محمد علي باشا 1769 – 1849م لم يؤسس دولةً حديثةً خلال سنوات حكمه ما بين 1805 – 1848م، لكنه أعاد تأسيس نموذج الدولة القديمة المملوكية العثمانية، بأدوات بعضها قديم ينتمي للتفكير المملوكي العثماني الذي عرفته مصر عبر القرون الثلاثة من الغزو العثماني في مطلع القرن السادس عشر وحتى صعود محمد علي في مطلع القرن الثامن عشر، وبعضها حديث تم استجلابه من أوروبا، سواء باستقدام الخبرات الأوروبية إلى مصر، أو بابتعاث الطلاب من مصر للدراسة في مدارس ومعاهد وجامعات أوروبا.
الفرق بينه وبين من سبقوه من الولاة العثمانيين والبكوات المماليك يكمن في مقدار ما يملك من مطامح وذكاء ودهاء وغريزة سياسية عبقرية مكنته من قراءة وفهم منطق القوة وتحولات السياسة سواء في مصر أو في الإقليم أو في أوروبا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم في مقدار وعيه الذاتي بأن السياسة هي -في نهاية المطاف- ما يملكه كل طرف من أدوات وإمكانات، ثم في إدراكه أن الأدوات والإمكانات مكانها أوروبا على وجه التحديد، فلم يقصر في أن يولي بصره صوب أوروبا، مع إدراكه المتزايد أنها الخطر الأكبر ضد بلوغه مطامحه وغاياته، ثم في تفوقه الشخصي على من سبقوه في الاستعداد للخداع والغدر -وإن استدعى الأمر- الذبح والقتل، وقد شاركه في كل هذه الخصائص نجله الأكبر وقرينه في التأسيس القائد إبراهيم باشا 1789 – 1848 م، وقد مات الأبُ مجنونا فاقدا للعقل يهذي بما لا يدري، ومات الابنُ مسلولا تنزف رئته الدم، وكانت خاتمتهما دراما إنسانية فاجعة، حملت ومازالت تحمل أشباح اللعنة، التي كانت ومازالت تطوف فوق رؤوس كل من حكم مصر حتى الربع الأول من القرن الحادي والعشرين.
استعار واقتبس واستورد محمد علي الكثير من أشكال الدولة الحديثة بالذات في العسكرية وعلومها ومدارسها ومصانعها ومستشفياتها وكذلك في الزراعة والري، ولكنه حافظ على جوهر الدولة القديمة من عدة زوايا :
1 – أن الحكم للقوة.
2 – والقوة لمن يغلب.
3- وأن من يحكم مصر يملكها.
4 – ومن يملكها له حرية التصرف.
5 -وحرية التصرف مطلقة لا حدود لها.
6 – فالحاكم ليست على سلطته قيود.
7 – وإذا ظهرت القيود سعى للتخلص منها .
8 – في الغالب ينجح في التخلص من القيود المحلية.
9 – ويعجز أمام القيود المفروضة من قوى أجنبية.
10 – ثم يخرج من السلطة وربما من الحياة بخاتمة غير حسنة.
هذا هو التراث السياسي الذي وجده محمد علي، والذي حافظ عليه، والذي ورثه عنه كل من جاءوا بعده، سواء من سلالته ومن صلبه، أو من جيشه ومؤسسته الأولى.
– إذا كان التحديث معناه الاستعارة من أوروبا، فيمكن القول إن مصر كانت ومازالت فيها تحديث وتسعى للتحديث، حتى قبل وصول محمد علي، فقد كان بكوات المماليك في النصف الثاني من القرن الثامن عشر على اتصال قوي بأوروبا، وبالذات فرنسا وبريطانيا، حيث كانت للدولتين مطامع في مصر، وحيث كانت للدولتين مساع لكسب واجتذاب هذا الفريق أو ذاك من بكوات المماليك، وقد تنافسوا -فيما بينهم- في التجارة مع أوروبا وكذلك في استجلاب السلاح منها، ولم ينقطع هذا التحديث حتى يومنا هذا، لكنه يظل تحديثا في الأدوات وليس تحديثا في جوهر الدولة ذاتها.
– الدولة ذاتها كانت ومازالت حريصة على تراثها القديم ومخلصة له وأمينة عليه، فرغم الانتقال -عبر أكثر من قرتين- من باشاوية إلى خديوية إلى سلطنة إلى مملكة إلى جمهورية ثم إلى جمهورية جديدة، رغم كل هذه التحولات، ورغم انتقال الحكم من متمصرين أتراك وشركس وألبان وأوروبيين إلى مصريين منحدرين من أصلاب فلاحين مصريين أباءً عن أجداد، رغم ذلك كله مازال جوهر الدولة محتفظا بخصائصها الأصيلة حيث :
1 – الحكم للقوة وليس للشعب .
