مع اشتداد حدة المعارك في إثيوبيا واقتراب قوات التيغراي وحلفائهم من العاصمة أديس أبابا، بات خيار الانفصال والتقسيم مطروحا بقوة. ولا أدل على ذلك من تصريح عمدة أديس أبابا والعضو البارز في حزب الرخاء الحاكم، أدانيش أبيبي بأن حزبها لن يعارض انفصال تيغراي وأن “تيغراي حرة في السير في طريقها والانفصال”.
جاء ذلك في مقابلة مع محطة التليفزيون الوطني في 15 نوفمبر 2021. تقول السيدة أبيبي : “إذا كان شعب تيغراي يريد الانفصال عن إثيوبيا وأن يصبح دولة مستقلة فهناك مادة في الدستور (شارك التيغراي أنفسهم في صياغتها) تمنحهم حق الانفصال. يمكنهم تفعيل ذلك. هم أحرار في الذهاب ولن نعارض ذلك”.
وأضافت عمدة أديس أبابا والعضو التنفيذي الكبير في حزب الرخاء الحاكم في إثيوبيا: “لقد انسحبوا من حزب الرخاء الحاكم، يمكنهم بالمثل الابتعاد عن إثيوبيا إذا رغبوا في ذلك. يمكنهم بسهولة تفعيل البند الدستوري الخاص بحق الانفصال، اليوم. من يعارض ذلك؟ لن نفعل ذلك. إنهم أحرار في طلب الانفصال”.
على أية حال ليست أثيوبيا وحدها التي سوف تعاني مخاطر الانقسام والتجزئة، إذ ربما نشهد خمسة دول جديدة في منطقة القرن الأفريقي خلال الفترة حتى عام 2030.
ربما يتحدث البعض عن الموجة الثانية من تقسيم أفريقيا لنشهد ظهور خمسين دولة أخرى.
أصل البلاء: الميراث الاستعماري
ترجع أصول الحكاية إلى زمن التكالب الاستعماري على أفريقيا حينما تنافست القوى الأوروبية على تقسيم الثروة والنفوذ في القارة البكر فيما بينها. كانت البداية الرسمية عام 1884-1885 في مؤتمر برلين أو ما عرف باسم مؤتمر الكونغو الذي دعا إليه المستشار الألماني آنذاك أوتو فون بسمارك. حاولت بريطانيا تأسيس مملكة كبرى تمتد من القاهرة في الشمال وحتى الكيب في جنوب أفريقيا.
أما فرنسا فقد كانت تسعى إلى وصل مستعمراتها في أفريقيا الغربية والاستوائية بالبر السواحيلي في شرق أفريقيا. كما وضعت ألمانيا أقدامها على جنوب غرب أفريقيا وتنزانيا وبعض أجزاء من أثيوبيا، بينما حصلت إيطاليا على جزء من أراضي الصومال واكتفت اسبانيا بالحصول على مستعمرة غينيا الاستوائية. والعجيب أن الكونغو نفسها تركت ولاية خاصة لملك بلجيكا ليوبولد الثاني ثم أدارتها من بعده الحكومة البلجيكية. كانت السياسة الاستعمارية واضحة: توحيد المجزأ وتقسيم الموحد في أفريقيا.
على الرغم من السنوات الطويلة وتحقيق المستعمرات الأفريقية لاستقلالها فإن مؤتمر برلين لا يزال يلقي بظلاله على القارة الغنية التي تمتلك قدرات هائلة من خلال مواردها الطبيعية والبشرية الغنية. ثمة اتجاهات خطيرة تنذر بتفكيك القارة الأفريقية وتجزئتها إلى أكثر من مئة دولة. ليست أزمة التيغراي إلا مثالاً واحدا على ذلك. ربما يشهد القرن الأفريقي, الذي شهد من قبل مولد دولتين هما: ارتريا عام 1994 وجنوب السودان عام 2011 – مولد دول جديدة. أليست جمهورية صوماليلاند التي أعلنت استقلالها من جانب واحد عام 1991 تمثل مولوداً حقيقياً يمارس صلاحيته السيادية بشكل كامل على الرغم من أن المجتمع الدولي يرفض منحها شهادة الميلاد التي تجعلها عضواً كامل الأهلية في المجتمع الدولي؟
هل تصبح أمبازونيا مولودا أفريقيا جديدا؟
يبدو أن الرئيس بول بيا (88) عاما مُصرا على أن يمدد فترة حكمه البالغة 39 عاما لمدة سبع سنوات أخرى من خلال الترويج لإعادة انتخابه عام 2025. يعني بحسبه بسيطة يكون عمر الرجل في نهاية ولايته الحالية 92 عاما. إنه أحد أعضاء نادي العواجيز في أفريقيا لا يسبقه في عضوية النادي سوى حاكم غينيا الاستوائية ثيودورو نيغويما الذي يتولى الحكم منذ عام 1979.
