن الأول، شعب مستغل مثل كل شعوب العالم، ولكن مع بعض المزايا الاجتماعية، والتى لا يستمتع بها حتى كل الشعب الأمريكي، وإلى أن يصل إلى سن المعاش، يعلق الأب والأم فى طاحونة العمل المضنى لتسديد فواتير السكن والسيارة والأجهزة وتعليم الأبناء.. إلخ، حتى إذا ما بلغوا سن المعاش يقولون لهم هيا استمتعوا بالحياة، بعد أن امتصوا أعمارهم وطاقات شبابهم وأصبحوا يعانون الأمراض!، وحتى أبناء الشعب يتم إرسالهم الى الحروب الاستعمارية الجائرة التى تشنها الولايات المتحدة خارج أراضيها، والتى يعود منها بعضهم فى توابيت، وتطلق لهم 21 طلقة!، أو يعودوا بعاهات مستديمة باقى حياتهم، أو يعانون من أمراض نفسية، جلعت الجنود الأمريكان العائدين من الحرب على العراق، ينتحر منهم اثنان يوميا!.
وثانيا، لا يعنى ذكر اسم “الولايات المتحدة” حتى الحكومة، كونها مكونة من مجرد موظفين حتى درجة رئيس الدولة، أليس من الملفت أن يحصل مرشح رئاسي وهو فى الرئاسة “ترامب” على أكثر من 70 مليون صوت، ويسقط فى الانتخابات!، إنهم موظفون لدى الحكام الحقيقيين للعالم، من أصحاب الشركات العابرة للقوميات، والشركات المالية العالمية، من مؤسسات الإقراض الدولية والمصارف وشركات الائتمان والتأمين.. التى تتكون قمتها من الأسر الأمريكية النافذة اقتصاديا وسياسيا. هؤلاء الحكام الحقيقيون هم المقصودون عند ذكر اسم “الولايات المتحدة”.
الكثير مازال لا يدرك أن الحرب العالمية الثالثة، قائمة منذ سنوات!
بالفعل، مازال الكثير، لا يدرك أن الحرب العالمية الثالثة، مستمرة منذ سنوات، ولكنها غير معلنة وتتخفى وراء الاسم الكودى “الحرب العالمية على الإرهاب“، الحرب التى توسع “الإرهاب” ولا تقضى عليه، فإذا ما نظرت إلى خريطة “الإرهاب” منذ عشرين عاما، وخريطته اليوم، ستجد أنه تضاعف انتشاره عدة مرات خلال هذه السنوات، أيضا، إذا ما نظرت إلى إحصائيات القتلى جراء العنف المسلح على مستوى العالم، خلال نفس الفترة، ستجد أن من قتلوا بواسطة “الحرب العالمية على الإرهاب” أضعاف من قتلوا بواسطة “الإرهاب” نفسه!، هذا بدون احتساب الأعداد المضاعفة التى تقتل بالاقتصاد جراء تطبيق السياسات الاقتصادية النيو ليبرالية البشعة. إن الدمار والقتل الذي يتم بواسطة هذه الحرب لا يعود إلى مرض نفسي لدى قادة العالم، إنه يعود كليا لأهداف اقتصادية، فالعمليتان المربحتان، الحرب وإعادة إعمار ماهدمته الحرب، هما وجهان لعملة واحدة، عملة مدرة لارباح هائلة.