2 – والقوة لمن يغلب وليست لمن يفوز .
3 – ومصر يملكها من يحكمها وليس من يتوارثها أبا عن جد.
4 – والبرلمانات أعجز من أن تراجع الحاكم أو تحاسبه أو تسائله.
5 – والسلطة التنفيذية تبسط جناحيها على سلطتي التشريع والقضاء.
6 – وتعديل الدساتير يضمن للحكام البقاء في السلطة والاستحواذ عليها كاملة دون شريك.
7 – واكتسبت السلطة -عبر قرنين من الزمن- مهارة الالتفاف حول القيود.
8 – وقد ساعدت الأشكال الحديثة المستعارة من أوروبا في إحكام السيطرة على الشعب.
9- كما ساعدت وتساعد التناقضات والتوازنات الدولية في الإفلات من أي ضغوط أجنبية.
10- وأصبح كل حاكم يشبه كل من سبقوه لا فرق بين باشا وخديو وسلطان وملك ورئيس جمهورية قديمة أو جديدة.
– بكل يقين، مصر فيها أشياء حديثة: أفكار ومؤسسات وحتى عادات وتقاليد وأنماط حياة، لكن من مطلع القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين كانت مصر تنفرد بذلك دون كل من حولها في العالمين العربي والإسلامي ومعهما أفريقيا، لكنها الآن ليست في موضع انفراد وتفرد وتستطيع أي دولة خليجية تتوافر لها الأموال أن تسبق مصر في ذلك السبيل من سبل التحديث، ومصر الآن مسبوقة من كثير من الدول في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
– السبيل الوحيد لتحديث مصر هو الانتقال من الخديوية إلى الدولة الحديثة. فالخديوية رغم شكلها الأوروبي ليست أكثر من دولة شرقية استبدادية قديمة. والدولة الحديثة -هي في جوهرها- دولة مواطنيها، المواطنون فيها هم ملاكها، ومن ثم فلهم كل حقوق الملاك مثلما عليهم كل مسؤوليات وواجبات الملاك. في الدولة الحديثة المواطن مالك، والحاكم وكيل عن المالك، ومن ثم فالمواطن له الحق -من خلال الدستور والقانون والمؤسسات- في اختيار الحاكم وتكليفه ومحاسبته ومراجعته ومساءلته ومحاكمته وعزله عندما تقتضي المصلحة العامة عزله دون اضطرابات من ثورات تؤول إلى انقلابات.
– الخديوية التي يرمز لها الخديو إسماعيل في سنوات حكمه 1863 – 1879 م ليست مجرد لقب، وليست مجرد عنوان على حقبة، وليست مجرد إشارة إلى شخص، الخديوية هي الوسط الحسابي لمسيرة التحديث، وهي عنوان على الدولة المصرية بما هي خليط من شكل أوروبي واستبداد شرقي أصيل وعميق ومتجذر، فالدولة المصرية تتزين بكافة أشكال ومظاهر الدولة الحديثة من دساتير وقوانين انتخابات وبرلمانات وقضاء وصحافة وإعلام وجامعات ومدارس وأحزاب ومجتمع مدني إلى آخره، لكن رغم ذلك وسواء كنا في مطلع القرن التاسع عشر أو في مطلع القرن الحادي والعشرين فإن جوهر الدولة المصرية كان ومازال جوهرا خديوي الطابع سواء قبل عهد الخديو إسماعيل أو بعده، إسراف في الشكل الأوروبي مع إخلاص للاستبداد الشرقي.
– في مذكرات الأرمني نوبار باشا 1825 – 1899 م صورة جيدة لمعنى الخديوية -كعقلية سياسية وكطريقة في الحكم وكأسلوب عمل للحاكم المصري وكتراث ساسي وتقليد سياسي للدولة المصرية – وتكتسب شهادة نوبار قيمتها التاريخية من كون الرجل خدم في بلاط محمد علي وسلالته، مع محمد علي ذاته، ثم مع القائد إبراهيم، ثم عباس حلمي الأول، ثم مع سعيد، ثم مع إسماعيل، ثم مع توفيق، ثم مع عباس حلمي الثاني، وقد ترأس الوزارة ثلاث مرات، الأولى في آخر عهد إسماعيل، والثانية في عهد توفيق، والثالثة في عهد عباس حلمي الثاني، وقد بلغ مجموع سنوات خدمته مع محمد علي وسلالته من 1844 م إلى 1895 م، يعني من أعقاب انكسار مشروع محمد علي ودخوله الخريف النهائي إلى ما بعد دخول الاحتلال الإنجليزي وقبضته على مصائر البلاد.