بول بيا غير مكترث بأزمة الشمال الأنجلوفوني الذي أعلن الانفصاليون فيه عن إقامة دولة أمبازونيا ودشنوا لها صفحة على الفيس بوك. الطريف أن بول بيا يقضي معظم وقته في سويسرا ولا يجتمع بمجلس وزرائه إلا نادرا منذ عام 2015. يدير الرجل حملته الانتخابية عبر التويتر ووسائط التواصل الاجتماعي وقد تحدث إلى الشباب ووعدهم بتحديث الكاميرون والاهتمام بالتعليم. ترجع جذور الحركة الانفصالية إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى حيث تم وضع مستعمرة الكاميرون الألمانية تحت الانتداب البريطاني والفرنسي.
وبعد الاستقلال حدد استفتاء عام 1961 مستقبل الكاميرون البريطانية، فقد قررت المنطقة الشمالية الانضمام إلى نيجيريا، بينما أصبحت المنطقة الجنوبية جزءًا من جمهورية الكاميرون – المستعمرة الفرنسية السابقة. بيد أن سكان المناطق الناطقة بالإنجليزية يشتكون من التهميش مقارنة بالأغلبية الناطقة بالفرنسية.
وقد تفاقمت هذه التوترات في نهاية المطاف وتحولت إلى صراع عنيف أطلق عليه اسم أزمة الناطقين بالإنجليزية، والذي أسفر عن مقتل أكثر من ثلاثة آلاف شخص. ووجهت اتهامات لكل من الجيش والانفصاليين بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان.
في عام 2017 ، أعلنت المقاطعتان اللتان تتحدثان الإنجليزية في الغرب بشكل رمزي استقلالهما من خلال تدشين “جمهورية أمبازونيا”. ويبدو أن الحركة الأمبازونية جادة في سعيها للاستقلال – ويرجع ذلك أساسًا إلى أن هوية سكانها الوطنية باتت على المحك.
صعود الخطاب الانفصالي في أفريقيا
ليست الكاميرون لوحدها التي تواجه مطالب انفصالية. لا تزال زامبيا تعاني من تبعات محاولة انفصال منطقة الزامبيزي عام 1999 و التي يطلق عليها اسم قطاع كابريفي.
وفي كينيا تم تقديم طلب إلى المحكمة العليا لكي تحسم مسألة الجدل حول أحقية المقاطعة الغربية في الحصول على حق الاستفتاء من أجل تقرير المصير. ومن المعروف أن هذه المقاطعة كانت جزءا من الأراضي الأوغندية قبل ضمها إلى محمية شرق أفريقيا البريطانية عام 1962.
لن يكون مؤيدو الانفصال في كينيا وحدهم: بل يسايرون الاتجاه العام الذي يهدد سيادة الدول الموروثة عن العهد الاستعماري. من الدعوات المطالبة بحق تقرير المصير في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة في السودان إلى المطالبات بالانفصال في الصومال والدعم المتزايد لتقرير المصير في المناطق الناطقة بالإنجليزية في الكاميرون، تتزايد حركات تقرير المصير في أفريقيا. لكن الدفاع عن مبدأ الحدود الموروثة عن العهد الاستعماري- يسلط الضوء على مدى صعوبة الانفصال، بغض النظر عن مدى الدعم الذي تتمتع به حركة الاستقلال. كينيا وغيرها من الدول الأفريقية لن تكون مختلفة. لسبب واحد، هناك القليل من الإجماع حول الشكل الذي ستبدو عليه كينيا المنقسمة: هل ستشكل كل الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة، أم أنها مجرد مناطق في غرب كينيا، أم أنها يمكن أن تستلزم تقسيم كينيا إلى أربع أو خمس دول منفصلة؟ من ناحية أخرى، فإن أي خطط للانفصال ستواجه عقبات قانونية وسياسية هائلة.
على مر التاريخ، كان أرخبيل زنجبار تحت حكم قوى مختلفة. كانت البرتغال أول قوة استعمارية تمارس نفوذها، تليها سلطنة عمان وبريطانيا. لبعض الوقت، كانت زنجبار أيضًا سلطنة مستقلة. بعد استقلالها عن بريطانيا، حدثت ثورة في عام 1964. وبعد بضعة أشهر اندمجت زنجبار مع تنجانيقا لتشكيل جمهورية تنزانيا المتحدة. ومع ذلك، لا تزال زنجبار تتمتع بالحكم الذاتي جزئيًا. الأرخبيل لديه حكومته وبرلمانه الاقليمي. لا تزال فكرة القومية راسخة بقوة في مجتمعها وسياستها. تسعى بعض الأحزاب بنشاط لتحقيق هدف الاستقلال.
ومن جهة أخرى، يمكن للمصالح الاقتصادية أيضًا أن تلعب دورًا عندما يتعلق الأمر بالرغبة في الانفصال عن الدولة. في معظم الحالات، يتعلق الأمر بالوصول إلى الموارد، والقدرة على التحكم في ذلك الوصول، وتوزيع الأرباح. كابيندا مثال جيد على ذلك. تنتمي المقاطعة إلى أنغولا، ولكنها جيب مفصول جغرافيًا عن بقية البلاد بمصب نهر الكونغو ، الذي ينتمي إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية.
كانت كابيندا محمية برتغالية حتى ضمتها البرتغال إلى أنغولا. وتسهم كابيندا بنحو 60٪ من إنتاج النفط في أنغولا. يغضب الانفصاليون بشكل أساسي من حقيقة تهميشهم على الرغم من أن الحكومة المركزية تجني منها أرباحًا كبيرة. منذ بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ازدادت حدة الاشتباكات الدموية بين الانفصاليين والقوات الحكومية.
وختاما فإن التاريخ الاستعماري يشكل باستمرار عاملاً مهماً لإضفاء الشرعية على هذه المطالب الانفصالية في أفريقيا. خلال السنوات القليلة الماضية تمكن متمردو الطوارق من السيطرة على شمال مالي وإعلان دولة أزواد المستقلة، كما أن جبهة تحرير اقليم كابيندا قد ضاعفت من حدة هجماتها المسلحة ضد القوات الحكومية في إنغولا. و تقوم رابطة التعبئة و الدعوة الإسلامية في زنجبار بحملات من أجل المطالبة باستفتاء على فصل الجزيرة عن تنزانيا، كما دعت بوكوحرام إلى عودة حكم الخلافة الإسلامية مرة أخرى في شمال نيجيريا. إن النزعات الانفصالية التي ترفع خطاباً قومياً شوفونيا كانت ولا تزال أحد ملامح السياسة الأفريقية في مرحلة ما بعد الاستعمار. في فترة القدوم الأول لأفريقيا بعد الاستقلال مباشرة شهدنا انفصال اقليم كاتنجا بعد أيام من إعلان استقلال جمهورية الكونغو (1960-1963) تبع ذلك حرب بيافرا الكارثية في نيجيريا التي حصدت أرواح نحو مليون شخص خلال الفترة من 1967 – 1970.
وعلى الرغم من مرور نحو خمسين عاماً على هذين الحدثين فإن روح الانفصال لا تزال سارية في كاتنجا وبيافرا حيث تعمل العديد من الجماعات من أجل تحقيق حلم الاستقلال و بناء دولية وطنية مستقلة. لقد كان المبدأ الحاكم للعلاقات الدولية الأفريقية في مرحلة ما بعد الاستعمار هو قدسية الحدود الموروثة عن العهد الاستعماري وعدم تغييرها بالقوة أبدا، وإلا فسيكون هناك حالة من الحرب والفوضى.
في الآونة الأخيرة بدأت القاعدة تفقد الإجماع. فهل نشهد تفكيكا جديدا لأفريقيا إذا انقسمت إثيوبيا إلى دول مختلفة؟ وهل يشجع ذلك- بفعل العدوى -الخطاب الانفصالي في كثير من أنحاء القارة؟