تشن الولايات المتحدة الحرب العالمية “الثالثة” غير المعلنة، تحت الشعار المضلل “الحرب العالمية على الإرهاب”، هذه الحرب التى هى ليست سوى طور جديد من أطوار الحرب الاقتصادية التى شنتها الولايات المتحدة على كل دول العالم من قبل أحداث 11 سبتمبر تحت شعار “العولمة” واتفاقية “التجارة الحرة” سياتل، تحقيقا للشعار السابق، المضلل أيضا، “الديمقراطية والسوق الحرة”، والذي صعد إلى الطور الأعلى، عندما مثل الرعب الناجم عن أحداث 11 سبتمبر، فرصة ذهبية لتطبيق السياسة “النيوليبرالية” الاقتصادية، الجديدة وقتها، والمؤسسة نظريا على يد ميلتون فريدمان فى جامعة شيكاغو، منذ منتصف القرن الماضى. وهو نفس التوقيت الذي ظهرت فيه حركات التحرر الوطنى ضد الاستعمار القديم، بالأساس: إنجلترا وفرنسا، لتفسح المجال أمام استعمار جديد بقيادة الولايات المتحدة التى خرجت من الحرب العالمية الثانية، منتصرة وقوية، بعكس الدول الاستعمارية التي خرجت ضعيفة ومنهكة واحتاجت إلى مشروع مارشال ليعاد بناؤها، وفى هذا السياق يمكن فهم الموقف الأمريكي من العدوان الثلاثى على مصر فى 56، ومن ناحية أخرى، يمكننا فهم طبيعة الصراع الذي نشأ مع مصر بقيادة عبد الناصر الساعى للتنمية المستقلة، بينه وبين المشروع الأمريكي، “النيوليبرالية” الاقتصادية، تحت الشعار المضلل “الديمقراطية والسوق الحرة”.
“الحرب العالمية الثالثة” غير المعلنة، “الحرب العالمية على الإرهاب”، مصممة بشكل مبهم، حيث لا تعريف متفق عليه لـ”الإرهاب”، سوى التعريف الأمريكي الذي ينفذ على الأرض دون حاجة لموافقة دولية –غزو العراق نموذجا-، التعريف الأمريكي الذي يقول إن كل “وصول إلى نتائج سياسية عن طريق العنف” يعتبر إرهابا، والذي بالصدفة، أول ما ينطبق عليه هذا التعريف، ينطبق على الولايات المتحدة ذاتها!، الذي تتجسد حقيقته المجردة فى اعتبار أى تمرد على السياسات التى يتم فرضها قسرا على شعوب الأرض هو إرهاب، سياسات “العولمة”، “النيوليرالية” الاقتصادية، سياسات إفقار الشعوب وبؤسها وسحقها، لصالح حفنة من الأسر الأغنى فى العالم، وشبكة حلفائهم وأتباعهم وعملائهم، وبهذا تعتبر أى حركة تحرر أو استقلال وطنى، هى حركة إرهابية، وأى نضال للتحرر من الاستعمار، فلسطين مثلا، هو إرهاب. إن عدم الكشف عن هوية هذه الحرب هو من أعراض وأسباب قوتها، إنها حرب مبهمة حتى تكتسب “شرعيتها” من سلوك من يشنها، وليس وفق معيار دولى محدد متفق عليه، لذا، فهى حرب بلا حدود تتسع إلى أى منطقة جغرافية على الكرة الأرضية يستهدفها من يشنها، ويتنوع عدوها حسب تنوع أهداف من يشنها، فى السابق العدو “الشيوعية” والآن “الإسلامية”، إنها حرب عالمية ثالثة، صممت لتبقى.
الدولار كعملة احتلال!
بالرغم من كل الجهود التى بذلتها الولايات المتحدة، لتجاوز الأزمة المالية العالمية مع بداية القرن 21، إلا أن الوضع المالى الفيدرالى، العملة الأمريكية، ظل مأزوما ونشبت فى الولايات المتحدة أزمة الأوراق المالية فى بداية القرن، وأدت فى وقت قصير إلى خسارة أصول افتراضية بما قيمته بضعة تريليونات من الدولارات، فى حالات مأزومة كهذه، كان رجال المال الامريكيون أمام مخرج وحيد، ألا وهو، شن حرب واسعة النطاق، لتوسيع الطلب المفتعل على الدولار، بواسطة تلبية احتياجات الحرب، ومن بعدها تلبية احتياجات إعادة إعمار ما دمرته الحرب ذاتها، وهو ما وفرته أحداث 11 سبتمبر، التى كانت تعنى واقعيا بداية حرب عالمية ثالثة شاملة تشن تحت غطاء مكافحة الإرهاب.
بعد أن أصبح سلاح “المال” هو سلاح شديد الفاعلية فى يد الولايات المتحدة، أصبحت تستخدم الفوضى والاضطرابات التي تتداعى جراء تطبيق سياسات “النيوليبرالية” الاقتصادية الساحقة لشعوب الأرض، وبواسطة ذراعها العسكرى “الحرب العالمية على الإرهاب”، أصبحت تستخدم هذه الفوضى لقمع أي محاولات ترمى إلى طرح عملات مستقرة غير مرتبطة بالدولار، فى أى بلد كان، مثلا، كانت العملة المحلية مستقرة فى العراق، وسوريا وليبيا.. وكان القذافي يستعد لطرح الدينار الذهبى، وطرحه للتداول، حتى إنه تخلى عن الدولار الأمريكي فى بيع النفط، وحينما كان يستعد لإطلاق الدينار الذهبى نقل بلده إلى التعامل باليورو حصرا، مما أثار غضب نظام الاحتياطى الفيدرالى، فبدأت عمليات القصف الجوى على ليبيا، وبدأت زعزعة استقرارها، – قبل الربيع العربى بسنوات-، إن طرح الدينار الذهبى الليبيى للتداول، حظي بتأييد قي من جانب المدير التنفيذى لصندوق النقد الدولي وقتها “دومنيك ستراوس”، وهو شخصية تميزت بالجرأة فى التعبير عن فكرة كان مفادها، أن الدولار الأمريكي (غير المعادل بالذهب) استنفذ رصيده كعملة عالمية، وفضلا عن ذلك، دعم دومنيك إنشاء عملة احتياطية جديدة غير الدولار، وكان يريد إصلاح النظام المالى العالمى، فكانت النتيجة أن تم اعتقال دومنيك فى مايو عام 2011، بتهة سخيفة، كما ورد فى الفيلم السينمائي المحدودWelcome.To.New.York.2014.، تم اعتقاله بالتزامن مع القصف الجوى المكثف على ليبيا، أما الأسباب الحقيقية للقبض عليه فمعروفة طبعا، أن دومنيك كان قد تطاول على احتكار النظام الاحتياطى الفيدرالى لإصدار النقود الورقية، فكان من المتوقع أن يدفع ثمن موقفه هذا.. وفيما يتعلق بزعزعة الاستقرار وخلق اضطراب وفوضى فى البلدان غير المرغوب فيها، تتحقق زعزعة الاستقرار من خلال الأعمال الإرهابية والحروب الأهلية والحروب الهجينة أو بافتعال اضطرابات داخلية لزعزعة اقتصاد البلد.
“العقوبات الاقتصادية” و”القروض”، كمورد هائل لاينضب!
سلاحان تستخدمهما الولايات المتحدة، لفرض سياسات إفقار الشعوب وبؤسهم، سلاح عسكري تحت شعار “الحرب العالمية على الإرهاب”، والسلاح الآخر الذي لا يقل عنه شراسة، سلاح العقوبات الاقتصادية والقروض، بل ويفوقه قسوة، حيث أصبح من المعروف أن من يموتون بالاقتصاد أضعاف من يموتون بالرصاص، أو بتعبير الزعيم غاندى “يثير النزاع المسلح بين الأمم الرعب فى نفوسنا، لكن الحرب الاقتصادية ليست أفضل على الإطلاق من النزاع المسلح، الأمر أشبه بعملية جراحية، فالحرب الاقتصادية عذاب استنزافي، لا تقل أضراره فظاعة عن تلك التي ترصد فى الثقافة الحربية بمعناها الحرفي، ونحن لا نكترث بشأن تلك الحروب إذ إننا ألفنا عواقبها القاتلة.. من الصائب أن تنشأ حركات مناهضة للحرب، وأنا أصلي لنجاح مثل تلك الحركات، لكنى لا أستطيع أن أضع حدا للتخوف القارص من فشلها فى استئصال الطمع البشرى: أصل البلاء كله “. م. ك. غاندى، “اللاعنف: أقوى الأسلحة”، 1926.
بعد 11 سبتمبر تحقق لواشنطن القدرة للسيطرة على كتلة مالية ضخمة متداولة خارج الولايات المتحدة، إذ بات يكفي أن تعلن واشنطن أن هذه الجهة أو تلك متورطة فى تمويل الإرهاب، وهو ما مارسته على كثير من البلدان التى وصفتها أمريكا باللاديمقراطية واتهمتها بدعم الإرهاب، كي تجمد أو تحتجز حساباتها المصرفية، سواء كانت دولة أو مصرف أو شركة أو حتى أشخاص من الأثرياء”، وهي حصيلة تقدر بتريليونات الدولارات.
حقيقة ما يسمى بالإصلاحات غير الشعبية!
فى مقال سابق لي تحت عنوان “إعلام “الصدمة”، وتجربتى مع معهد واشنطن!”، أوضحت دور مؤسسات ومراكز الأبحاث والصحافة والإعلام فى الترويج للسياسات المجرمة للولايات المتحدة، بواسطة ذراعها التنفيذى المزدوج، صندوق النقد والبنك، الدوليان، وأوردت في هذا المقال نموذج كندا، كمثال ملفت على سياسات صندوق النقد الدولي لفرض الليبرالية الجديدة الاقتصادية، عن طريق تزييف “أزمة وهمية” من أجل تمرير سياسته المجحفة بالشعوب، ودور عملاء “أعلام الصدمة” فى الترويج لهذه الأزمة المفتعلة.
وكان قد سرب شريط مصور إلى الصحافة فى سبتمر 1995، يظهر فيه جون سنوبلن وزير التربية فى أونتاريو (فى كندا) وهو يقول فى اجتماع مغلق لموظفى الدولة أنه قبل تخفيض الإنفاق على التعليم وغير ذلك من “الإصلاحات غير الشعبية”، كان ينبغى خلق حالة من الهلع بتسريب معلومات أكثر تشاؤما، وأطلق على هذه السياسة تسمية “خلق أزمة مفيدة”!.
فى ظل القصف والتدمير الذي تقوم به قوات “الحرب العالمية على الإرهاب”، والقتل والتدمير والتفجيرات التى يقوم بها “الإرهابيون”، تتخلق حالة من “الصدمة والرعب”، تجعل الناس مهتمون بمجرد أن يستمروا فى البقاء أحياء، ولا يلتفتوا لما عدا ذلك من تطبيق لسياسات تسلبهم أسباب أن يحيوا بكرامة، سياسات “النيوليبرالية” الاقتصادية، التى تطبق عليهم بالحديد والنار، تحت القصف العنيف لسلاحها العسكرى “الحرب العالمية على الإرهاب”. ينجح ذلك، فيصبح الناس مرتبكين وقلقين وخانعين ينتظرون الأوامر، ويتقاعس الناس ويصبحوا أكثر تبعية وخوفا. عندها يصبح الناس بمعنى آخر فى حالة صدمة، لذا، عندما تؤدي الصدمات الاقتصادية إلى ارتفاع جنوني للأسعار وانخفاض كبير للأجور، تبقى الشوارع هادئة والميادين فارغة. لا مظاهرات تطالب بالغذاء، أو اضطرابات تطالب بالحقوق، وتتكيف العائلات بصمت، وتفوت وجبات، وتغذى أطفالها بطعام منعدم القيمة لقمع الجوع، ويستيقظون قبل طلوع الفجر كي يسيروا ساعات إلى عملهم، موفرين بذلك أجرة الباص. ينجح ذلك، أيضا، فى إزاحة الطبقة المتوسطة، “جزع المجتمع”، نحو الأسفل. وليس مثال العراق ببعيد، والمثال الأحدث أفغانستان، وبينهما سوريا واليمن وليبيا، وقبلهم وبعدهم السودان، والآن لبنان، أما مصر، “رمانة الميزان”، والعامل المشترك الوحيد بين المشروعين الكبيرين للولايات المتحدة، “الشرق الأوسط الكبير، الجديد” و”القرن الأفريقى الكبير، أفريكانو”، مؤجلة للتحلية.
إن السياسات المخططة والممنهجة التي تؤدي إلى خفض المستوى المعيشي، لقطاع عريض من الشعب، خاصة فى مستويات التعليم والتغذية والعلاج، هي وسيلة فعالة للتخلص التدريجي من جزء من هذا الشعب!. العبقري فى هذه السياسات المخططة والممنهجة، أنها لا تقع تحت طائلة قوانين تجريم جرائم الإبادة الجماعية!، إنها حقا الجريمة الرائعة!.
متى تنتهى الحرب العالمية الثالثة، غير المعلنة؟!
“إن العالم لا ينتهى عند صندوق النقد، بل يمكن إيجاد حياة جميلة بعده”.
نستور كريشنر، رئيس الارجنتين الاسبق.
“أنا أستقيل اليوم من فريق صندوق النقد الدولي بعد أكثر من 12 عاما من الخدمة، وبعد ألف يوم من العمل الميدانى فى تأمين المساعدات الرسمية؛ عمل تمثل في الإتجار بأدويتكم وبحقائبكم المملوءة بالخدع، وإرسالها للحكومات والشعوب في أمريكا اللاتينية والكاريبي وإفريقيا. تعتبر الاستقالة بالنسبة لي اليوم تحررا لا يقدر بثمن، لأننى أخطو بها خطوتى الكبيرة الأولى إلى المكان الذي يسعنى فيه أن أحلم بغسل يدي مما يشكل، في نظري، دماء ملايين الفقراء والجياع.. لقد كثرت الدماء إلى حد أنها باتت أنهرا. وهي تجف أيضا وتلتصق بي. أشعر أحيانا أنه ليس هناك ما يكفي من صابون فى العالم لتنظيفي من الأشياء التى فعلتها باسمكم.. برنامج صندوق النقد الدولي كله وسيلة تعذيب جماعية، تخضع لتأثيرها الحكومات والشعوب المتألمة، فتركع أمامنا منهزمة محطمة ومذعورة، تتوسل لفتة رحمة وشهامة منا. لكننا نضحك بقسوة بوجهها، ويستمر التعذيب”.
من رسالة منشورة لـ”دايفد بودو”، موظف سابق بصندوق النقد الدولى.
استقال بودو فى العام 1988، وتوفي عام 2001.
كما هو معتاد، عندما يضع الحاكم، ضمان استمرار حكمه، في مواجهة مع مصالح شعبة، دائما ما ينحاز للخيار الأول. وبالرغم من ادعاء منظري المحافظين الجدد، وأتباعهم من الأكاديميين والصحفيين، من أن القرن العشرين قد انتهى مع “انتصار حاسم” للسوق الحرة على أشكال الاشتراكية كلها، إلا أنه أصبحت اعداد متزايدة من الشعوب المقهورة بفعل السوق الحرة، أصبحت تفهم أن الشيوعية المستبدة هي التي فشلت في الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية وأجزاء من آسيا، كما فشلت “الاشتراكية المزيفة” في بعض دول الشرق الأوسط. إلا أن الاشتراكية الديمقراطية التي تعني ألا يحكم الحزب الاشتراكي وحده، وإنما تتم إدارة الأعمال بطريقة ديمقراطية، قد نجحت في أماكن عدة من العالم.
من آلندي إلى تاريخ الاقتصاد المزدهر التعاوني فى مدينة إميليا رومانيا فى إيطاليا. هذا هو المزيج بين الاشتراكية والديمقراطية الذي كان يود آلندي تطبيقه فى تشيلى. كان جورباتشوف يملك نظرة شبيهة، ليحول الاتحاد السوفيتي إلى منارة اشتراكية على الطريقة الاسكندنافية. أما ميثاق الحرية فى جنوب أفريقيا، الذي حرك النضال طوال فترة التحرير فكان نسخة من هذه الطريقة الثالثة للحكم، والتي تقضي بالتخلص من الشيوعية، وبخلق سوق تتعايش مع حالة تأميم المصارف والمناجم، ويستفاد من هذا المدخول من أجل بناء أحياء ومدارس لائقة، فتتحقق الديمقراطية بالتالي على الصعيدين الاجتماعى والاقتصادي. وأن يعهد للعمال الذين أسسوا “تضامن” بولندا، أن يناضلوا ليس ضد الاشتراكية بل معها، ما يتيح للعمال إدارة أعمالهم وبلدهم بديمقراطية.
تتجلى مخاوف واشنطن من فوز آلندى فى تشيلى فى رسالة بعث بها كيسنجر إلى نيكسون عام 1970: “إن نموذج حكومة ماركسية منتخبة ناجحة فى التشيلى سيكون لها أثر على مناطق أخرى من العالم، ولاسيما على إيطاليا. إن انتشار هذه الموجة فى مناطق مختلفة من العالم سيؤثر فى التوازن العالمي، وموقعنا فيه”. بتعبير آخر ينبغي التخلص من آلندى قبل انتشار هذا النوع الثالث للديمقراطية.
اعتبر شافيز فى فنزويلا التعاونيات أولوية اقتصادية، ما منحها الحق فى رفض عقود حكومية، وبحلول 2006 كان قد أصبح فى البلد مائة ألف لجنة توظف سبعمائة ألف عامل، عدد كبير من هذه التعاونيات هو أجزاء من البنية التحتية للدولة، بدلا من خصخصتها. فى نفس الوقت الذي حصلت فيه شركة “هاليبرتون” الأمريكية الخاصة على عقود بـعشرين مليار دولار في العراق وحده، ورفضت توظيف عمال محليين من العراق أو الخليج، وعبرت عن امتنانها لدافعي الضرائب الأمريكيين الذين مولوا الميزانية الفيدرالية فى الحرب على العراق، بأن نقلت المقر الرئيسي لشركتها إلى دبي مع الضرائب والأرباح كلها. (لابد هنا وأن تزول أي دهشة من موقف الإمارات من ثورات الربيع العربي، ورعايتها السخية للثورات المضادة).
إن التشاركية الاندماجية بين الحكومات المحلية الوطنية، هو أهم عامل في القدرة على مواجهة النيولبرالية المتوحشة، والإفلات من قبضة واشنطن ومؤسساتها المالية، إن التشاركية الاقتصادية تشكل البديل الممتاز عن الخضوع لشروط صندوق النقد المدمرة، حيث توفر كل بلد ما هو أفضل من إنتاجها مقابل ما هي بأمس الحاجة إليه، وبغض النظر عن أسعار السوق العالمية.
أمثلة مبهجة وملهمة، من أمريكا اللاتينية أيضا!
توفر بوليفيا الغاز بأسعار مستقرة ومنخفضة، وتقدم فنزويلا نفطا مدعوما إلى البلدان الأكثر فقرا، وتتشارك الخبرات فى تنمية الاحتياطات؛ وترسل كوبا آلاف الأطباء لتقديم الرعاية الصحية المجانية فى القارة كلها، ويدربون طلاب طب فى بلدان أخرى. إن المكسب الرئيسي لهذا البديل، هو أنه يوفر نظام تبادل، تقرر فيه البلدان السلع أو الخدمات التي يمكن أن تتبادلها مع ما تقدمه، بدلا من السماح لتجار من نيويورك أو شيكاغو أو لندن، بتحديد الأسعار لها. وهذا يجعل التجارة أكثر مناعة لتلاعب أسعار السوق.
لذا فقد جاءت النتائج دراماتيكية.. فالبرازيل التي لطالما كانت تدين لواشنطن بمبالغ طائلة، باتت ترفض عقد صفقة جديدة مع صندوق النقد. أما نيكاراجوا فباتت تفاوض إمكانية مغادرتها الصندوق، كما انسحبت فنزويلا منه ومن البنك الدولي معا. والأرجنتين التي لطالما كانت التلميذ المطيع لواشنطن، قد ركبت القطار أيضا، قال رئيسها نستور كريشنر فى خطابه عام 2007، إن المدنيين الأجانب قد أخبروه بأن “عليه أن يوقع اتفاقية مع الصندوق الدولي من أجل أن يتمكن من دفع الديون”. فأجابهم الرئيس بأن “نحن دولة سيادية، سوف نسدد ديوننا، ولكن ليس هناك من قوة على الأرض تجعلنا نجدد اتفاقنا مع الصندوق.”. (مع العلم أن معظم هذه القروض قد وقعت أثناء حكم الطغمة العسكرية الفاشية الفاسدة المنقلبة)، (لابد وأنك قد لاحظت عداء الولايات المتحدة الأمريكية لهذه الدول بالذات، ومحاولتها المسعورة لقلب نظم الحكم المنتخبة فيها).
بناءً عليه، لم يعد صندوق النقد يتمتع بهذه السلطة المطلقة على هذه “المنطقة المحررة” من العالم التي كان يتمتع بها فى الثمانيات والتسعينات. حيث شكلت أمريكا اللاتينية فى عام 2005 80% من محفظة قروض الصندوق، وباتت القارة تمثل 1% من محفظة الصندوق فى عام 2007، وهذا تغيير مذهل خلال عامين فقط، عندها قال الرئيس كريشنر إن “العالم لا ينتهي عند صندوق النقد، بل يمكن إيجاد حياة جميلة بعده”.