– عندما تولى الخديو إسماعيل حكم البلاد 1863 م كان نوبار باشا وزير خارجيته -ناظر خارجيته بمصطلحات ذاك الزمان- وحظي نوبار بدرجة من القرب الشديد من شخص الخديو بصورة تمكنه من قراءة عقليته وطرق تفكيره وشخصيته وأساليبه في الحكم، وهنا أوجز وأختصر من ص 314 وما بعدها، بعض الملامح لشخص الخديو كحاكم، وهي في الوقت ذاته بعض الملامح للخديوية كنظرية في الحكم وكخبرة عملية وكجزء من التراث السياسي للدولة المصرية ثم – في نهاية المطاف- كتعبير عن التحديث الشكلي الذي كان ومازال دون المساس بعصب الاستبداد وجذوره:
1- ينقل نوبار عن الحاكم السابق وهو سعيد شهادته في الحاكم اللاحق وهو إسماعيل بأن سعيد كان ينظر إلى إسماعيل نظرته إلى بقال – محترف تجارة البقالة – وكان يقول لمن حوله: سوف تفتقدونني عندما يكون -يقصد إسماعيل المشبه بالبقال- واليا عليكم.
2 – في مساء ذات اليوم الذي تولى فيه السلطة قال له الخديو إسماعيل إنه -منذ عهد سلفه سعيد- وهو يفكر في تقسيم حديقة الأزبكية وبيعها. كانت الأزبكية -وهنا أنقل من مذكرات نوبار- حديقة كبيرة في القاهرة تصطف على جانبيها الأشجار الرائعة، كانت جموع غفيرة من الشعب تتجمع في هذه الحديقة مساء كل يوم، لتتنزه، وتشرب القهوة، أو البوظة، على أنغام الموسيقى الشرقية، التي كانت تحت سماء القاهرة بنجومها تعكس الأجواء الشرقية في مشهد حالم يأخذ بالألباب بعيدا عن الواقع، وكلها أمور لا يستطيع أن يفهمها سوى هؤلاء الذين يحسون هذا البهاء وهذا السحر.
ويضيف نوبار: بدت لي فكرة قطع الأشجار، لتحل محلها العمائر والمنازل القبيحة من أجل جمع المال أمرا غريبا لم يكن من الممكن توقعه.
ويقول نوبار: لم أرد على إسماعيل بشيء، لكنني لم أستطع أن أمنع نفسي من التساؤل: هل من حق الحاكم أن يقسم ويعرض للبيع حديقة عامة ومكانا للترويح عن شعب بأكمله؟
ويتساءل نوبار: أليس من حق أصحاب المنازل التي تحيط بالحديقة أن يشكوا ويطالبوا بالتعويضات ضد هذا الإجراء الذي من شأنه أن يضيع قيمة منازلهم التي تطل على الحديقة؟
3 – كانت الفكرة الثانية التي تحدث فيها الخديو إسماعيل مساء توليه السلطة كانت استرداد أراضي الدولة من الموظفين الذين تم منحهم هذه الأراضي -بصفة رسمية- بديلا عن المعاش النقدي، واكتشف نوبار أن الهدف من هذا القرار هو وضع يد الخديو على الجيد من هذه الأراضي لتكون من أملاكه الخاصة، ونقل ملكية الأراضي غير الجيدة إلى ملكية الدولة. يقول نوبار: لقد وسع الخديو من ممتلكاته الخاصة على حساب الموظفين.
يعقب نوبار على هذه الوقائع بالقول: هذه التفاصيل والأحداث الصغيرة قد تبدو لكثيرين غير ذات أهمية، لكنها المؤشر الذي يمزج بين الرجال وشخصياتهم وتساعد على فهم تكوينهم، لذا فإن هذه الأحداث ظلت محفورة في ذاكرتي بشكل أعمق من غيرها التي من الممكن أن تبدو ذات أهمية أكبر نسبيا.
محمد علي باشا كان مملوكا مع المماليك يستميلهم بالخداع الذي يتقنونه ويضربهم بالذراع الذي يحترفونه، مثلما كان عثمانيا يخضع لهم كما تعودوا الخضوع من غيره ويخرج عليهم بقدر ما تسمح له مناوراته مع القوى الأوروبية التي تنتظر اقتسام الإمبراطورية المريضة، مثلما كان في الوقت ذاته أوروبياٍ يعرف أن المستقبل مع هذه القارة التي كانت صاخبة وعاصفة في القرن التاسع عشر.
ومن هذا المثلث جاءت خصائص التحديث الذي أدخله: أدوات أوروبية لإعادة إنتاج وإحياء نموذج الاستبداد المملوكي – العثماني في شكل حديث وصل ذروته في الخديوية الأولى مع حفيده إسماعيل، ولا تزال تقاليد الخديوية تطبع الدولة المصرية بكثير من خصائصها المتجددة.
السؤال الآن: هل الخديوية لها مستقبل؟
هل من الوارد أن تنتج الدولة المصرية طبعة جديدة من الخديوية؟
الجواب في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله .